ملخص: يُلحق كثيرو التذمر في مكان العمل الأذى بأنفسهم وبالأشخاص من حولهم على حد سواء. فالتذمر عادة تتشكل في مرحلة الطفولة، منشؤها الحاجة إلى الدعم والحصول على الاهتمام، لكنها تغيّر السيالات العصبية في الدماغ بمرور الوقت وتصبح جزءاً من الشخصية، وهو ما يجعل من الصعب التعامل معها. قد لا يؤدي إبداء التعاطف وتقديم الحلول إلى تغيير السلوك، بل يتمثّل أفضل نهج للتعامل مع المتذمرين في مكان العمل في وضع قيود على التذمر، وذلك من خلال الإشارة إلى أن الشكاوى يجب أن تكون حول قضايا محددة يمكن حلها. يجب أن تقترح أيضاً ضرورة أن يُعرب المتذمر عن تقديره وامتنانه في اللحظات التي يشعر فيها بالحاجة إلى الإفصاح عن شكوى ما. وقد يتمكن كثير التذمر في الواقع من تغيير نمط سلوكه والتفكير بشكل بنّاء أكثر من خلال تلقي التوجيه والعلاج.
لم يعد بمقدور لمى تحمل الوضع في عملها أكثر من ذلك، ففي كل مرة تلتقي زميلها بهاء، وهو أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في سلسلة متاجر التجزئة الكبيرة التي يعملان فيها، يبدأ دوامة التذمر حول عمله والحكومة وحياته الشخصية. وكانت تعاني من رد فعل خانق من مجرد الاستماع إلى تذمره وشكواه. وكلما حاولت لمى إعادة صياغة موقف بهاء بطريقة تفاؤلية وإيجابية، يعاود تبني موقفه السلبي وتذهب محاولاتها أدراج الرياح. سببت شكاوى بهاء وسخطه وتذمره المتواصل الضرر للجميع، بمن فيهم نفسه.
الضرر المتولد
تُظهر البحوث أن التذمر المتواصل، مثل شكاوى بهاء، ينطوي على آثار فسيولوجية، إذ قد يُسفر تكرار المشاعر السيئة والحزينة والجنونية والعاجزة عن جعل الناقلات العصبية في الدماغ تصاب بمشكلة التكيّف العصبي التي تعزز من أنماط التفكير السلبية، وهو ما يسهل على الدماغ تكرار الأفكار البائسة ويترك حيّزاً صغيراً للأفكار الأكثر إيجابية، كالامتنان والتقدير والرفاهة. وقد تؤدي تلك الحلقة المستمرة من الأفكار السلبية إلى تلف الحُصين، وهو جزء من الدماغ مسؤول عن حل المشكلات والوظائف المعرفية. فيصبح المتذمرون بمرور الوقت مدمنين على السلبية، وينجذبون إلى الدراما التي تصاحب سلوكياتهم المتذمرة.
وقد يميلون أيضاً إلى تبني نهج التفكير القائم على تصنيف الأمور إلى أبيض أو أسود، في حين لا تكون التسوية جزءاً من المعادلة. ولا عجب في أن كثيري التذمر مثل بهاء يرون جانب المشكلات من القضايا ولا يرون جانب الحلول، وهو ما يجعل من الصعب جداً التعامل معهم. وقد يصعب عليهم اتخاذ القرارات وحل المشكلات نظراً لسلبيتهم. ومن المفارقات أن التذمر يخلق مزيداً من المشكلات التي تدفع المتذمرين إلى الشكوى والاعتراض.
من جهة أخرى، يخلق كثيرو التذمر آثاراً ضارة على من حولهم، فعندما يفكر المتذمرون ويتفاعلون مع من حولهم بطرق سلبية ومتشائمة، فهم ينقلون تلك المشاعر إلى الآخرين في عملية يطلق عليها علماء النفس "التماهي الإسقاطي" دون وعي منهم، وكأنهم يعتبرون الأشخاص حولهم سلال قمامة يرمون فيها سلبياتهم، وهو ما يجعل أولئك الآخرين يشعرون بالاكتئاب والإرهاق.
وما يثير الاهتمام هو أن ذلك النوع من "نقل المشاعر" هو جزء من تركيبتنا التطورية. وقد اقترح بعض المتخصصين في الأعصاب بالفعل أن البشر يمتلكون ما يسمى بالعصبونات المرآتية في أدمغتهم وهي مهمة للبقاء على قيد الحياة. وبما أننا كائنات اجتماعية بطبيعتنا، تحاكي أدمغتنا مزاج الأشخاص من حولنا دون وعي منا؛ قد تكون تلك المحاكاة ميزة عندما نواجه خطراً ما، وقد تمثّل أيضاً شكلاً من أشكال التماسك الاجتماعي. ومع ذلك، للعصبونات المرآتية جانب سبلي آخر، إذ قد يصبح الأشخاص الذين يتذمرون من كل شيء معديين، وقد نتحول إلى متذمرين دون أن نعي ذلك حتى.
لماذا نتذمر؟
التذمر ليس سيئاً تماماً، بل يتيح لنا التنفيس عن مشاعرنا السلبية أمام زملائنا بين الحين والآخر والتعبير عن المواقف الصعبة التي تعترضنا من خلال إخراج مخاوفنا إلى العلن، وهو ما يقلل من ردود فعلنا المحتملة للتوتر. في حين قد يمنعنا قمع مشاعرنا من تحديد ماهية مشكلاتنا ومصدرها. وقد يشتكي الأفراد أيضاً ليشعروا بالرضا حيال أنفسهم. وبالعودة إلى مثال بهاء، ربما كان يحتاج إلى دعم من لمى بشأن انزعاجه من وضعه أو شعوره بعدم الإنصاف وبهدف بناء نوع من الارتباط العاطفي.
في المقابل، قد يتذمر بعض الأفراد كوسيلة لممارسة القوة والتأثير على التصورات، ويستخدمون الشكاوى بهدف الحصول على دعم الأفراد، لاسيما ضمن المؤسسات التي قد تكون بؤراً للألعاب السياسية. ووفقاً لذلك التفسير، ربما كان بهاء يحاول جذب انتباه لمى إلى وجهة نظره حول سلوكيات معينة يمارسها بعض الأفراد في مؤسستهم والتي افترض أنها سلوكيات خاطئة.
يبدأ التذمر المزمن في كثير من الحالات في وقت مبكر من الحياة، كوسيلة لكسب الظهور وتعزيز مشاعر الألفة في الأسرة. وقد تصبح تلك التجارب المبكرة أنماط سلوك متأصلة بعمق، وربما أصبحت جزءاً من هوية بهاء، وهو ما يفسر سبب رد فعله السلبي على النصيحة، لأن حل مشكلته سوف يزيل سبب الشكوى، وهو ما يهدد إحساسه بذاته.
إدارة شخص متذمر
غالباً ما تبوء محاولات تقديم المساعدة إلى كثيري التذمر بالفشل. ومن المحتمل أن يواصل بهاء الانغماس في الجوانب السلبية لوضعه بدلاً من البحث عن حلول، وهو ما يجعل التعامل مع المتذمرين مزعجاً ومثيراً للغضب.
تنطوي الخطوة الأولى للتعامل معهم على وضع حدود واضحة. يجب أن تخبر لمى بهاء أنها مستعدة للإصغاء إليه والتحدث معه، ولكن ليس للانخراط في محادثة متكررة، فالخوض في الحديث نفسه مراراً وتكراراً لن يُفيد أي منهما، بل يجب أن تخبره أنه على الرغم من شعورها بالسوء حيال وضعه، فإن شكواه المستمرة تؤرق جميع من في المؤسسة. ويجب أن تؤكد على حقيقة أن لكل شخص الحق في التذمر والإفصاح عن شكواه في مرحلة ما، لكن باعتدال، وأنه يوجد أسلوب صحيح وخاطئ للتذمر، فهو مفيد في المواقف التي يعتقد فيها أن بإمكانه إحداث تغيير حقيقي وإيجابي، في حين أن أسلوب التذمر الذي يُبديه ليس بالأسلوب البنّاء.
ثم يجب أن توضح لمى لبهاء ضرورة أن يعدل وجهة نظره؛ فالتذمر الهادف، أي اتخاذ موقف استباقي، سيرشده إلى كيفية تجاوز سلبيته. في النهاية، إذا كان لديه وقت للتذمر والاستياء من كل الأمور السيئة التي تحدث له، فيجب عليه تخصيص وقت للسيطرة على تلك العادة أيضاً، بمعنى أنه يجب عليه أن يتذمر من أجل إصلاح مشكلة ما وحلها، وليس لكسب التعاطف فقط.
يمكن أن تقترح لمى أن يعزز بهاء أيضاً مشاعر الامتنان، فعندما يشعر بالحاجة إلى التذمر، يجب أن يعتبر تلك الحاجة بمثابة إنذار له لصرف انتباهه من التذمر إلى إحصاء النعم من حوله؛ فالقيام بذلك قد يحسن مزاجه، ويمده بطاقة أكبر، ويقلل شعوره بالتوتر. وبشكل عام، قد يستغرق إحداث مثل ذلك التغيير في السلوك وقتاً طويلاً. لكن يمكنه الحصول على المساعدة خلال رحلته من مدرب أو معالج نفسي يساعده في استكشاف سبب ميله إلى الوقوع ضحية تلك المشاعر، وسبب سعيه المستمر إلى طلب الدعم من الآخرين، وكيفية العمل على استجابات بديلة عندما يواجه الحاجة إلى تقديم شكاية ما أو التذمر.
وعلى الرغم من أن كثيري التذمر غير مؤذيين ظاهرياً، فإنهم مدينون لزملائهم ولأنفسهم بتنظيم سلوكياتهم، إذ لا بدّ أن ينزعج الأفراد من الجو السلبي في النهاية. ويجب على بهاء أن يدرك أنه لا يمكن تشحيم العجلة التي تُصدر صريراً مزعجاً دائماً، بل يمكن استبدالها أيضاً.