في عام 2022، أطلق موظفون شباب من جيل زد وسماً (hashtag) على تيك توك سُمي "الاستقالة الصامتة" (Quiet Quitting)، قصدوا به البقاء في العمل شكلياً مع عدم الارتباط بالوظيفة نفسياً أو الاندماج بها اندماجاً حقيقياً. وعزا الخبراء تلك الظاهرة إلى أن الكثيرين من الجيل زد لا يجدون الدعم النفسي والاهتمام والتطور المهني على النحو الذي يرغبون به في وظائفهم، ما دفعهم إلى ذلك العصيان الصامت. ثم عمد هؤلاء الشباب إلى استخدام الهاشتاغ أداة ضغط لتحسين ظروفهم، خصوصاً مع ندرة أصحاب المواهب وخروج الشركات حديثاً من أزمة كوفيد-19. واليوم، وبعد مرور أكثر من عام على الظاهرة، ما زالت حاضرة في أذهان الموظفين ولو بنسبة أقل. في الواقع، أشار استطلاع قادت مؤسسة غالوب عام 2022 إلى أن الإستقالة الصامتة تكلف الاقتصاد العالمي ما يقرب من 9 تريليون دولار سنوياً.
قد يعتقد البعض أن امتناع الموظفين عن الانخراط في العمل ناتج عن عدم حُبهم أو استمتاعهم بما يعملون؛ لكن الحقيقة على العكس من ذلك، فوفقاً لمؤسسة غالوب، أكثر من 80% من الموظفين حول العالم يستمتعون بوظائفهم إلى درجة أنهم مستعدون للعمل، ولو مؤقتاً، دون مقابل مادي! فإذا كان أكثر من 80% من الناس يستمتعون بوظائفهم، لماذا يبدي جزء كبير منهم سلوكيات تصبُ في خانة الاستقالة الصامتة؟ ليس الوظيفة في حد ذاتها هي ما يجعل الموظف تعيساً، وإنما بيئة العمل التي يعمل فيها! فما أفضل أسلوب يمكن للمدراء تبنّيه للتعامل مع هذه الظاهرة دون المخاطرة بخسارة الموظفين المميزين؟ تكمن الإجابة في آراء المختصين الذين انكبوا على دراسة هذه الظاهرة.
8 خطوات عملية
في دراسة منشورة عام 2023 في المجلة الدولية لإدارة الضيافة المعاصرة (International Journal of Contemporary Hospitality Management)، قادها فريق من الباحثين بقيادة الأستاذة المساعدة في إدارة الموارد البشرية في جامعة الشارقة، سليمة حموش (Salima Hamouche)، وأستاذ إدارة الأعمال في الكلية الأميركية في اليونان، كريستوس كوريتوس (Christos Koritos)، وأستاذ إدارة الأعمال في جامعة دبي، أفرام باباستاثوبولوس (Avraam Papastathopoulos)؛ قدموا خلالها 8 مقترحات رئيسية تساعد المدراء على خلق بيئة عمل إيجابية تحارب مظاهر الاستقالة الصامتة وتسهّل معالجتها بمجرد ظهورها وهي كالآتي:
1. توضيح متطلبات الوظيفة ومناقشتها مع موظفيك
على المدراء توضيح الأوصاف الوظيفية التفصيلية عبر تحديد الأدوار والمسؤوليات وتوقعات الأداء، ومشاركتها مع الموظفين عبر حوارات منتظمة وتفاعلية وبنّاءة للتأكد من فهمهم لهذه المتطلبات ومواءمتهم معها. بالإضافة إلى تشجيعهم على مشاركة اهتماماتهم وتطلعاتهم والتحديات التي تواجههم، بحيث لا تتناول اهتماماتهم المتعلقة بالعمل فحسب، بل تطلعاتهم الشخصية أيضاً. مناقشة متطلبات الوظيفة وتحديد المهام الأساسية وتلك الإضافية يمكّن الموظفين من تلبية التوقعات على نحو أفضل، ويحسِّن الرضا الوظيفي والإنتاجية، ويجعلهم أقل عرضة للانسحاب الصامت من أعمالهم.
2. جمع تقييمات الموظفين فيما يتعلق بمستوى رضاهم
يعد جمع التقييمات والملاحظات أداة قوية لقياس رضا الموظفين وتحديد المشكلات المحتملة. ويمكن للاستطلاعات، والاستبيانات المنتظمة، وصناديق الاقتراحات المجهولة، والاجتماعات الشخصية أن تسهِّل ذلك. لكن جمع الملاحظات لا يكفي؛ إذ لا بُد من أن يظهِر المدراء للموظفين أنهم يقدرون آراءهم عبر اتخاذ الإجراءات الملائمة. لا يساعد جمع التعليقات على معالجة المشكلات والمخاوف فحسب، بل يُظهر للموظفين أيضاً أن آراءهم مهمة ومحط تقدير، ما يعزز الثقة وثقافة الانفتاح ويزيد الانخراط في العمل والإنتاجية. عندما يشعر الموظفون بأن ثمة مَن يسمعهم، يصيرون أقل عرضة للاستقالة الصامتة.
3. تبنّي ممارسات تُعزّز التوازن بين العمل والحياة
الطريقة الفعالة لتعزيز أداء الموظفين وزيادة رضاهم ورفاهيتهم هي تعزيز التوازن الصحي بين العمل والحياة. لذلك، على المدراء تقييم السياسات الصديقة للأسرة في مؤسساتهم للتأكد من أنها تدعم الموظفين حقاً في إدارة حياتهم الشخصية والمهنية. يتضمن ذلك ساعات عمل مرنة، وخيارات العمل عن بعد، وإجازة مدفوعة الأجر، وسياسات إجازة الأمومة والأبوة الداعمة، وتعويضات رعاية الأطفال أو المسنين. من المرجح أن تظل القوى العاملة التي يمكنها تحقيق التوازن بين العمل والحياة منخرطة وملتزمة.
4. تكييف ممارسات إدارة الموارد البشرية مع احتياجات الجيل جديد من الموظفين
يتطور سوق العمل باستمرار، وكذلك توقعات الأجيال الجديدة من الموظفين. ويجب أن تتكيف ممارسات إدارة الموارد البشرية مع هذه التغييرات. قد يتضمن ذلك مراجعة استراتيجيات التوظيف لجذب المواهب الملائمة، وتحديث برامج التعويضات والمزايا، وتقديم فٌرص التطوير المهني، ومساعدة الموظفين على التكيف مع الظروف الجديدة.
5. اعتماد نهج يركز على الإنسان في الإدارة
يعني الاعتراف بالموظفين بوصفهم أفراداً لديهم احتياجاتهم ودوافعهم الخاصة. وهو نهج ينطوي على تعزيز ثقافة داعمة ومتعاطفة في مكان العمل، حيث يهتم المدراء والقادة بصدق بأعضاء فرقهم، فيصغون باهتمام إلى الموظفين، ويظهرون التعاطف الحقيقي، ويقدمون الدعم عند الحاجة، ويخلقون بيئة عمل تتميز بالأمان النفسي يشعر فيها الجميع بالتقدير والفهم. عندما يشعر الموظفون بالتقدير، فمن المرجح أن يظلوا منخرطين ومخلصين للعمل.
6. تحديد احتياجات الموظفين وتوقعاتهم للنمو الشخصي والتطوير الوظيفي وفهمها
حثّت الدراسة المدراء على أن يعملوا بجد لجمع معلومات كافية عما يطمح إليه الموظفون؛ أي جمع المعلومات عن الأهداف الشخصية والتوقعات والاحتياجات وأهداف التطور الوظيفي، وأن يوضحوا (المدراء) ما يمكن أن تقدمه المؤسسة لتعزيز تحقيق هذه الأهداف، وتعزيز الشفافية، وضمان مواءمة الاحتياجات التنظيمية مع احتياجات الموظفين. واقترحت على المدراء إجراء مناقشات متعمقة منتظمة (أسبوعية) مع أعضاء فرقهم لتعزيز مشاركتهم، إذ يمكن للمحادثات المنتظمة حول الأهداف والتطلعات المهنية أن تساعد على تصميم خطط التطوير والفرص لتتوافق مع رغباتهم. عندما يرى الموظفون طريقاً للنمو داخل المؤسسة، فمن المرجح أن يظلوا ملتزمين بالعمل.
7. توفير المزيد من الفُرص للتعلم والترقية
تعد الترقيات والنمو الوظيفي من المحركات الرئيسية لرضا الموظفين والاحتفاظ بهم. لمنع الاستقالة الصامتة، تدعو الدراسة المدراء إلى توفير المرونة الإدارية فيما يتعلق بالتطور الوظيفي، وإتاحة الفرص أمام الموظفين لتعلم مهارات جديدة واكتساب الخبرة داخل المؤسسة. كما يمكن دمج ذلك في سياسات الترقية، حيث يُشجع الموظفون على تحسين مهاراتهم بوصفها جزءاً من تقدمهم الوظيفي. وهذا لا يفيد الموظف فحسب، بل يعزز أداء المؤسسة أيضاً من خلال تعزيز المواهب الداخلية.
8. تثبيط أساليب القيادة غير الصحية
تؤدي القيادة دوراً حاسماً في انخراط الموظفين والاحتفاظ بهم؛ فأساليب القيادة المدمرة أو المختلة؛ مثل القيادة النرجسية أو الاستبدادية، قد تدفع الموظفين إلى الاستقالة الصامتة أو الحقيقية. ومن الضروري تحديد هذه المشكلات ومعالجتها من خلال برامج التدريب والتطوير على القيادة، وتشجيع ثقافة القيادة البناءة والداعمة والمتعاطفة التي تسهم في خلق بيئة عمل أكثر إيجابية.
ختاماً، يمكن القول إن منع الاستقالة الصامتة يتطلب اتباع نهج شامل يمزج بين أسلوب القيادة والممارسات الإدارية، كما يتعلق الأمر بإنشاء مكان عمل يشعر فيه الموظفون بالتقدير والدعم والفهم. في الواقع ومن خلال تنفيذ هذه الخطوات، يمكن تعزيز ثقافة التواصل المفتوح والتوازن الصحي بين العمل والحياة، ما يقلل من احتمالية انسحاب الموظفين بصمت ويعزز التزامهم على المدى الطويل تجاه المؤسسة.