يسيطر عدد محدود من الشركات على مسار تطوير الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن؛ إذ تهيمن شركات مثل أوبن أيه آي وألفابت وأمازون وميتا ومايكروسوفت على هذا المجال بفضل امتلاكها موارد حاسوبية هائلة ومجموعات ضخمة من قواعد البيانات الخاصة بكل منها وفرق تقنية عالية التأهيل، إلى جانب ممارساتها القائمة على استخراج البيانات واعتمادها على عمالة منخفضة التكلفة وقدرتها على توفير رؤوس أموال تتيح لها مواصلة التجريب ونشر الحلول بوتيرة متسارعة. حتى الشركات المنافسة التي تطبق نموذج المصدر المفتوح، مثل ديب سيك، تعتمد بدورها على قدرة حاسوبية ضخمة وأنظمة تدريب مؤسسية متكاملة.
تسفر هذه الهيمنة عن عدد من المشكلات، مثل انتهاك الخصوصية واعتماد استراتيجيات عمل تقلص التكاليف على حساب العاملين والأعباء البيئية الناجمة عن مراكز البيانات، فضلاً عن الانحيازات الواضحة في النماذج التي تعزز التمييز في مجالات التوظيف والرعاية الصحية وتقييم الجدارة الائتمانية والعمل الشرطي وغيرها. وغالباً ما تقع تبعات هذه المشكلات على الفئات التي لطالما تعرضت للتهميش؛ إذ لا تكتفي خوارزميات الذكاء الاصطناعي الغامضة بتجاوز آليات الرقابة الديمقراطية والشفافية، بل تصغي لأصوات معينة على حساب أخرى وتركز أنظارها على من تراه جديراً بالاهتمام وتتعمد إقصاء من لا ينسجم مع منطقها.
ومع ذلك، عندما تفكر الشركات في استخدام هذه التكنولوجيا، قد يبدو أن الخيارات المتاحة أمامها محدودة، فتبدو مضطرة لقبول هذه التنازلات.
بيد أن ثمة نموذجاً مختلفاً آخذ في التشكل دون صخب إعلامي، لكنه يحمل في طياته إمكانات حقيقية؛ إذ تقدم المؤسسات التعاونية المعنية بالذكاء الاصطناعي بديلاً واعداً، وهي مؤسسات تطور تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي أو تشرف عليها انطلاقاً من المبادئ التعاونية. وقد أثبتت حركة المؤسسات التعاونية بما تمتلكه من حضور عالمي وتنوع في النماذج نجاحها في مجالات تمتد من الخدمات المصرفية والزراعة إلى التأمين والتصنيع. وتمتاز هذه المؤسسات التعاونية بأن أعضاءها هم من يمتلكونها ويديرونها، وهي تدير منذ زمن بعيد بنى تحتية تخدم الصالح العام.
قدم بعض المؤسسات التعاونية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي أمثلة مبكرة على كيفية توجيه هذه التكنولوجيا نحو استخدامات تضمن خضوعها للمساءلة وارتباطها باحتياجات المجتمع. وتتمثل أغلبية هذه النماذج في مؤسسات تعاونية زراعية كبرى توظف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في عملياتها اليومية، مثل برنامج دروناي التابع لشركة إيفكو التعاونية (لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التسميد) وشركة فريزلاند كامبينا التعاونية (لمراقبة جودة الألبان) وشركة فونتيرا التعاونية (لتحليلات إنتاج الحليب). وعلى المؤسسات التعاونية أن تتحرك وتنظم صفوفها بسرعة لمواجهة هيمنة الذكاء الاصطناعي، وإلا فستظل على هامش التحولات السياسية والتكنولوجية الكبرى.
لا شك في أن ثمة إمكانات حقيقية على هذا الصعيد، سواء بالنسبة للمؤسسات التعاونية القائمة أو للشركات التي قد ترغب في إقامة شراكات معها؛ فالانخفاض الذي بلغ 589 مليار دولار في القيمة السوقية لشركة إنفيديا نتيجة إطلاق منصة ديب سيك يبين إلى أي مدى يمكن للابتكار المفتوح المصدر أن يعيد تشكيل المشهد بسرعة. لكن كي تتحول مختبرات الذكاء الاصطناعي التعاونية إلى فاعل حقيقي يتجاوز إعلان النوايا فهي بحاجة إلى بنية تحتية عامة وشراكات مدنية ودعم جاد ملموس.
بصفتنا باحثين، يتركز اهتمامنا على كيفية انتقال قيادات المؤسسات التعاونية من مرحلة الشعارات الرنانة إلى التعامل الواقعي مع التحديات المادية للذكاء الاصطناعي، خاصة غياب الملكية الفعلية للبنية التحتية التي تشغله، وعلى الطرق التي يمكن من خلالها للشركات أن تعقد شراكات فعالة مع هذه المبادرات؛ فالمؤسسات التعاونية قادرة على إثبات أن العمل الجماعي، لا التكنولوجيا بعينها، هو السبيل الحقيقي لتجاوز كثير من التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. وفي إطار هذا التوجه، نعمل حالياً على تنظيم أول مؤتمر دولي في العالم حول المؤسسات التعاونية، سيعقد في إسطنبول، كما نطلق دورة تعليمية إلكترونية جديدة في جامعة ذا نيو سكول لاستكشاف الجوانب العملية والآفاق السياسية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التعاوني. ومن خلال عملنا، توصلنا إلى قناعة بأن المؤسسات التعاونية تستطيع أن تؤدي دوراً فاعلاً ليس فقط في تحديد ما ينبغي للذكاء الاصطناعي أن يفعله، بل وأيضاً في تحديد من يملك سلطة اتخاذ هذا القرار، وأن ثمة 5 طرق محورية يمكن من خلالها أن تسهم في رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي.
دور المؤسسات التعاونية في تشكيل المستقبل
لطالما أدارت المؤسسات التعاونية أنظمة معقدة لتحقيق الصالح العام، بدءاً من إدخال الكهرباء إلى المناطق الريفية وصولاً إلى مشاريع الطاقة المتجددة، وأثبتت بذلك قدرتها على تقديم بديل فاعل للهيمنة الاحتكارية؛ إذ توفر المؤسسات التعاونية فرص عمل لنحو 280 مليون شخص على مستوى العالم، أي ما يعادل 10% من القوى العاملة العالمية. وتستند هذه المؤسسات عموماً إلى 7 مبادئ أساسية تجسد القيم الديمقراطية في الممارسة الاقتصادية: العضوية الطوعية والإدارة الديمقراطية ومشاركة الأعضاء والاستقلالية والتعليم والتعاون والاهتمام بالمجتمع. وتعود هذه المبادئ إلى 28 نساجاً من إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر، أسسوا جمعية روتشدايل إيكويتابل بايونيرز، وافتتحوا متجراً صغيراً لبيع الشوفان والدقيق والزبدة، وكانوا بذلك النواة الأولى لحركة تعاونية عالمية. وفي مقال "المؤسسة التعاونية المعنية بالذكاء الاصطناعي"، تبين ميليسا تيراس مع زملائها أن تطبيق مبادئ البنية التحتية التعاونية على الذكاء الاصطناعي بصدق يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر عدلاً.
فالعضوية الطوعية والمفتوحة من شأنها أن توسع دائرة أصحاب المصلحة الذين يسهمون بفعالية في تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه.
قد تشكل السيطرة الديمقراطية للأعضاء تحدياً مباشراً للنمط المركزي لحوكمة قطاع الذكاء الاصطناعي، من خلال تمكين المستخدمين الذين ستتأثر حياتهم المهنية بهذه التكنولوجيا من المشاركة في القرارات المتعلقة بتصميم النظام ووظائفه والبيانات التي يجمعها ويخزنها والجهات التي يمكن منحها حق الوصول إليها.
تضمن الإسهامات الاقتصادية للأعضاء إعادة استثمار الأرباح في النظام نفسه، بدلاً من سحبها لصالح المستثمرين.
تتيح الاستقلالية والاعتماد على الذات للمؤسسات التعاونية القدرة على خدمة مجتمعاتها دون أي تدخل خارجي.
يمثل التعليم والتدريب وتوفير المعلومات حجر الزاوية في العمل التعاوني؛ فأنظمة الذكاء الاصطناعي الغامضة ترسخ أوجه التفاوت وتجرد المجتمعات من القدرة على التصدي للقرارات الخوارزمية. وغالباً ما تقتصر الشفافية في مجال الذكاء الاصطناعي على جعل الأنظمة مفهومة من الناحية التقنية، لكن المساءلة الحقيقية تتطلب تزويد الأفراد بالمعرفة التي تتيح لهم تحدي هذه الأنظمة وتوجيه مسارها.
يسهم التعاون بين المؤسسات التعاونية في تعزيز التقدم المشترك؛ فمثلما تدعم المؤسسات التعاونية التقليدية إحداها الأخرى من خلال الشراكة، يمكن للمؤسسات التعاونية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي أن تنشئ طبقات بيانات تشاركية، بما يضمن بقاء الموارد ملكاً جماعياً لا أن تتحول إلى أصول خاصة. وعلى الرغم من تركيز معظم أطر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي على مفاهيم الإنصاف والشفافية والمساءلة، فغالباً ما تتجاهل مبدأ التضامن، وهي الفجوة التي يمكن أن تسدها المؤسسات التعاونية في هذا المجال.
وأخيراً، يقتضي مبدأ "الاهتمام بالمجتمع" أن يستند تصميم الذكاء الاصطناعي على خدمة الصالح العام. وهذا يستلزم مواءمة عملية التطوير مع أهداف الاستدامة والخدمة العامة وجودة الحياة، بدلاً من الاقتصار على منفعة الأعضاء أو عائدات المستثمرين.
تقارن تيراس مع زملائها في تقرير ريد-كوأوب البحثي المبادئ التعاونية السبعة مع أطر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مثل التي قدمها فلوريدي وكاولز ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية واليونسكو. ولا يقتصر عملهم على النقد، بل يقدمون نموذجاً فعلياً، أي نظام تشغيل لبناء الذكاء الاصطناعي بطريقة مغايرة.
5 مبادرات تطويرية لتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي
من خلال الالتزام بهذه المبادئ، تسهم المؤسسات التعاونية في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي بخمس طرق رئيسية: نشر مفهوم حوكمة البيانات على نطاق واسع، وربط البحث العلمي بالمجتمع المدني وصناع السياسات، والنهوض بالتعليم، وتطوير نماذج بديلة للملكية، وتكييف الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف التعاونية.
نشر مفهوم حوكمة البيانات على نطاق واسع.
لا تزال المؤسسات التعاونية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي صغيرة وناشئة، بيد أن النماذج القائمة منها تفتح الباب أمام تصور جديد للبنية التحتية للبيانات وأساليب حوكمتها، وتبين كيفية استخدامها في تغيير أسس التحكم بالبيانات وسبل الوصول إليها. ميداتا هي مؤسسة تعاونية غير ربحية سويسرية متخصصة في بيانات الصحة، تمنح المواطنين زمام السيطرة الكاملة على معلوماتهم الطبية؛ إذ تتيح للأعضاء فتح حسابات بيانات آمنة ومشفرة، وتمنح الباحثين حق الوصول الانتقائي إلى بياناتهم الصحية الشخصية، في ظل إدارة ديمقراطية عبر الجمعية العمومية. وتعتمد ميداتا على بنية تحتية مفتوحة المصدر طورها المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ وجامعة بيرن للعلوم التطبيقية، وتدعم تأسيس مؤسسات تعاونية شقيقة على المستويين الإقليمي أو الوطني، بما يتيح إجراء أبحاث تتسم بالعدالة والشفافية والتنسيق الدولي، دون التفريط في سيطرة الأفراد على بياناتهم.
من المؤسسات التعاونية البيانية البارزة الأخرى بيسكاداتا، وهي مؤسسة تعاونية مكسيكية للبيانات تساعد صغار الصيادين على إدارة سجلات صيدهم والاستفادة منها، وسالوس كووب، وهي مؤسسة تعاونية إسبانية للمواطنين تهتم ببيانات الصحة وتدافع عن حوكمة البيانات التشاركية.
تعزز مراكز البيانات التعاونية هذه الجهود من خلال توفير بنية تحتية تديرها المؤسسات الأعضاء وتخضع لإشرافها، مثلما هي الحال في مراكز البيانات التابعة للمؤسسة التعاونية غاد إي جي، التي تمثل العمود الفقري لتكنولوجيا المعلومات في قطاع البنوك التعاونية في ألمانيا منذ أمد طويل. أما في الولايات المتحدة فتستفيد المؤسسات التعاونية الكهربائية من الذكاء الاصطناعي في إدارة الشبكات والصيانة التنبؤية، بما يسهم في تحسين موثوقية الخدمات دون الحاجة إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي جديدة.
ربط البحث العلمي بالمجتمع المدني.
تدور معظم النقاشات الحاسمة حول الذكاء الاصطناعي في أروقة النخب، مثل المؤتمرات الأكاديمية ومراكز الدراسات والمختبرات الممولة من رأس المال المغامر. بيد أن القرارات الناتجة عنها تلقي بظلالها على تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العادي. ومن هنا تنفرد الحركة التعاونية بقدرتها على إدخال هذه النقاشات في الحيز الاجتماعي لتجعل من الذكاء الاصطناعي موضوعاً مطروحاً في الاجتماعات العامة والمراكز المجتمعية وجمعيات المواطنين؛ فبإمكان المؤسسات التعاونية أن تشكل مسار الابتكار بما يتوافق مع حاجات المجتمع لا مع منطق السوق.
تشير المبادرات الأولى مجدداً إلى الإمكانات الواعدة لهذه الأفكار. انظر مثلاً شبكة كود فور أفريكا التي تطور تكنولوجيات مدنية في مختلف دول القارة، أو معهد الاقتصاد الرقمي التعاوني، وهو مركز بحثي تابع لجامعة ذا نيو سكول يركز عموماً على المؤسسات التعاونية الرقمية ونظم الحوكمة في العالم الرقمي، أو معهد آبتي في بنغالور الذي ينصب اهتمامه على البيانات العادلة والحقوق الرقمية؛ فجميعها مؤسسات بدأت فعلياً في تطبيق هذه الأفكار على أرض الواقع.
النهوض بالتعليم.
لا يقتصر سد الفجوة المعرفية في مجال الذكاء الاصطناعي على الترجمة فحسب، بل يتعلق بالسلطة أيضاً. ويمكن لمؤسسة التحالف التعاوني الدولي (ذا إنترناشونال كوأوبراتيف ألاينس)، وهي الهيئة الرائدة التي تمثل نحو مليار شخص منخرطين في المؤسسات التعاونية حول العالم، أن تتصدر الجهود العالمية في توظيف الذكاء الاصطناعي لأغراض التعليم التعاوني؛ إذ تستطيع المؤسسات التعاونية تطوير منصات تعليمية ذكية تعتمد على الصوت وتدعم عدة لغات لتقديم تدريب مهني لأعضائها.
تطوير نماذج بديلة للملكية.
تؤثر الملكية في توجيه المسار؛ فقد بدأت أوبن أيه آي باعتبارها جهة غير ربحية تخدم البشرية، لكنها ما لبثت أن تبنت نموذج أرباح مقيدة بسقف معين لجذب رأس المال المغامر في خطوة تعكس تحولاً أيديولوجياً بقدر ما تستند إلى مبررات قانونية. وعلى النقيض من ذلك، تعتمد المؤسسات التعاونية على احتياطات غير قابلة للتوزيع ونظام حوكمة ديمقراطي، ما يحافظ على انسجامها مع أهدافها طويلة الأمد. وبمقدور المؤسسات التعاونية التي تتمتع بوفرة في الموارد، مثل شركة إيفكو (بإيرادات سنوية بلغت 5.5 مليار دولار عام 2023) وشركة أمول التعاونية (9.5 مليار دولار)، أن تختبر استخدامات الذكاء الاصطناعي في الزراعة ونظم الغذاء؛ وبمقدور رابو بنك (14 مليار دولار) وكريدي أغريكول (46 مليار دولار) ومؤسسة ديجاردان التعاونية (17 مليار دولار)، أن تتصدر مشهد استخدام الذكاء الاصطناعي الأخلاقي في مجالات مثل تقييم الجدارة الائتمانية واكتشاف الاحتيال وخدمة الأعضاء، كما شرعت أمول في استخدام إعلانات رقمية مولدة بالذكاء الاصطناعي على منصاتها الرقمية.
تكييف الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف التعاونية.
ليست تطبيقات الذكاء الاصطناعي كلها قابلة للمواءمة مع النماذج التعاونية، لكن حين تتقاطع مع المؤسسات التعاونية الرقمية أو موارد البيانات المشتركة أو أدوات الحوكمة المجتمعية، تبرز فرص حقيقية لتطوير نماذج مستحدثة تنسجم مع القيم التعاونية. ويتمثل التحدي الحقيقي في إعادة تصميم عملية تطوير الذكاء الاصطناعي من جذورها، لا الاكتفاء بمجرد "تحسين استخدامه". وهذا يتطلب الاستثمار في البنى التحتية والأطر القانونية والأشكال التنظيمية التي تضمن الخضوع للمساءلة منذ البداية. أما الاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي الصادرة عن كبرى شركات التكنولوجيا فلا يمثل خياراً استراتيجياً، بل يرسخ التبعية. ينبغي أن تمتلك المؤسسات التعاونية منظوماتها المستقلة لتطوير الذكاء الاصطناعي واختباره وتطبيقه. وبالنسبة للمؤسسات التعاونية التي يمتلكها العاملون ويديرونها بأنفسهم، وكبرى المؤسسات التعاونية الاستهلاكية على حد سواء، يوفر الذكاء الاصطناعي فرصة لإعادة دمج الأعضاء في المنظومة، لا بوصفهم مستخدمين سلبيين، بل فاعلين مشاركين في عملية التطوير.
على الرغم من الترويج للذكاء الاصطناعي باعتباره وسيلة لتحرير العاملين من المهام الروتينية، فإنه غالباً ما يعيد هيكلة الأدوار بطريقة تقوض القدرة على التفاوض الجماعي وتؤدي إلى عرقلة زيادة الأجور، خاصة لمن يعملون في تصنيف البيانات ومراقبة المحتوى في دول جنوب العالم. ماذا لو لم يكن هؤلاء مجرد متعاقدين، بل شركاء فعليين في الأنظمة التي يسهمون في بنائها؟ انطلقت مؤخراً تعاونية غاماير أفريكان تيك ووركرز كوأوبريتف لعمال التكنولوجيا الأفارقة في كينيا، وتطمح إلى تقديم بديل حقيقي للنموذج الاستغلالي الذي يهيمن على جزء كبير من الاقتصاد الرقمي. فمن خلال إلغاء دور الوسطاء ومنح العاملين وصولاً مباشراً إلى العملاء العالميين، تضمن التعاونية أجوراً عادلة ومدفوعات في الوقت المناسب وملكية مشتركة للمنصة نفسها، كما أن نظامها الإداري الديمقراطي والدعم المهني الذي توفره للعاملين من شبكات علاقات ومصادر للصحة النفسية، يشكل دليلاً على قدرة عمال التكنولوجيا على التحول من متعاقدين مشتتين إلى شركاء يسهمون في رسم ملامح مستقبل عملهم.
نموذج لما يمكن تحقيقه
تشكل المؤسسة التعاونية العلمية، ريد-كوأوب، التي تدير أدوات الذكاء الاصطناعي المخصصة للوثائق التاريخية نموذجاً مقنعاً لإمكانات هذا النهج؛ فقد تأسست عام 2019 بتمويل أوروبي بلغ 10.6 مليون يورو ضمن برنامج هورايزن 2020. وبعد أن كانت مشروعاً أكاديمياً مدعوماً بالمنح، أصبحت تعاونية أوروبية للذكاء الاصطناعي مكتفية ذاتياً وعابرة للحدود. وبصفتها جمعية تعاونية أوروبية، تتولى إدارة منصة ترانسكريبس التي تعتمد على تكنولوجيا تعلم الآلة للتعرف إلى النصوص المكتوبة بخط اليد ونسخها.
وقد عالجت منصة ترانسكريبس أكثر من 90 مليون صورة تاريخية حتى الآن، وتشهد نمواً متواصلاً. وهي تتيح للمستخدمين، بدءاً من المؤرخين المحترفين وأمناء المحفوظات وصولاً إلى طلاب المدارس الثانوية والمجموعات المجتمعية، رقمنة الوثائق المكتوبة يدوياً والبحث فيها والتعليق عليها وترجمتها إلى أكثر من 200 لغة ولهجة. ولا تقتصر مهمة تطوير النماذج على المبرمجين فحسب، بل يسهم فيها المستخدمون أنفسهم؛ إذ يرفع الأعضاء البيانات ويعدلون الخوارزميات ويصوتون على أولويات المنصة، ما يجعل استخدام الذكاء الاصطناعي تجربة تشاركية في متناول الجميع من خلال تمكين المستخدمين العاديين من تدريب الأدوات وتوجيهها بأنفسهم.
على خلاف معظم المنصات التجارية، لا تعتمد منصة ترانسكريبس على استثمار بيانات المستخدمين، وتحرص على توفير أكثر ميزاتها قيمة دون قيود مالية، وتعتمد عمليات المعالجة فيها بالكامل على الطاقة المتجددة بنسبة 100% من خلال شركة تيفاغ، ما يعزز التزام ريد-كوأوب بحماية البيئة. وتتولى إدارة المنصة مؤسسة تعاونية تضم 227 مؤسسة عضواً موزعة على 30 دولة، تشمل جامعات وأرشيفات وطنية وحكومات بلدية ومؤسسات معنية بالإرث الثقافي.
ترانسكريبس ليست مجرد منتج، بل تؤدي دور البنية التحتية العامة؛ فهي خاضعة لحوكمة أعضائها الذين يصوتون على أسعار الخدمات والمزايا والسياسات الأخلاقية، ما يجعلها منسجمة مع الأولويات الأكاديمية والثقافية، لا المصالح التجارية. وإلى جانب منصتها الأساسية، تدعم المؤسسة التعاونية ريد-كوأوب برامج محو الأمية وتتعاون مع المكتبات الريفية وتساعد المجتمعات على نسخ اللغات المهددة بالاندثار واستعادة التاريخ المنسي، وبذلك توسع استخدامات الذكاء الاصطناعي ليصبح أداة لحفظ التراث الثقافي والذاكرة الديمقراطية.
ومع ذلك، لا يزال هذا النموذج خارج دائرة الاهتمام إلى حد كبير، لكنه يقدم تصوراً واعداً لبنية تحتية تعاونية للذكاء الاصطناعي يمكن توسيع نطاقها في قطاعات معينة والحفاظ على استدامتها بفضل التمويل عبر المنح والعمل عبر الحدود الجغرافية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على المعايير الأخلاقية ومبادئ المساءلة وتوجه يخدم المصلحة العامة؛ إذ لا تكمن المسألة في إمكانية تحققه، بل في تحديد المجالات التي يحمل فيها أعظم الأثر، وهل سنسارع إلى دعمه قبل أن تتراجع فرص نجاحه.
ومع ذلك، لا يزال هذا النموذج استثناء خارجاً عن المألوف. لماذا؟
عوائق التوسع
يزدهر الذكاء الاصطناعي حين تتوفر له بنية تحتية ضخمة، في حين تفتقر المؤسسات التعاونية إلى رأس المال وقوة الحوسبة والقدرة على التأثير في دوائر السياسات العليا، وتعمل في سوق باتت أكثر انغلاقاً من أي وقت مضى؛ فتدريب نموذج واسع النطاق مثل جي بي تي-4 لا يتطلب المواهب فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى بنية تحتية ضخمة وبيانات حصرية، وهي أصول لا تمتلكها معظم المؤسسات التعاونية. وبالتالي، مهما كانت نوايا المؤسسات التعاونية حسنة فهي تجد نفسها مضطرة للاعتماد على الواجهات البرمجية للشركات، ما يعزز البنى نفسها التي تسعى هذه المؤسسات التعاونية إلى مقاومتها.
وعلى المستوى الداخلي، تواجه المؤسسات التعاونية تحديات عدة أيضاً: بطء صناعة القرار والتردد في تبني التكنولوجيا وضعف الإلمام بأدوات الذكاء الاصطناعي وغياب القيادات الفعالة. ومع التوسع، يميل بعض المؤسسات التعاونية إلى الانجراف نحو الهياكل التنظيمية ذات التراتبية الهرمية التقليدية؛ فتقع في مزلق تبني التعاون دون أن تبقى وفية له في المضمون. أما البعض الآخر فيقف عاجزاً عن الحركة وقد أربكه تسارع التغيرات من حوله.
على المؤسسات التعاونية ألا تكتفي بتأمين تمويل مخصص وبنية تحتية عامة وتمثيل سياسي يحول دون تهميشها في نظام يعمل أصلاً ضد مصالحها، بل لا بد لها أيضاً من ترسيخ العمل الجماعي على أساس يجمع بين الصرامة الفكرية والاستراتيجية العملية. ويعني ذلك الانخراط في أبحاث معمقة وتعلم تشاركي يعزز فهمنا للاقتصاد التعاوني، بالتوازي مع وضع خطط تنفيذية مفصلة ونماذج حوكمة وحملات مناصرة تحول المبادئ إلى نتائج ملموسة؛ فمن دون هذا الالتزام المزدوج بالتحليل المتبصر والتنظيم العملي، قد تبقى المبادرات النابعة من نوايا حسنة مجرد خطابات حالمة عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي وجذري في المنظومة.
بناء حركة واسعة النطاق
إذا لم تنخرط المؤسسات التعاونية في تطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقه، فإنها لا تخاطر بفقدان دورها فحسب، بل قد تتحول إلى بنى داعمة للأنظمة نفسها التي أنشئت لمقاومتها. فالذكاء الاصطناعي ليس حيادياً؛ إذ يحدد كيفية تنظيم العمل وطريقة تداول المعلومات والطرف المسموح له بالوصول إلى الأدوات التي ترسم ملامح المستقبل. وإذا أرادت المؤسسات التعاونية أن يكون لها أثر حقيقي، فلا يمكنها أن تعمل بمعزل عن غيرها، بل عليها أن تبني شبكات وتتقاسم البنى التحتية وتتكاتف مع الحركات الاجتماعية الأوسع، بدءاً من نقابات العمال وجماعات العدالة المناخية وائتلافات الحقوق الرقمية وصولاً إلى حملات الدفاع عن سيادة الشعوب الأصلية على بياناتها.
ومع ذلك، يتردد الكثيرون، على الرغم من أن الهدف الأساسي للمؤسسات تعاونية هو تجاوز التناقضات والصمود أمامها؛ إذ تمتد عبر أطياف أيديولوجية متنوعة، بدءاً من اليسار الراديكالي إلى اليمين الليبرالي، ومن التشكيك البيئي إلى النسوية الشعبية، دون أن يوحدها إجماع سياسي، بل التزام راسخ بالملكية الجماعية والإدارة الديمقراطية؛ فكيف يمكن أن يبدو هذا الانخراط على أرض الواقع؟ هل يمكن للمؤسسات التعاونية للعاملين في مجال التكنولوجيا أن تتعاون مع نقابات مثل اتحاد عمال ألفابت، أو تؤسس صناديق للدفاع القانوني تحمي بيانات المستخدمين من الاستغلال، أو تطور نماذج حوكمة مشتركة توازن نفوذ الشركات في تقنين الذكاء الاصطناعي؟ هذه ليست أسئلة نظرية، بل خطوات أولى نحو مشروع أوسع بكثير.
فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد قفزة تكنولوجية، بل يشكل إعادة ضبط شاملة للنظام من شأنها أن تعيد تعريف كيفية عمل المؤسسات والأطراف التي تعمل لصالحها. صحيح أن التجارب التعاونية الجارية اليوم لن تنتقل إلى مستوى أوسع بين عشية وضحاها، وأن المؤسسات التعاونية لن تنافس كبرى شركات التكنولوجيا في الإنفاق. لكنها قادرة على الإسهام في إعادة تشكيل المشهد، من خلال المبادئ المتسقة والتنسيق الدولي والشراكات الملموسة بين القطاعين العام والخاص. وهي تطرح تحدياً يستحق الانتباه مفاده أن أهمية هياكل الملكية والحوكمة والمساءلة لا تقتصر على تحقيق العدالة، بل تمتد لتشمل الاستقرار الطويل الأمد. فربما لا تأتي أعلى الابتكارات قيمة من أسرع النماذج، بل من أكثر الأنظمة شمولاً.