يتمثّل أحد أكثر المهام وضوحاً وأهمية في دورك كقائد في إعداد رؤية مثيرة وموحدة للمستقبل بعيد المدى لشركتك أو وحدتك. (ونناقش هذه الضرورة بمزيد من التفصيل في الكتيّب الذي ألّفه رون أشكيناس والذي يحمل عنوان "دليل هارفارد بزنس ريفيو للقادة" (The Harvard Business Review Leader's Handbook) وفي المقالات السابقة). قد يكون ذلك صعباً في الواقع، ويفشل الكثير من القادة بالفعل في تنفيذ رؤى شركاتهم على مدار السنوات العديدة التي يقتضيها التنفيذ. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها شركة ماكنزي عام 2018 أن 16% فقط من الشركات التي التزمت بعملية تحول رقمي على مدار عدة سنوات أبلغت عن تحسن مستدام في الأداء.
ووجدنا استناداً إلى سنوات عديدة قضيناها في تقديم الاستشارات في مجال التغيير الواسع النطاق في عشرات الشركات من مختلف القطاعات أن ما يعيق معظم القادة هو فشلهم في تحويل تلك الرؤى إلى خطط منظمة تبقى محور تركيزهم بمرور الوقت. يعرف القادة بالطبع كيفية تحديد الأهداف وإعداد مؤشرات أداء رئيسية قابلة للقياس واستخدام لوحات المعلومات وجعل الموظفين يتحملون المسؤولية على المدى القصير. لكن عندما تتطلب جهود التغيير سنوات، غالباً ما يصبح تتبع التقدّم صعباً، وتتضاءل تلك الجهود حتى في مواجهة الظروف التجارية والاقتصادية المتغيرة بسرعة التي تفرض التكيف المستمر لتحقيق نتائج يومية.
تأمَّل شركة تكنولوجية كبيرة عملنا معها. وضع كبار قادتها طموحاً للتحول من بيع الأجهزة إلى البرمجيات والخدمات على مدار 5 سنوات. ومع ذلك، أمضى الفريق الرئيسي معظم وقته في العامين الأولين اللذين تليا الإعلان عن الرؤية في تنفيذ الأنشطة المرتبطة بتحقيق نتائج من منتجات الأجهزة حتى لا تتأثر الأعمال الحالية. لكن التحول الأساسي لم يتحقق بالكامل بعد، على الرغم من التحدث عنه في التحديثات الاستراتيجية ومراجعات أصحاب المصلحة.
في المقابل، شرعت شركة أدوبي سيستمز (Adobe Systems) في عملية انتقال كبيرة من نموذج مبيعات التراخيص إلى نموذج الاشتراك المستند إلى السحابة عام 2013 بإيرادات بلغت 4 مليارات دولار. تقلصت إيرادات الشركة بنسبة 8% في العام الأول، لكنها استقرت في العام الثاني. كانت أصوات المشككين والمعارضين مسموعة وواضحة. وبقي الفريق الرئيسي متمسكاً بنواياه الاستراتيجية الطويلة المدى بدعم من عزم وإرادة الرئيس التنفيذي شانتانو ناراين. وبلغت عائدات شركة "أدوبي" المتكررة 6 مليارات دولار عام 2016 و14 مليار دولار اليوم؛ وتأتي 80% من تلك الإيرادات من الاشتراكات والمصادر المرتبطة بها.
ما النهج الذي نجح مع ناراين وفريق أدوبي؟ كيف يمكنك تنفيذ رؤية شركتك بينما تتعامل في الوقت نفسه مع عوامل تشتيت غير متوقعة وضغط كبير لتحقيق نتائج على المدى القصير؟
توجد 3 طرق ناجحة يستخدمها القادة للتعامل مع تلك التحديات وبلوغ رؤى شركاتهم التي تمتد عدة سنوات؛ ويمكن استخدام تلك الطرق إما منفردة أو مجتمعة:
- ضع خطة مستندة إلى الرؤية. وتولّ قيادة عملية تخطيط سنوية منظمة تربط الرؤية الطويلة المدى بالإجراءات القصيرة المدى
- اجعل تجاربك مركزة. وشجع المشاريع التي يمكن تكرارها في سبيل تحقيق الرؤية
- درّب موظفيك. وطوّر نهج تدريب وتعليم يجعل الرؤية حقيقة بمرور الوقت
لنلق نظرة أعمق على تلك الطرق:
عملية التخطيط المستند إلى الرؤية
تشارك غالبية الشركات في عملية تخطيط سنوية لتحديد أهدافها النهائية وميزانياتها، ومن ثم ترتب تلك الأهداف بحسب الأولوية لتحقيق الغايات المنشودة لوحدات الأعمال والإدارات وما إلى ذلك. وغالباً ما تكون نقطة الانطلاق في تلك العملية مالية، وذلك استناداً إلى أسئلة مثل، ما الأرقام التي يجب علينا بلوغها لإرضاء المستثمرين؟ وما مقدار التحسين الممكن مقارنة بأداء العام الماضي؟ لكن هذا النهج يتطلب إجراء تفكير قصير المدى. فعلى الرغم من الإشارة إلى الرؤية الطويلة المدى في أثناء العملية، لا يُعتبر ذلك النهج محركاً للاستراتيجية أو تخصيص الموارد أو الإجراءات الفردية.
بدلاً من ذلك، ابدأ عملية التخطيط برؤية طويلة المدى. وذلك ما فعله جاك ويلش بصفته الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك عندما أصر على أن يبدأ قادته عملية التخطيط بجلسات "الأحلام"؛ حيث حدد فريقه الاحتمالات الطويلة المدى لما يمكن أن تحققه أنشطتهم التجارية، ثم أعدّ خططهم السنوية مع وضع تلك الفرص والاحتمالات في الاعتبار.
وبالمثل، استخدم الرئيس التنفيذي لشركة سيلز فورس، مارك بينيوف، طريقة تخطيط تبدأ برؤيته الشاملة والثابتة للشركة ونهجها القائم على البرمجيات كخدمة. وصاغ مصطلحاً جديداً لنهجه ضم الحرف الأول لكل من الرؤية (vision) والقيم (values) والأساليب (methods) والعقبات (obstacles) والتدابير (measures) ليصبح (V2MOM). يضع بينيوف مخططاً من صفحة واحدة للشركة بأكملها بداية كل عام يوضح فيها الرؤية الكلية للشركة أولاً ثم يشرح أفكاره حول الخطوات الرئيسية اللازمة لبلوغ تلك الرؤية. (تبقى الرؤية ثابتة من عام لآخر عموماً مع تغيّر أولويات التنفيذ وأساليبه). ثم يرسل المستند لكل مرؤوس من مرؤوسيه المباشرين ويطلب منهم العمل مع فرقهم لإنشاء خطط مماثلة. ثم يراجع فريق القيادة بعد ذلك جميع الخطط لضمان تحقيق التواؤم الكامل على مستوى المؤسسة والالتزام بالهدف الاستراتيجي للأشهر الاثني عشر المقبلة، وهو ما يضمن أن تفهم كل وحدة في الشركة كيفية تحقيق التوازن بين الأهداف القصيرة المدى والرؤية الطويلة المدى في عملهم اليومي.
التجريب المركز
لا تنطوي مهمة قيادة تحقيق الرؤية الطويلة المدى من القمة على المؤسسين أو المدراء التنفيذيين فقط، بل يمكن للقادة في المستويات الأخرى أيضاً أن يتولوا عمداً توجيه فرقهم صوب تحقيق الغايات المنشودة الواسعة النطاق بمرور الوقت، لا سيما إذا لجؤوا إلى تكرار التجارب التي تحدث بالفعل في الشركة في سبيل بلوغ تلك الرؤى.
ولا تصبح الرؤى حقيقة واقعة غالباً؛ ولا نعرف دائماً ما يتطلبه بلوغها. وهنا يأتي دور التجريب؛ أي إجراء اختبارات صغيرة لتحديد ماهية الأساليب الناجحة والفاشلة في الطريق نحو الرؤية، مع توفير الدعم بشكل منتظم. قد لا تساعدك التجربة على بلوغ الغاية المنشودة التي تحاول الوصول إليها دون اتباع نهج مركز.
تأمّل قصة المسؤول التنفيذي غاري شولتن، الذي قاد جهداً ناجحاً لتحويل شركة برينسيبال فايننشال غروب (Principal Financial Group)، وهي شركة عالمية لإدارة الاستثمار، إلى مؤسسة رقمية على مدار 11 عاماً، على الرغم من كل المشتتات والتغييرات التي حصلت طوال فترة تولي 3 رؤساء تنفيذيين مختلفين زمام العمل.
قاد شولتن الدعوة إلى اتباع نهج رقمي أولاً عام 2011، عندما شغل منصب الرئيس التنفيذي لتكنولوجيا المعلومات في الشركة. وعلى الرغم من إحراز الشركة تقدماً مبدئياً مثيراً للإعجاب نحو تلك الرؤية، كانت استجابة كل وحدة عمل مختلفة، وهو ما جعل تلك الإنجازات غير متساوية. على سبيل المثال، تبنّت إدارة الأعمال التجارية الدولية الهواتف المحمولة بسرعة أكبر من نظيرتها في الولايات المتحدة لأن العديد من زبائنها يمكنهم الوصول بشكل أفضل إلى الهواتف المحمولة مقارنة بأجهزة الكمبيوتر.
يشغل شولتن اليوم منصب رئيس استراتيجية المؤسسة والرئيس التنفيذي للمعلومات، وقد تمكّن بعد عدة سنوات من تشكيل لجنة استراتيجية رقمية مهمتها الإشراف على تلك الجهود بالفعل (تضمنت المجموعة الرئيس التنفيذي للتسويق في الشركة والرؤساء التنفيذيين للمعلومات في وحدة العمل، وكبار قادة الشركات). حيث طوروا معاً عشرات التجارب الرقمية الجاري تنفيذها بالفعل في مستويات مختلفة من الشركة. وحددوا عند تقييم كل تجربة منها التجارب الست التي يجب أن تضاعف الشركة فيها جهدها وتستثمر فيها بشكل استباقي لإيمانهم بقدرتها على تحقيق نمو أسرع أو كفاءة أفضل أو قابلية أكبر للتوسع مقارنة بالمنافسين. وتضمنت تلك التجارب أدوات التسجيل في نظام التقاعد لمساعدة الموظفين على الادخار بمعدل أعلى، ونصائح آلية مضمنة في أحداث الحياة، وأدوات البحوث الاستثمارية القائمة على الذكاء الاصطناعي. وعندما تقاعد شولتن بحلول نهاية عام 2020، حققت تلك الاستثمارات (وغيرها من الاستثمارات التي أُجريت لاحقاً في عملية مماثلة) معدل عائد داخلي يتجاوز 20%، في حين أتت ثلثي الفوائد من نمو إجمالي الإيرادات، وقد حولت الشركة الكثير من أعمالها بالفعل إلى المنصات الرقمية.
التدريب والتعليم
يتمثّل النهج الثالث في الاستثمار في عملية تعليمية تمنح الموظفين في المؤسسة فهماً عميقاً لمعنى الرؤية وأهميتها في تحويل أعمالهم.
ومن الأمثلة على ذلك النهج خطة نائبة الرئيس السابقة لفرع البنك الدولي في منطقة جنوب آسيا، الدكتورة ميكو نيشيميزو. عندما شغلت نيشيميزو منصبها في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، عالج البنك الدولي قضايا التنمية الاقتصادية والحد من الفقر من خلال نهج تنازلي شمل إجراء تحليلات تقنية بقيادة الخبراء، وتعديل السياسات، والإقراض. ومع ذلك، تمثّلت رؤيتها في أن تتولى المنظومات والمجتمعات المحلية ملكية مصائرها الاقتصادية وأن تعمل مؤسسات مثل البنك الدولي بصفتها شريكة ومحفزة ومقدمة للموارد في سبيل دعم تحقيق تلك الرؤية.
وتطلبت تلك الرؤية تحولاً عميقاً في إجراءات البنك وفي كيفية عمل موظفيه مع الأفراد المحليين؛ حيث سافر موظفو البنك الدولي على مدى سنوات من واشنطن إلى بلدان أخرى لإعلام الحكومات بما يجب فعله. وهم يحتاجون اليوم إلى تعلم كيفية الإصغاء إلى المسؤولين، وإلى أولئك الذين عانوا الفقر ومن ثم العمل معهم على تطوير الحلول.
ولمساعدتهم على إحداث التغيير، أنشأت نيشيميزو ما يدعى اليوم "برنامج الاندماج في القرية" حيث يعيش أعضاء فريقها حياة الفقراء في قراهم مدة أسبوعين. وينطوي هدفها على مساعدة موظفيها في فهم الدور الجديد للمؤسسة فكرياً، وفي تطوير فهم عاطفي من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى تغييرات في السلوك. وجعلت نيشيميزو هذا البرنامج في النهاية إلزامياً لفئات معينة من الموظفين في منطقتها، وشارك فيه أكثر من 200 موظف على مدار عدة سنوات.
ومع تطور ذلك البرنامج، استمرت نيشيميزو في تلبية المتطلبات السنوية للمشاريع وعلميات الإقراض القائمة بالفعل، لكن مع تغير حساسيات موظفيها تدريجياً، غيرت طبيعة مشاريع المنطقة، وصورة البنك الدولي.
لا يُعتبر تطبيق تلك الأساليب سهلاً بالطبع، كما تتطلب جميعها تعديلات طوال الرحلة. فلا يزال بينيوف يحاول مع فريقه التعامل مع المفاضلات بين الرؤية الطويلة المدى والنتائج القصيرة المدى. وعلى الرغم من أن شولتن كان قادراً على تشجيع التجارب الرقمية بنجاح، لم يتمكن من بلوغ كامل الرؤية إلى أن أدرك ضرورة أن تضاعف الشركة جهدها في العديد من الاستثمارات على مستوى الشركة. وبالمثل، أحرزت نيشيميزو تقدماً في تغيير نهج "البنك الدولي" للحد من الفقر، من خلال منح كبار القادة فرصة تجربة الحياة في القرية، ومن خلال الفهم الجديد والتدريجي لكيفية إعادة تنظيم طبيعة مشاريع البنك.
إن تحويل الرؤية إلى حقيقة لا يحدث بين عشية وضحاها. لكن العزم والالتزام بتحقيق تلك الرؤية سيمثّلان أهم إسهاماتك كقائد.