يتميز هذا الوقت من العام بالأحداث التي تمثل نقلات على الصعيدين الشخصي والمهني؛ إنه موسم احتفالات التخرج والزفاف واليوم الأول في الوظيفة الجديدة ووضع الخطط الاستراتيجية للعام المالي التالي (يبدأ العام المالي الجديد في أول يونيو/حزيران في بعض الشركات). تأتي هذه النقلات غالباً بمزيج من التوقع والحماس، إذ نشعر أننا لا نعرف تحديداً ما يحمله الغد ولكننا نتوق للوصول إليه.
نقف جميعنا في هذا العام على عتبة مهنية جماعية بانتظار رؤية ما ستبدو عليه "العودة إلى العمل" فعلاً؛ تبددت عاداتنا وأعمالنا الروتينية اليومية كلها، ونحن محتجزون في فراغ مبهم قلقين بشأن مدة استمرار هذا الحال وما سيأتي بعده، ولكننا نعلم جميعنا أن حياة العمل التي نعرفها قد تغيرت جذرياً.
هذه الفترات الحدية التي نقضيها على أعتاب حالة أو تجربة جديدة هي مساحات يتسم مرورنا فيها بالتعقيد؛ فهي تجعلنا نشعر بالقلق والضياع، ولكنها في نفس الوقت تحمل إمكانات هائلة. يتمثل الجانب الإيجابي من الانتقال في أنه يتيح فرصة التفكير في الذات وإنمائها وتغييرها، وإذا تعاملنا مع الانتقالات التي نجريها في العمل والحياة بالعقلية المناسبة فستكون مجزية للغاية.
ستشكل تصفية أذهاننا فيما يتعلق بطريقة تعاملنا مع المنطقة الجديدة مساعدة كبيرة لنا جميعاً، وفيما يلي بعض الطرق التي ستساعدك على الدخول إلى مرحلة ما بعد كوفيد مع توتر أقل ووضوح أكبر.
لا تفكر، عش اللحظة فحسب
يعتقد العقل البشري خاطئاً أنه قادر على التفكير والتوصل إلى طريقة لتجاوز فترة الغموض، ونحمل قناعة بأننا إن تمكنا من فهم مصدر الغموض فسنتمكن من معالجته بطريقة ما. لكن الأمر لا يسير على هذا النحو، بل على العكس تماماً، فنحن نزيد الأمور سوءاً بالمبالغة في تحليلها إذ نكون كمن يصب الماء على الزيت المشتعل على أمل إخماد نيرانه.
تلجأ أدمغتنا في الفترات الحدية إلى وضع النجاة؛ إذ تحفز مستويات الغموض والقلق المرتفعة لوزة المخيخ التي تستجيب بدورها بإحدى طريقتين: المواجهة أو الهرب؛ إما أن نحاول الهرب من مشاعر القلق والخوف وإما أن نحاول مصارعتها بأفكارنا عبر العمل على جمع المعارف وحلّ المشكلات، وهذا غير منطقي في فترة الاضطراب العالمية التي تكون الحلول فيها بعيدة جداً عن متناول أيدينا.
هذا ما لاحظناه على نحو متكرر في بحثنا وعملنا مع عملائنا على مدى الأشهر القليلة الماضية، إذ نرى البعض يعملون في وضع النجاة ويحملون عقلية "فلنفكر في طريقة للخروج من هذه الأزمة". ولكن عقلية التحليل المفرط هذه تعود بأثر عكسي وتؤدي إلى اجترار الأفكار والقلق حدّ الهوس، لأن التفكير في طرق للخروج من الأزمة يوجه انتباهنا مراراً وتكراراً إلى الأفكار والمشاعر التي تغذي قلقنا الأول فنعلق في دوامة سلبية تسلبنا تركيزنا على الفترة الجديدة المقبلة.
يبدأ كسر هذه الحلقة بالتخلي عن التفكير المفرط والقبول بأن نعيش اللحظة فحسب ونتمعن في مشاعرنا التي تتولد داخلنا. لن نعثر على جميع الأجوبة عن أسئلتنا حول ما سيأتي، ولكننا سنتمكن من اكتشاف ذواتنا بدرجة أكبر ونصبح قادرين على توجيه أذهاننا نحو مستوى أعلى من الهدوء والقدرة على التحمل والتركيز.
وجه تركيزك نحو الخارج لا الداخل
تشغلنا لوزة المخيخ المسيطرة في أثناء الفترة الانتقالية بتحدٍ آخر متمثل في تركيزنا على أنفسنا.
تبين الأبحاث أن حالة التوتر الذهني تجعلنا نفكر ونتصرف على نحو يركز على الذات بدرجة أكبر. عندما يشعر الإنسان بضغط الغموض المتنامي يتولد شعور بالقلق يؤدي إلى انحياز نظرته إلى العالم على نحو يجعله لا يرى سوى نفسه وحزنه فقط. وتبين الأبحاث أن للقلق أثر ضار بنفس القدر يتمثل في تقويض قدرتنا على الأخذ بوجهات نظر الآخرين، بعبارة أخرى نعجز عن رؤية الأمور من منظور شخص آخر.
للأسف، تلجأ أدمغتنا من أجل النجاة من الأزمة أو الفترة الانتقالية إلى رفض أو تجاهل الأمور التي ستتيح لنا الشعور بالثبات والترابط، وبدلاً من اللجوء إلى المجتمع والتواصل معه ننكفئ على أنفسنا ونركز على حالتنا لا على حالة الآخرين. يمكن أن يكون كسر هذا النمط بسيطاً بساطة المبادرة بلفتة تنم عن التعاطف أو إجراء اتصال هاتفي مع شخص يواجه صعوبة ما. في دراسة أجريت في عام 2016 توصل الباحثون إلى أننا عندما نقدم هدية للآخرين نشعر بسعادة وقدرة على التحمل أكبر مما نشعر به حين نقدم نفس الهدية لأنفسنا، وبذلك يكون الاهتمام بالآخرين شكلاً حكيماً من أشكال المنفعة الذاتية لا سيما في الأزمات.
تكمن المفارقة في أن العامل المساعد المحتمل في تجاوز هذه الأوقات العصيبة يناقض تماماً ما تدفعنا تركيبتنا النفسية الطبيعية لفعله، لذلك يجب أن نفهم أنفسنا بدلاً من التفكير المفرط في الوضع الذي نمر به، ويجب أن نفكر في احتياجات الآخرين قبل احتياجاتنا. البشر لهم كينونتهم ولا يقتصر دورهم في القيام بالأفعال فقط، وإنسانيتنا المشتركة تعني أن نتشارك هذا التحدي.
النبأ السار هو أنه بإمكاننا تدريب أنفسنا على إعادة ضبط تكويننا النفسي الأساسي وتخطي العتبة بدرجة أكبر من الوعي الذاتي والتركيز والقدرة على التحمل.
إعادة ضبط الذهن بواسطة اكتشاف الذات
يمكننا أن نعيد برمجة ردود فعلنا الأساسية نوعاً ما، وفي الحقيقة أثبت بحثنا أننا نستطيع فعل ذلك في 10 دقائق فقط، وأفضل مكان نبدأ منه هو فهم طريقة عمل الدماغ. مثلاً، هل تعرف أجوبة هذه الأسئلة التالية؟
- ما هي الأوقات التي يكون تركيزك وطاقتك وإنتاجيتك في أعلى مستوياتها خلال اليوم؟
- متى ينجرف ذهنك إلى القلق والتوتر؟ ما هي العوامل التي تحفزه على ذلك؟
- كيف يؤثر النوم على مزاجك واستجابتك للأوقات الصعبة؟
- هل تشعر بالراحة وقدرة أكبر على التحمل حين تكون وحدك أم حين تكون مع الآخرين؟
- هل يمكنك تحديد درجة ملاءمة قراراتك بناء على نوع شخصيتك؟
يمكنك اتخاذ الخطوات المناسبة حين يزداد وعيك، مثلاً، حين تحدد نمط التركيز المميز لديك في أثناء اليوم ستتمكن من تخطيط يومك بما يتلاءم معه. يمكن أن تحدد مواعيد للنشاطات والاجتماعات المهمة في الأوقات التي يكون تركيزك في أوجه وترك المهام التي لا تحتاج إلى التركيز للساعات التي يكون تركيزك فيها ضعيفاً. وبالمثل، عندما تكشف ما يعزز قدرتك على التحمل أو يضعفها ستتمكن من تبني الممارسات التي تساعدك على بنائها، مثل الحصول على قسط كافٍ من النوم الجيد والتواصل مع من حولك.
يمكن أن تكون التكنولوجيا مفيدة في سعينا لزيادة الوعي الذاتي. في شركتنا "بوتينشال بروجيكت" (Potential Project)، عملنا على تطوير تطبيق يسمى "مايند غرو" (نمو العقل) (mindgrow) يساعدك على تتبع فترات ارتفاع التركيز والقدرة على التحمل وتدنيهما في أثناء أسبوع العمل العادي. ويشمل "تقرير استكشاف العقل" (Mind Discovery Report) الشخصي نصائح مخصصة لكسر الأنماط التلقائية وإعادة ضبط ذهنك لمواجهة الحياة في فترة الغموض والتغيير الحالية. وإليك بعض الأمثلة عن طرق البدء بعملية إعادة الضبط.
أنشئ طقساً لتحديد المقصد وموضع التركيز. جميعنا مشغولون للغاية ونبحث بصورة طبيعية عن الفرص التي تتيح لنا إكمال المهام بطريقة تلقائية، ويلجأ الدماغ إلى هذا النوع من العمل التلقائي لأنه يساعده في الحفاظ على موارد الإدراك الواعي. ولكن من دون متابعة يصبح العمل التلقائي مهيمناً، وهذا ليس جيداً. ستساعدك ممارسة طقس محدد على تحديد مقصدك في بداية جلسة العمل أو المهمة أو نهايتها، أو إعادة توجيه انتباهك نحو مهمة مركزية.
كن حاضراً ذهنياً بالكامل مع من حولك. سواء كنت تجري اتصالاً على منصة "زووم" أو محادثة مع شخص ما، احرص على إبقاء تركيزك على موضوع الحديث والشخص الذي تحادثه. واسأل نفسك: ما الذي يشعر به الشخص الآخر؟ ما الذي يحتاج إليه؟ وما الذي تشعر به أنت؟ إن واجهت صعوبة في الحفاظ على تركيزك فاطرح سؤالاً لاستعادة انتباهك.
انتبه أكثر إلى التجارب "الحسية" اليومية حولك. بين الفينة والأخرى، خذ بضع دقائق لملاحظة الأصوات حولك أو مذاق طعامك أو النسيم الذي يلامس وجهك حين تكون في الخارج، فأخذ وقفة بين الحين والآخر لملاحظة ما تقوله حواسك الخمسة يشكل ملجأ من انشغال ذهنك وطريقة لتعزيز وعيك في آن معاً.
ليس لدينا أجوبة عن تساؤلاتنا حول شكل حياة العمل الجديدة في المستقبل، وليس بوسعنا سوى أن نخمن ونأمل ونقلق ونتساءل، لكن التغلب على قلقنا ومواجهة العالم الجديد الذي نقبل عليه يعنيان أن نكون واعين ونتبع أسلوباً مدروساً في تفكيرنا وتفاعلنا. وسنتمكن من العثور على عدة مسارات لاكتشاف الذات ضمن أذهاننا إذا توقفنا قليلاً وألقينا نظرة.