ملخص: عندما يتعاون الموظفون من مختلف الأقسام المنعزلة يقدمون فوائد عديدة للمؤسسة. لكن الموظفين المكلفين بهذا العمل المهم للغاية -أو عناصر الربط أو وسطاء الشبكة- قد ينتهي بهم المطاف إلى التعرض للإرهاق والاحتراق الوظيفي، بل يمكن أن يؤدي هذا حتى إلى ظهور سلوكيات تسيئ لزملائهم من الموظفين الآخرين. تبين الأبحاث سبب حدوث هذا الأمر، وتقترح 3 استراتيجيات رئيسية يمكن للشركات أن تستخدمها لتخفيف الآثار السلبية، وهي دمج عمليات التعاون بين الأقسام المنعزلة في الأدوار الرسمية بطرق استراتيجية، وتوفير الموارد الكافية، وتطوير آليات للمراجعة وفرص للراحة.
في بيئة الأعمال الحالية التي تتصف بالتعقيد والوتيرة العالية، لم يعد الاهتمام بالتعاون بين الأقسام المؤسسية المنعزلة، سواء بين الفِرق أو الأقسام أو المكاتب الإقليمية المختلفة، ضرباً من الرفاهية، بل أصبح ضرورة لا غنى عنها. فهو أمر أساسي لتحسين الأداء، وإطلاق العنان للابتكار، وتسريع عمليات التنسيق.
وتبرز الأبحاث والممارسات العملية، على حد سواء، أهمية إشراك الموظفين في جهود كسر العزلة. يطلق الخبراء على هؤلاء الأفراد اسم "عناصر الربط" (Boundary Spanners) أو "وسطاء الشبكة" (Network Brokers)، وغالباً ما يبذلون جهوداً تتجاوز أدوارهم الرسمية من أجل مد الجسور بين الأفراد المنعزلين والأقسام المنفصلة في المؤسسة، ما يسهّل تدفق الأفكار والمعلومات والموارد. تشير الأبحاث أيضاً إلى أن المشاركة في هذه النشاطات يمكن أن تعزز المسار المهني للموظفين، لأنهم يتعاملون مع معلومات ورؤى استراتيجية فريدة من مختلف أجزاء المؤسسة.
غير أن بحثنا الجديد يكشف عن مخاطر تقترن بالتنسيق بين الأقسام المنعزلة، وهي مخاطر أقل وضوحاً على الرغم من أهميتها. فبالاعتماد على البيانات الميدانية واستطلاعات الرأي والتجارب التي شملت أكثر من 2,000 موظف في بلدين، وجدنا أدلة تشير إلى أن المشاركة في الأعمال التعاونية بين الأقسام المنعزلة ولا سيما الوساطة بين الأفراد المنعزلين في المؤسسة، يمكن أن تؤدي إلى زيادة مستويات الاحتراق الوظيفي والسلوكيات الاجتماعية السلبية.
التكاليف الخفية: الحمل الذهني الزائد والإجهاد العاطفي
وثّقت الأبحاث السابقة الكثير من فوائد الربط بين الأقسام المنعزلة، لكننا اشتبهنا بأن الأفراد المشاركين في هذه العملية يتعرضون لمستويات عالية من الضغط الذهني وكذلك الضغط العاطفي تؤدي بدورها إلى مستويات أعلى من الإعياء والاحتراق الوظيفي، وأردنا دراسة ما ينجم عنهما من سلوكيات مسيئة تجاه الآخرين.
استخدمنا نهجاً متعدد الأساليب لاختبار أفكارنا. ففي البداية، أجرينا دراسة ميدانية في جامعة في أميركا الجنوبية. وجمعنا رسائل متبادلة بالبريد الإلكتروني بين الموظفين لقياس كيفية التعاون بين الأقسام المنعزلة ومستوى هذا التعاون. أخفينا هويات الأشخاص الذين تبادلوا هذه الرسائل الإلكترونية لإزالة أي معلومات شخصية عنهم. كما أننا قسنا مستويات الاحتراق الوظيفي والعدوانية لديهم من خلال استطلاع رأي. في دراسة ثانية، أجرينا استطلاع رأي على عيّنة من الموظفين الأميركيين في مجموعة من المؤسسات العاملة في قطاعات مختلفة. وطلبنا منهم الإبلاغ عن سلوكهم عند التعاون مع الأقسام المنعزلة، وطلبنا منهم لاحقاً الإبلاغ عن شعورهم بالاحتراق الوظيفي وسلوكياتهم العدوانية تجاه الآخرين. وفي دراسة ثالثة، أجرينا تجربة وضعنا فيها المشاركين في سيناريوهات مختلفة تمثّل أساليب مختلفة للتعاون بين الأقسام المنعزلة، وقسنا أثر هذه الأساليب في الإبلاغ الذاتي عن الاحتراق الوظيفي والسلوك المسيء. في هذه الدراسات، تمكّنا من قياس مستويات متوسطة من السلوك المسيء المرتبط بمكان العمل، مثل الوقاحة تجاه الآخرين وتوجيه تعليقات سلبية والتقليل من أهمية الآخرين وتجريحهم.
وفي الدراسات الثلاث، تبيّن لنا أن الانخراط في العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة، خاصة عند إبقاء العاملين في هذه الأقسام متباعدين (سواء جسدياً أو من حيث التواصل) يؤدي إلى زيادة الاحتراق الوظيفي. ويرجع سبب الزيادة في الاحتراق الوظيفي إلى الضغوط الذهنية والعاطفية الإضافية لهذه النشاطات. فعند الانخراط في العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة، يحتاج الموظفون في أغلب الأحيان إلى التعامل مع معلومات ووجهات نظر معقدة ومتضاربة في أغلب الأحيان من مصادر مختلفة، والتوفيق بينها لتوليد قيمة لعملهم والمؤسسة التي يعملون فيها. وغالباً ما يواجهون توقعات أو معايير جماعية متباينة، ويحتاجون إلى التكيف معها لإحراز تقدم في عملهم. إضافة إلى ذلك، بينما يعمل هؤلاء الأفراد على كسر عزلة هذه الأقسام وتسهيل التعاون بينها، يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان عاجزين عن السيطرة على عمل زملائهم الذين يتعاونون معهم.
ولنأخذ الحالة الافتراضية لمهندس أنظمة المحركات في شركة ناشئة ناجحة، ولنسمّه آدم، وهو شخصية خيالية مبنية على بعض النقاط الواردة في مجموعة من المقابلات غير الرسمية التي أجريناها مع المدراء. يعمل آدم مع زميلين من فريقين مختلفين: الأول موظف تسويق يحمل اسم جواد، والثاني مدير إنتاج اسمه ريان. في مشروع معين، طلب آدم منهما تقديم وجهتي نظرهما في بداية العمل على تصميم المحرك الجديد الذي ستصنعه الشركة، والذي يتميز بفاعلية عالية في استهلاك الوقود.
على الرغم من أن آدم كان متحمساً في البداية للعمل معهما، فإن التفاعل معهما سرعان ما أصبح مجهداً؛ فقد دعا جواد إلى تصميم محرك يتميز بكثافة طاقية عالية إذ أظهرت أبحاث السوق أنه يحظى بطلب مرتفع، في حين كان ريان قلقاً بشأن قيود الإنتاج والتكاليف لمحرك جديد بهذه المواصفات، فقد تؤدي زيادة الكثافة الطاقية إلى زيادة تكاليف الإنتاج وحتى تقويض فاعليته في استهلاك الوقود.
تراكم الحمل الذهني على آدم فيما كان يحاول التوفيق بين هذه المتطلبات المتضاربة عبر اجتماعات منفصلة ومتتالية مع جواد لمناقشة تفضيلات المستهلكين ومع ريان لدراسة تكاليف الإنتاج. كان كل اجتماع ينتهي بمجموعة من النقاط التي يجب على آدم أن يأخذها بعين الاعتبار في تصميم المحرك، ما أدى إلى زيادة عبء العمل على ثلاثتهم.
إضافة إلى ذلك، كان على آدم التعامل مع مشكلة التكيف مع معايير جماعية مختلفة؛ فقد كان جواد بوصفه مختصاً بالتسويق يركز على اتخاذ قرارات فورية وإجراء تعديلات سريعة مع كل مناقشة جديدة للخطط التسويقية، أما ريان فقد كان يتبع البروتوكولات الصارمة لفريق الإنتاج وكان منهجياً ويفضل تجنب المخاطرة. كان التعامل مع هذه الأساليب المتضاربة مرهقاً بالنسبة لآدم، وأثر سلباً على صحته النفسية مع مرور الوقت.
أظهر بحثنا أيضاً أن ارتفاع مستوى الاحتراق الوظيفي عند عناصر الربط، كما حدث مع آدم، قد يؤثر بطرق غير مباشرة على زملائهم لأنه يزيد احتمالية الانخراط في سلوكيات عدوانية أو مسيئة. فالشعور بالإرهاق والإنهاك بسبب ضغط العمل يمكن أن يؤدي إلى توجيه تعليقات فظة أو مسيئة، والتأفف، إضافة إلى زيادة احتمال وقوع النزاعات. يشكّل كل هذا تهديداً خطيراً للدور الحيوي الذي يتولاه عناصر الربط في تعزيز التعاون بين الأقسام المنعزلة ضمن المؤسسة.
الحل: الدعم المؤسسي للتواصل والتعافي
إذاً، ما الذي يمكن للمؤسسة أن تفعله من أجل تشجيع المشاركة في التعاون المهم الذي يربط بين الأقسام المنعزلة دون إرهاق موظفيها؟ نقترح 3 استراتيجيات رئيسية:
دمج عمليات التعاون بين الأقسام المنعزلة في الأدوار الرسمية بطرق استراتيجية.
تتضمن المؤسسة وظائف معينة ضمن هيكلها التنظيمي مصممة للمشاركة في الأعمال التعاونية بين الأقسام المنعزلة، مثل إدارة المشاريع والمبيعات والتسويق وإدارة الموارد البشرية. تتمثل الخطوة الأولى لتخفيف الاحتراق الوظيفي الناجم عن التعاون بين الأقسام المنعزلة في الاعتراف الرسمي بالدور الذي يتولاه هؤلاء الموظفون في مد الجسور بين أفراد مختلفين وفرق مختلفة، سواء من حيث الوصف الوظيفي أو عبء العمل أو تقييم الأداء.
على سبيل المثال، في حالة آدم، قد يعني هذا تضمين مهمة "إشراك أصحاب المصلحة الرئيسيين من قسمَي التسويق والإنتاج" في الوصف الوظيفي لمهندس أنظمة المحركات ومسؤولياته، إضافة إلى تطوير أهداف محددة متعلقة بدور الربط بين الأقسام المنعزلة، فالاعتراف بأن هذه النشاطات تشكل جزءاً من دور آدم هو اعتراف صريح بمتطلبات هذا الدور. ويمكن تطبيق الإضافة نفسها على وظيفتي كل من جواد وريان، بحيث يتوقع موظفو التسويق ومسؤولو الإنتاج التعاون مع أشخاص من فرق مختلفة.
المهم هنا هو الحرص على الاعتراف بالعمل الذي يؤديه عنصر الربط، وتوضيح التوقعات من دوره الذي لا يمكن الاستغناء عنه بوصفه عنصراً يتعاون مع فرق متعددة تعمل باختصاصات مختلفة، إضافة إلى دوره الوظيفي الأساسي.
توفير الموارد الكافية
غالباً ما ينجم الاحتراق الوظيفي عن عدم التوافق بين متطلبات الوظيفة والموارد المتاحة للموظف. وتصبح هذه المشكلة أكثر حدة بالنسبة للذين يتولون مهام العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة بصورة غير رسمية، حيث يواجهون أعباءً ذهنية وعاطفية إضافية دون أن يتلقوا بالضرورة دعماً إضافياً لمواجهة هذه التحديات بفعالية.
ولهذا، يصبح من الأهمية بمكان ألا نكتفي بالاعتراف الرسمي بأدوار الأفراد في التعاون بين الأقسام المنعزلة، بل أن نزودهم بالموارد المؤسسية الكافية لتولي هذه الأدوار أيضاً. تتضمن هذه الموارد الأدوات التكنولوجية الأساسية الضرورية للعمل التعاوني، وربما الأهم هو توفير برامج التدريب الشاملة في مجالات مثل التواصل والتفاوض والتعامل مع المسائل الحساسة ثقافياً وإدارة المشاريع.
إضافة إلى ذلك، ونظراً للأدلة التي تشير إلى أن التقدير والحوافز تخفف الأثر السلبي للاحتراق الوظيفي، فإن تقديم المكافآت لقاء تحقيق الإنجازات في العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة يمكن أن يرفع مستوى دافعية عناصر الربط والتقدير الذي يحصلون عليه. على سبيل المثال، يمكن للشركة أن تدرس إمكانية تقديم جائزة "بطل العمل التعاوني بين الأقسام" مرفقة بمكافأة مالية، بهدف تقدير جهود الأفراد أو الفرق المتميزة في العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة أو بين المواقع الجغرافية المختلفة لزيادة جودة العمل أو تعزيز التبادل المعرفي. من خلال ضمان توفير الموارد الجيدة للموظفين وتقدير جهودهم بهذه الطريقة، يمكن للمؤسسة أن تخفف كثيراً مخاطر الاحتراق الوظيفي، وتعزز المقومات اللازمة لتوفير بيئة عمل صحية ومنتجة بدرجة أعلى.
تطوير آليات متابعة متعددة الأوجه وتوفير فرص للراحة
يتسم العمل التعاوني بين الأقسام المنعزلة بطبيعة متطلبة للغاية، سواء بصورة رسمية أو غير رسمية، ولهذا فإن المشاركة في نشاطات تتطلب الربط بين الأقسام المنعزلة يمكن أن يؤدي إلى إصابة الموظفين بالاحتراق الوظيفي. ولتلافي ذلك، من المهم للغاية بالنسبة للمؤسسات والمدراء امتلاك القدرة على ملاحظة زيادة العبء على عناصر الربط ومساعدتهم على أخذ قسط من الراحة بصورة منتظمة.
يتطلب كشف الاحتراق الوظيفي لدى الموظفين اتباع نهج متعدد الأوجه يجمع ما بين التواصل المباشر والمراقبة لتقديم الملاحظات والدعم. أولاً، يستطيع المدراء الاعتماد على اللقاءات الثنائية التي يجرونها لفهم التحديات التي يواجهها عناصر الربط. ثانياً، يمكن مراقبة التغيرات في عادات العمل، مثل التراجع المفاجئ في الإنتاجية أو ارتفاع حالات التغيب عن العمل، بوصفها دلالات تشير إلى الاحتراق الوظيفي. إضافة إلى ذلك، وبما أن الاحتراق الوظيفي غالباً ما يتجلى في السلوك العدواني تجاه الآخرين، فمن المهم للمدراء أن يتنبهوا دائماً للتصرفات العدوانية أو المسيئة الفجائية. ثالثاً، تمثل استقصاءات نبض الشركة، التي يجري استخدامها عادة من أجل جمع بيانات حول الحالة الذهنية الراهنة للموظفين وأعباء عملهم ورفاهتهم، وسيلة أخرى يمكن الاستفادة منها لملاحظة أعراض الاحتراق الوظيفي لدى عناصر الربط.
وأخيراً، نظراً لأن المطالب التي يواجهها أفراد مثل آدم تحدث بصورة غير رسمية خارج نطاق التأثير الرسمي لمدرائهم، فإنها غير واضحة بالكامل في أغلب الأحيان. ولهذا، من أجل مساعدة عناصر الربط على أخذ قسط من الراحة، يمكن للمؤسسات أن تعزز ثقافة شاملة في مكان العمل تؤكد أهمية فترات الراحة واستعادة النشاط وتشجع الموظفين على الانفصال التام عن العمل مساءً وفي عطلة نهاية الأسبوع. على سبيل المثال، يمكن للقادة أن يؤجلوا إجاباتهم (أو أسئلتهم) إلى يوم العمل التالي، ما يعطي مؤشراً على أن الإجابات الفورية غير مطلوبة خارج ساعات العمل.
التعاون بين الأقسام المنعزلة هو سلاح ذو حدين في مكان العمل اليوم. وفي حين يمثل هذا التعاون عاملاً محفزاً بلا شك لتسريع التنسيق والابتكار، فقد يؤثر سلباً في رفاهة المشاركين فيه. ما يدعو إلى التفاؤل هو أنه بإمكان المؤسسات أن تتبنى نهجاً متعددة الأوجه لدعم موظفيها الذين يتولون مهمة الربط بين الأقسام المنعزلة.
ويتطلب تبنّي هذه الاستراتيجيات بذل الجهود وتخصيص ما يكفي من الوقت، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسسة. لكننا نعتقد أنه استثمار جدير بالاهتمام من أجل مواجهة مخاطر إصابة موظفي الربط بالاحتراق الوظيفي بسبب عملهم التعاوني بين الأقسام المنعزلة، ولتعزيز بيئة عمل صحية بدرجة أكبر وأكثر ملاءمة لتحقيق النجاح على المدى الطويل في مكان العمل.