يرى معظمنا أنّ تغيير سلوك الأفراد يكون بتغيير حوافزهم.
على سبيل المثال، بعد أن نشرت بحثاً ونصيحة عن التعاون في شركات الخدمات المهنية، كتب لي عدد لا بأس به من الأشخاص ليسألوا أسئلة مثل: "لعل هذا ينطبق على حالات الشراكة كما هو الأمر في شركات الاستشارات والمحاماة؟ ماذا عن شركتي حيث لا يملك الموظفون الشركة ولا يمكنهم تغيير القواعد؟". هناك قلق لدى الكثير من الناس في صناعات متنوعة كالعقارات التجارية والصيدلة وشركات التقنية الحيوية الناشئة والصناديق الوقائية والمدارس العامة حول كيفية تحويل الثقافة التنافسية المدفوعة بالأداء إلى ثقافة تعاونية عندما لا يكون لديهم سيطرة على المكافآت المالية ولا تأثير على قرارات الترقية.
للنظر في هذه المسألة، انتقيت موقعاً جديداً لإجراء بحثي، فيه نظام مكافآت مقيد جداً، والسلم الوظيفي فيه مقيد كذلك. وتتمثل الفكرة في أننا ببحثنا عن الطريقة التي تُمكّن القائد من تعزيز التعاون على امتداد الوحدات المنعزلة من دون تغيير نظام الترقيات أو التعويضات لربما نستطيع التوصل لدروس يمكن توظيفها في شركات يواجه الناس فيها أيضاً تقييدات في قدرتهم على تغيير الهياكل التنظيمية.
التعاون في المجالات المقيّدة
يُعتبر معهد دانا فاربر (Dana-Farber Cancer Institute) لبحوث السرطان في مدينة بوسطن الأميركية من المؤسسات الرائدة في طب الأطفال والبالغين. وهو مجال يُعد التعاون فيه ضرورة وصعب في آن معاً. فكما هو الحال في المعرفة التجارية، كذلك تتغير المعرفة العلمية بسرعة بالشكل الذي يفرض على الأطباء الباحثين في دانا فاربر التطور بسرعة من أطباء عامين إلى أخصائيين يركزون على فرع شديد التخصص ضمن مجال معالجة السرطان والكشف عنه. لكن التعامل مع السرطان يتطلب جهوداً متعددة الاختصاصات تمتد من بيولوجيا الأمراض إلى مراقبة السكان. كما أنّ جهود البحث لا يمكنها أن تركز على تطبيق ما تتوصل له الدراسات العميقة والمتخصصة من اكتشافات: بل يجب أن تضيف إلى برنامج أوسع وأكثر تكاملاً.
تكمن الحيثية الصعبة في عمل دانا فاربر (وهو التحدي الذي تتشاركه معها الكثير من الشركات) في أنّ التعاون لا يحدث تلقائياً عند الكثير من الأفراد الأفضل أداء، بل ويبدو أيضاً أنّ النظام شبه موجه ضد العمل الجماعي. لدى الموظفين الأعلى أداء في الشركة استقلالية هائلة فيما يتعلق بقرارات العمل الأساسية. فكما يحتفظ مهندسو البرمجيات بالبرنامج في رؤوسهم وكما يتحكم شريك مؤسسة المحاماة بالعلاقات المهمة مع العملاء كذلك يُشكل علماء دانا فاربر تهديداً لا يستهان به إن قرروا في لحظة ما الخروج من الباب مع حقوق ملكيتهم الفكرية ومهاراتهم وقدرتهم على الفوز بالمنح. وجه الشبه مع الأعمال واضح إذاً: الأعلى أداء مهمون لكنهم قد يكونون أيضاً نقطة الضعف في الميزة التنافسية والابتكارية للشركة.
تبدو المفارقة بهذا الشكل بالنسبة للقادة: بينما يعملون على تعزيز التعاون الذكي، عليهم أيضاً المحافظة على منهج دانا فاربر لريادة الأعمال في التعامل مع البحوث. وقد واجهتهم صعوبات جمة. بما أنّ الباحثين المعنيين كانوا أعضاء في هيئة هارفارد، لم يستطع قادة دانا فاربر التأثير في معايير الترقية، ولم يكن بالإمكان استخدام التعويضات لمكافأتهم بشكل مختلف.
كيف إذاً يطلقون التعاون من دون تغيير نظام الترقية والرواتب؟ تكمن المشكلة في أنّ التعاون يتطلب استثماراً. يُظهر تحليلي أنّ "التعاون الذكي" (التعاون الذي يستهدف الفرص الصحيحة) يعود بالفائدة دائماً لكن فقط بعد أن يقضي الأفراد وقتاً في تطوير العلاقات والإجراءات الأساسية. يبدأ الكثير من الأشخاص والشركات بالاستثمار لكنهم يتوقفون قبل أن يحصلوا على أي عائد. لا تتوقع عوائد إيجابية ما لم تستمر في بذل الجهد على مدى زمني طويل كفاية. هذه هي الطريقة التي يدمج بها التعاون كطريقة عمل طبيعية. لكن كيف تبلغ نقطة التحول؟
إطلاق التعاون
الأمر الأول الذي عليك تحقيقه لتعزيز التعاون هو جذب انتباه الناس ومنحهم الثقة للمجازفة والقيام باستثمار مبدئي. عادة ما تنخفض التكلفة مع بدء الأفراد اختبار التعاون وتطوير علاقات قائمة على الثقة تجعل العملية سلسة، لكن عليك اتخاذ خطوات تقلل من هذه التكاليف بأسرع ما يمكن. إنّ هذه الخطوات نفسها تعجّل بدء تدفق العوائد. وستؤدي هذه الخطوات أيضاً لتقريب موعد استرجاع ما تم استثماره وجعل التعاون استثماراً أذكى عند الانتقال إلى الموجة التالية من الأشخاص. إليك هنا بعض الخطوات التي عليك تذكرها:
اختر معاركك بعناية. احرص على تركيز جهودك على تعزيز التعاون في المواقع الأكثر احتياجاً له: كالمشاكل الصعبة التي تتطلب مدخلات من العديد من الخبراء المتخصصين الذين لا يستطيعون مواجهة المشكلة من دون إدماج معرفتهم. إن كنت تعمل في بيئة شديدة الفردية، اختر "ائتلاف الراغبين"، الأشخاص الذين يميلون اختيارياً للتعاون ولا يتذمرون لزملائهم من بعض المنغصات التي تنشأ بينما تبني الزخم للتعاون.
اقنع بالدليل الكمي. سخّر البيانات الداخلية لمبيعاتك لتظهر للناس أنّ التعاون الذكي ليس مجرد شيء يجب أن يكون موجوداً، بل هو ميزة استراتيجية أساسية للحصول على حصة سوقية. مثلاً، توضح الشرائط في المخطط أدناه كم يزيد موظفو المبيعات العائد من كل عميل عندما يعمل الأفراد خارج حدودهم لبيع منتجات متعددة. لكن الدوائر، التي توضح كيف أنّ قلة من العملاء فقط يحصلون على كامل المنتج، تبيّن أن هناك الكثير من الإمكانات التي من الممكن استغلالها.
ادفع نحو خفض تكاليف التعاون. كن وسيطاً في العلاقات المهمة لمساعدة الأفراد على بناء شبكات العلاقات بسرعة. استخدم أدوات بسيطة متوفرة لديك لجعل التعاون أسلس. مثلاً، احرص على جعل برامج مثل سكايب ودروب بوكس أو أي برامج أخرى تعمل مع أنظمة تقنيات المعلومات بحيث يمكن للزملاء في الفريق التواصل ومشاركة الملفات. اقرن بين خبراء التقنية وأي موظف يحتاج لدعم في هذه الأدوات: تزيد العلاقة الشخصية فرص الاستيعاب مقارنة بالاتكال على جعل الأفراد يتعلّمون وحدهم أو يعتمدون على الخط الساخن للدعم التقني. في الكثير من المشاريع الرئيسة، وضع معهد دانا فاربر قادة شركاء يتحملون الأعباء الإدارية بينما تولى الباحثون المتفوقون مهمة القيادة من الناحية الفكرية. خفف من أعباء الأهداف القصيرة المدى كي لا يبدو الوقت الذي يتم قضاؤه في التعاون إضاعة للوقت.
استغل روح المنافسة. روّج للتقدم الذي يتحقق من التعاون لإثارة بعض التنافسية البنّاءة لدى الزملاء. صمم منافسات ووزع بعض الجوائز الصغيرة في شكل خطوات يتخذها الناس في الاتجاه الصحيح، مثل العمل على تسليم خطة مبيعات مشتركة بدل الخطط المنفردة. تستخدم بعض الشركات الآن تقنية تصنيع الألعاب (gamifications) لجعل الموظفين يتفاعلون في أعمال تعاونية تتراوح ما بين الالتقاء بزملاء جدد وإتمام أهداف الأعمال المخصصة للفريق.
اجعل المنافع تتدفق أسرع. بما أنّ العوائد المالية للتعاون تأخذ وقتاً كي تظهر، احرص على مكافأة الإسهامات عندما يكون الأفراد في المراحل الأولى من تعلم أنظمة تعاونية جديدة. قيّم معهد دانا فاربر جهود العلماء في ضمّ خبراء من اختصاصات أخرى بالإضافة إلى مساهماتهم في مشاريع لباحثين آخرين – ومن ثم اعترفت بإنجازهم في مرحلة لاحقة عندما تحولت هذه إلى إسهامات أو منح ناجحة. سهِّل على الأفراد الإعلان عن أسماء من يساعدونهم، واحتف بمن قدم المساعدة ومن أعلن عنها. دع الأفراد يكافئون بعضهم البعض بشكل مباشر. مثلاً: وفّر كميات من بطاقات الهدايا الصغيرة التي يمكن للموظفين الوصول لها لتوجيه الشكر لبعضهم البعض على جهودهم التعاونية.
نجحمعهد دانا فاربر في النهاية في بناء 10 مراكز بحوث تجمع الباحثين الرائدين في العالم لمصارعة السرطان بأساليب متعددة التخصصات كان من شبه المستحيل تقريباً تحقيقها لو عمل كل متخصص منكفئاً في صومعته. باستطاعة قادة الأعمال أيضاً الاستفادة من قوة التعاون باتخاذ بعض الخطوات للإبقاء على الزخم إلى أن تصبح عوائد التعاون أعلى من تكاليفه بشكل مستمر.