تساهم الرؤى والخلاصات السلوكية (Behavioural Insights) التي يتم الحصول عليها من البحوث في مجالات واختصاصات متنوعة مثل علم الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم سلوكية عديدة إلى فهم أفضل لكيفية تصرف البشر واتخاذهم القرارات في حياتهم اليومية. فماذا عن الترغيب والتوجيه السلوكي في الشرق الأوسط؟
تمثل النجاحات الأخيرة التي تحققت بسبب تطبيق الرؤى والخلاصات السلوكية في السياسة العامة عامل ضغط تحفيزي للحكومات في جميع أنحاء العالم، وذلك لتعزيز الاستفادة من هذه الرؤى وزيادة الاعتماد عليها لاختبار السياسات من خلال تجارب الضبط العشوائية التي تُعد المعيار الذهبي للعلوم السلوكية. ومن شأن ذلك أن يساعد صنّاع القرار في الانطلاق من فرضيات أكثر واقعية حول سلوكيات الناس، وعدم الاعتماد على الحدس أو التخمين فقط عند صياغة السياسات الجديدة.
إنّ عملية الترغيب والتوجيه السلوكي تعرف أيضاً بتعبير "نادج" (Nudge) وهي عبارة عن عمليات صغيرة في هندسة الاختيارات تدفع الشخص للسير في الاتجاه الصحيح، وتتميز بفعاليتها من حيث التكلفة والحفاظ على الخيارات المتاحة للمرء. يعرّفها ريتشارد ثالر وكاس سانستين في أفضل كتبهما مبيعاً بأنها أحد التطبيقات العديدة للروئ والخلاصات السلوكية. وفي الحقيقة، استحوذ هذا المفهوم على اهتمام واسع النطاق منذ تأسيس أول وحدة للترغيب والتوجيه السلوكي في العالم في رئاسة الحكومة البريطانية، وهو فريق الروئ والخلاصات السلوكية (Behavioural Insights Team) المعروفة بوحدة "الترغيب"، الأمر الذي دفع العديد من الحكومات إلى تكرار هذه المبادرة من خلال تأسيس وحداتهم الخاصة. ومن المؤكد حتى اليوم وجود أكثر من 50 وحدة حكومية للترغيب والتوجيه السلوكي تعمل على إقامة تجارب في كل مجال من مجالات السياسة العامة بدءاً من إدارة الشؤون المالية العامة والشمولية وريادة الأعمال والصحة والتعليم وانتهاء بتعزيز ثقافة سيادة القانون ومكافحة الفساد ومنع التطرف.
اقرأ أيضاً: علم الاقتصاد السلوكي أفضل وقاية من الأنفلونزا
وقد تلقى هذا العلم دفعة مهمة بعد منح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لريتشارد ثالر، المؤسس المشارك لنظرية "نادج" لمساهماته الكبرى في علم الاقتصاد السلوكي. هذا وتشهد التجارب التي تستند إلى نظرية الترغيب والتوجيه السلوكي وغیرھا من الاختبارات السلوکیة انتشاراً ملحوظاً كونها أدوات فعالة من حیث التكلفة لإرشاد السياسة العامة وإحداث التغییر السلوكي المنشود.
وفي الشرق الأوسط، اتجهت عدة دول لتبني هذا المفهوم منها قطر والكويت ولبنان، حيث تأسست في شهر أغسطس/آب من العام 2016 وحدة الترغيب والتوجيه السلوكي تحت إشراف اللجنة العليا للمشاريع والإرث في الدوحة. كما أسس لبنان وحدته الخاصة كمنظمة غير حكومية وغير ربحية "نادج ليبانون"، ولكنها تعمل عن كثب مع الحكومة المركزية لتقوم بدور وحدة الترغيب والتوجيه السلوكي الفعلية للدولة. ولحقت دولة الكويت بهذه الدول بتأسيس وحدتها في المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية وسيطلق عليها اسم "مختبر الكويت لتقييم السياسات" (KPAL)، بينما تستعد المملكة العربية السعودية لإطلاق وحدتها في المركز الوطني للدراسات الاستراتيجية التنموية. وهناك بلدان أخرى في المنطقة تعمل على دراسة مبادرات شبيهة في هذا المجال.
دروس عملية حول الترغيب والتوجيه السلوكي
وبالنظر إلى مراجعة عمل عدد كبير من وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي في جميع أنحاء العالم، يمكن إحصاء العديد من الدروس المستفادة، منها ما هو مهم للدول العربية التي ما زالت في طور تأسيس وحداتها الخاصة وبناء قدرات الفرق العاملة فيها وتحديداً في مجالات الاقتصاد السلوكي وإجراء الاختبارات السلوكية على السياسات.
الدرس الأول:
يمكن أن يتخذ تأسيس وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي أشكالاً قانونية عديدة. وهناك في الحقيقة أربعة أشكال أساسية يمكن أن تتخذها الوحدات العاملة في مجال تطبيقات الروئ والخلاصات السلوكية وهي على الشكل التالي:
1-الشكل الحكومي: تعمل غالباً وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي الحكومية كوحدات تخطيط وسياسات وخطط استراتيجية تقوم بتجارب ميدانية مستخدمة الروئ والخلاصات السلوكية لاختبار فعالية السياسات والبرامج. وفي بعض الحالات، تكون وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي هيئات شبه حكومية، ومن أمثلة ذلك فريق الروئ والخلاصات السلوكية بالمملكة البريطانية المتحدة.
2- الشكل الأكاديمي: أنشأ عدد كبير من الجامعات مجموعة مراكز للروئ والخلاصات السلوكية، وذلك للقيام بتجارب الترغيب والتوجيه السلوكي، ولكنها تهدف بشكل أساسي للانخراط في إجراء التجارب الميدانية على السياسات من الناحية العلمية مع التشديد على نشر النتائج في مجلات أكاديمية، كما تدخل في أعمال استشارية ويكون ذلك عادة بالتعاون مع الحكومات والمؤسسات غير الحكومية.
اقرأ أيضاً: كيف تتحدد اختياراتنا وفقاً لعلم الاقتصاد السلوكي؟
3- الشكل غير الحكومي: أصبحت المؤسسات غير الحكومية التي تعنى بالروئ والخلاصات السلوكية شائعة، هي الأخرى وتجري تجارب سلوكية وبحوث في مجال السياسات العامة بعيداً عن الحقل الأكاديمي والحكومي، وإن كان ذلك بالشراكة مع هذه الهيئات.
4- الشكل الخاص: يشمل النوع الأخير شركات من القطاع الخاص ذات منفعة عامة تشارك هي الأخرى في التجارب السلوكية. من هذه الشركات على سبيل المثال، شركات الاستشارات الإدارية العامة والشركات التي تعنى بالمجال الاجتماعي، كالشركة الدنماركية آي ندج يو (iNudgeYou) أو كما أصبح حال فريق الرؤى السلوكية البريطاني بعد خصخصة جزئية حافظت فيها الحكومة على ثلث الملكية، بينما حصل كل من الموظفين على الثلث ومؤسسة نستا (Nesta) على الثلث أيضاً.
وفي الشرق الأوسط، فإنّ وحدات التوجيه السلوكي المتمركزة في دول مجلس التعاون الخليجي هي بالعادة إما وحدات حكومية أو منظمات غير حكومية. إلا أنه يمكن للمراكز الأكاديمية أن تكون البديل الفعال في تلك الدول آخذة بالاعتبار مزاياها الاجتماعية والثقافية التي من شأنها أن تجعل المواطنين يتفاعلون بشكل أفضل تجاه نوع معين من السلوك دون الآخر. ونظراً لتخوف الكثيرين من تلاعب المراكز الحكومية، فإنهم يرون أن إنشاء منظمات الروئ والخلاصات السلوكية عبر المؤسسات غير الحكومية أكثر جاذبية في هذه المرحلة.
الدرس الثاني:
يختلف نفوذ وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي ومراكز الروئ والخلاصات السلوكية باختلاف مواقعها في الدولة، حيث تتمتع العديد من هذه الوحدات مثل فريق الروئ والخلاصات السلوكية للمملكة البريطانية المتحدة بنفوذ واسع ودعم قوي من الإدارات العليا لا سيما في المراحل الأولى لإنشائها. والأهم من ذلك، أنّ وجود هذه الوحدات في المراكز العليا في الدولة يمكّنها من بلورة رؤية شاملة على صعيد الدولة ككل، ويعطيها القدرة على التركيز على الأولويات الاستراتيجية وجعلها في المقدمة والاستفادة من الدعم والرؤية السياسية بعيدة المدى.
وبغض النظر عن موقع الوحدة أي سواء كان ذلك على مستوى الوزارات أو المستويات التنفيذية العليا، فإنّ التمتع بالدعم السياسي أمر أساسي لتشغيل أي وحدة ترغيب وتوجيه سلوكي، خاصة إذا كان لهذه الوحدة منظومة عمل على النطاق الوطني. ويعد الحصول على البيانات الدقيقة مطلب أساسي للقيام بتجارب الضبط العشوائية. وبما أنّ الحكومات تتربع على ثروة معلوماتية، فإنّ إتاحة الحصول على هذه البيانات أمر أساسي.
اقرأ أيضاً: كيف تبني مهارات العلوم السلوكية في شركتك؟
الدرس الثالث:
يختلف نطاق عمل وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي وخدماتها بحسب طبيعة عمل الإدارة التي ترتبط بها. تتميز بعض وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي بنطاق عمل واسع في حين تتميز الأخرى بنطاق عمل محدود كتلك الموجودة في وزارات متخصصة، على سبيل المثال، وحدة الترغيب والتوجيه السلوكي في وزارة القوى العاملة بسنغافورة ووحدة الترغيب والتوجيه السلوكي التابعة لوزارة البيئة اليابانية، وغيرهما. كذلك لدى العديد من البلدان مثل سنغافورة وهولندا والمملكة المتحدة، وحدات ترغيب وتوجيه سلوكي في العديد من وزاراتها. على الرغم من تنوع اختصاصاتها ومجالات عملها، فإنّ معظم هذه الوحدات تهدف أيضاً إلى تحقيق هدف مشترك وهو تحسين تقديم الخدمات العامة وتطوير عملية صنع السياسات المعززة بالأدلة والوقائع كل في نطاق عمله.
أخذت وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي بالتوسع تدريجياً في نطاق الخدمات التي تقدمها خارج نطاق تصميم تجارب الضبط العشوائية. فبالإضافة إلى الخدمات التي تقدمها هذه الوحدات، تقوم العديد من هذه الوحدات بتقديم برامج تدريبية للمساعدة في بناء القدرات في الإدارات العامة على كيفية إدخال الروئ والخلاصات السلوكية في تصميم البرامج والسياسات الخاصة بها، وكذلك تنفيذ تجارب الضبط العشوائية في هذه المجالات. وتقدم العديد من الوحدات خدمات خارج الحدود الجغرافية لدولها التي تتمركز فيها. وبالنسبة للدول التي وحداتها الخاصة هي قيد الإنشاء، فالخيار الأمثل هو الاستعانة بالوحدات والمراكز الأكاديمية الموجودة من أجل بناء الخبرات ودعم عملية الإنشاء.
الدرس الرابع:
لا توجد منهجية واحدة لإنشاء وإطلاق وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي. استُخدمت منهجيتان أساسيتان في المنطقة لإنشاء وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي وهما: إطلاق تجارب السياسات عقب تفعيل الوحدة، أو إنشاء الوحدة عقب اختبار السياسات المعنية.
في حين أنّ الإعلان عن إطلاق وحدة جديدة للترغيب والتوجيه السلوكي يسلط عليها الضوء بين المهتمين وأصحاب الشأن على الصعيدين المحلي والدولي، إلا أنه من المرجح أن يتسبب ذلك في خلق توقعات عالية من فريق الوحدة، ما يشكل عليها ضغطاً كبيراً لتحقيق نتائج سريعة. وقد اختارت قطر النهج الأول. وثمة بديل قابل للتطبيق وهو إطلاق الوحدة على خلفية اختبار أو أكثر للسياسات الحكومية، وهذا يزيل الضغوط عن فريق العمل ويتيح له مزيداً من الوقت للتخطيط وبناء القدرات والتوعية. كما أنه يتيح الوقت لتطوير الشراكات والحصول على تأييد المهتمين وأصحاب الشأن على الصعيد الوطني. واتبع لبنان النهج الأخير، حيث أطلقت وحدة لبنان للترغيب والتوجيه السلوكي (نادج ليبانون) على خلفية تجارب متعددة. ومع تزايد الوعي بفاعلية الترغيب والتوجيه السلوكي والروئ والخلاصات السلوكية في العالم العربي، فإنها مجرد مسألة وقت حتى تأسس معظم الحكومات وحدات توجيه سلوكي داخل هياكلها التنظيمية.
كما يمكن أن يكون الإطلاق مزيجاً من المنهجيتين، وذلك بإطلاق الوحدة بالتوازي مع إطلاق استراتيجيتها وإحدى مبادراتها، وهذا ما يقوم به "مختبر الكويت لتقييم السياسات" إذ ستقوم الوحدة بتدريس مادة العلوم السلوكية مع الجامعة الأميركية في الكويت.
الدرس الخامس:
في مرحلة التشغيل الأولية، تهدف العديد من الوحدات عادة إلى تحقيق النجاحات السريعة والمكاسب سهلة المنال، وذلك بهدف زيادة الوعي حول استخدام أساليب التوجيه السلوكي في السياسة العامة وبرهنة صوابية هذا المفهوم.
أثبت هذا الدرس فعاليته، حيث تم الاعتماد على تحقيق النجاحات السريعة في المراحل المبكرة من أجل إثبات أهمية وفعالية مفاهيم الترغيب والتوجيه السلوكي وخلق الثقة بالأعمال التي تقوم بها هذه الوحدات. وفي حين أنّ هذه المسألة مهمة للبلدان العربية التي لا زالت تنشئ مبادراتها الخاصة في هذا المجال، إلا أنه يجب العمل على المكاسب السريعة والتجارب الصغيرة، بالإضافة إلى مشاريع أكبر في مجالات وسياسات أكثر تعقيداً وذات تأثير استراتيجي أكبر وذلك على المدى البعيد.
الدرس السادس حول الترغيب والتوجيه السلوكي:
عند قيام فرق العمل بتصميم وإجراء التجارب، من المهم أخذ "أهمية السياق" بعين الاعتبار: فما نجح في منطقة جغرافية معينة قد لا ينجح بالضرورة إذا طُبق في منطقة جغرافية أخرى، ومن هنا تتأكد الحاجة إلى إجراء التجارب. في الواقع، يتعلق الكثير من الترغيب والتوجيه السلوكي بتغيرات صغيرة في السياق تؤدي إلى التغيّر المطلوب. ولذلك، فإنّ فهم السياق المحدد الذي يُجرى فيه الاختبار مهم جداً لتحقيق النجاح، خاصة في المراحل الأولى، حيث يسعى الفريق للعمل على اختبارات مقتبسة من مناطق مختلفة من العالم سعياً وراء النجاحات السريعة لتقديم البراهين على جدوى المبادرة. ولدراسة الخلاصات المستفادة من التجارب الأخرى، سواء كانت تجارب ناجحة أم غير ناجحة، أهميتها الخاصة لصياغة التصميم الناجح، وتكون أهمية ذلك أكثر بالنسبة للدول العربية، إذا ما أخذنا في الاعتبار سياقها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الخاص الذي يكون له صلة وثيقة بتوسيع نطاق التجارب السلوكية.
الدرس السابع:
على الرغم من زيادة وتيرة تأسيس الوحدات حول العالم، أصبح استخدام الروئ والخلاصات السلوكية والترغيب والتوجيه السلوكي أمراً شائعاً حتى خارج نطاق هذه الوحدات المتخصصة. ويظهر ذلك جلياً مع حقيقة تشجيع العديد من الحكومات للجهات الرسمية والمؤسسات العامة على استخدام مفاهيم الروئ والخلاصات السلوكية في أعمالها حتى من دون وجود وحدة مكرسة لذلك. وهذا يعني من الناحية العملية أنّ الاختبارات تُجرى داخل الهيئات الحكومية (كإدارات تعنى بالسياسات والاستراتيجيات العامة والتقييم)، بالتعاون مع الجهات الأكاديمية ووحدات الترغيب والتوجيه السلوكي في الدولة (إذا وجدت) أو في الخارج، لا سيما إذا كانت القدرة على إجراء تجارب مكتملة لا تزال غير متوفرة لدى الجهة المعنية. والأهم من ذلك بالنسبة للبلدان العربية هو نشر هذه الثقافة الجديدة لإجراء تجارب لهذه السياسات في جميع الجهات الحكومية، والتخطيط لبناء القدرات العلمية والعملية لذلك على المدى المتوسط والبعيد.
الدرس الثامن:
إنّ نشر الوعي حول فعالية وتأثير المشاريع التي حققت المكاسب السريعة فور الانتهاء منها من خلال قنوات التواصل المعروفة، والتي تمتاز بالشفافية، يعد أمراً في غاية الأهمية. ومن الممارسات الشائعة للوحدات التي تنشط في الترغيب والتوجيه السلوكي أن تنشر ما يتعلق بتجاربها بصورة منتظمة من خلال مواقعها الإلكترونية والتقارير السنوية التي تصدر عنها. وقد ظهر اتجاه حديث بنشر ومشاركة معلومات عن التجارب التي أخفقت لأن هذه التجارب في بعض الحالات لا تقل أهميتها عن التجارب الناجحة، كما أنها تعزز السلوك الأخلاقي. أما بالنسبة للبلدان العربية، فهذا أمر بالغ الأهمية، نظراً لوتيرة التعلم الناجمة عن التجارب الناجحة والفاشلة. ويمكن أن يكون ذلك أيضاً بمثابة إجراء يعمل على بناء الثقة بين المواطنين من ناحية، ووحدات الترغيب والتوجيه السلوكي الحكومية من ناحية أخرى. وفي مرحلة لاحقة لا بدّ من التفكير بالذهاب إلى أبعد من ذلك عبر نشر مسبق لموجز عن الاختبار المزمع القيام به لخلق عامل ضغط للالتزام بالنشر عند انتهاء الاختبار، كون مشروع الاختبار أصبح في الحقل العام ومن الصعب التراجع عن نشر النتائج بسهولة.
الدرس التاسع:
يشكل الدعم من الأطراف المعنية عنصراً رئيسياً في تصميم وتنفيذ التجارب السلوكية. ويعد التعاون والتفاعل المباشر مع ذوي العلاقة في المؤسسة المعنية بالاختبار بدءاً من المستوى الأدنى وحتى المستوى الأعلى أمراً مهماً في عملية تصميم التجارب الفعالة، حيث يوفر هذا الأسلوب فهماً للجوانب التشغيلية والتعرض للتحديات والعقبات المباشرة على أرض الواقع. ويتيح ذلك لوحدة الترغيب والتوجيه السلوكي تحديد فرص التدخل وتصميم تجارب محددة الهدف بشكل أكبر.
حتى لو كان اقتراح موضوع السياسات الرئيسية موضع التحدي من قبل القيادة العليا، فإنّ المشاركة الوثيقة من الأطراف ذات العلاقة في تصميم تجارب الضبط العشوائية أمر حيوي لنجاح التدخل السلوكي. ويمثل وضع جدول الأعمال القائم على ورش العمل لاختبار السياسات وسيلة مهمة للحصول على دعم المؤسسات المستفيدة ومساعدتها في امتلاك هذه التجارب. إنّ لهذا النهج الجديد في وضع جداول أعمال السياسات ميزة إضافية لتطوير القدرات في مجال العلوم السلوكية وتجارب السياسات العامة على الصعيد الوطني. وفي المنطقة التي تعتبر فيها المعلومات مصدراً من مصادر القوة، يمكن أن تحول السيطرة المفرطة على المعلومات من تقدم العلوم السلوكية والتجارب السياسية في الحكومة. وقد يتطلب ذلك خططاً تحفيزية خاصة للموظفين في الدوائر الرسمية.
الدرس العاشر:
تتزايد أعداد المجتمعات الممارسة للاقتصاد السلوكي (Communities of Practice) وفرق التعاون بين الوكالات حول الترغيب والتوجيه السلوكي. ومن المهم عقد اجتماعات لجمع الخبراء والممارسين تحت سقف واحد للتعاون وتبادل المعرفة. وتميل مجتمعات ممارسة الاقتصاد السلوكي إلى عقد لقائات غير رسمية بانتظام لتبادل المعلومات حول العلوم السلوكية في مختلف المجالات، ومواكبة أحدث نتائج الاختبارات ومناقشة التجارب والتطبيقات الجديدة للعلوم السلوكية على السياسة العامة بالإضافة إلى تنظيم المنتديات والدورات التدريبية. وتحظى بعض هذه المجتمعات بدعم منصات إلكترونية مفتوحة للمشاركين المحليين أو الدوليين، ومن أمثلة ذلك مبادرة حديثة للمنتدى الاقتصادي العالمي، والتي تسعى إلى جمع وتبادل المعرفة المتعلقة بالروئ والخلاصات السلوكية.
ويجري حالياً إعداد مبادرة حديثة لانضمام الدول العربية إلى تلك الجهود وإطلاق مجتمع للممارسة على صعيد العالم العربي تحت مسمى المبادرة العربية للتوجيه السلوكي أو (ARABEC).
الدرس الحادي عشر:
من الخلاصات المهمة التي تم جمعها من النقاط المرجعية، هي أنه على الرغم من وجود عمليات مراجعة أخلاقية صارمة من قبل الجامعات للترغيب والتوجيه السلوكي، والتي تتم عادة من خلال مجلس المراجعة (Institutional Review Board)، فإنّ عديداً من مبادرات الترغيب والتوجيه السلوكي غير الأكاديمية بدأت تطور بدورها شكلاً من أشكال عمليات المراجعة الأخلاقية (أو على الأقل، تعتمد عمليات المراجعة الخاصة بالمؤسسات الأكاديمية الشريكة عندما تكون جزءاً في تجارب مشتركة). ومجلس المراجعة الأخلاقية هو عبارة عن لجنة تقوم بموافقة ومراقبة ومراجعة البحوث الطبية والسلوكية التي تنطوي على البشر لضمان اتخاذ التدابير المناسبة لحماية حقوق ومصلحة المشاركين. مع الأخذ في الاعتبار، الاهتمام الخاص بالبحوث السلوكية التي تقوم بها الوحدات الحكومية، كالبحوث عن أثر المخاوف الأخلاقية والخوف من التلاعب. تعمد أعداد متزايدة من الوحدات إلى تطوير عمليات مراجعة خاصة بها. فلدى فريق الاقتصاد السلوكي التابع للحكومة الأسترالية عملية مراجعة خاصة به، حيث تخضع جميع المشاريع لتقييم المخاطر الأخلاقية التي يجريها كبار المسؤولين لاتخاذ القرارات بشأن نوع ومستوى المراجعة الأخلاقية المناسبة. وقد وضعت كل من وحدات قطر ولبنان والكويت عمليات مراجعة داخلية. وقد دأب لبنان مؤخراً بالاعتماد على المراجعات من قبل الجامعات خاصة بالاختبارات التي تتعلق بمجموعات أكثر عرضة للمخاطر. وينبغي تشجيع جميع الأطراف التي تهدف إلى إجراء تجارب سلوكية على تطوير عمليات مماثلة خاصة بها.
الدرس الثاني عشر:
من الشائع أن يكون لوحدات الترغيب والتوجيه السلوكي مجموعة مجالس استشارية مكونة من الأكاديميين والممارسين. وعادة ما تتوفر هذه المجالس الاستشارية في كل من الوحدات الحكومية وغير الحكومية وتتألف من أعضاء رفيعي المستوى من الأكاديميين والممارسين الذين يدعمون الدور الذي تقوم به هذه الوحدات ويقدمون التوصيات التوجيهية والإشراف العام على سير هذه الوحدات وفق أهداف الرؤية الاستراتيجية للوحدة. على سبيل المثال، ريتشارد ثالر، الفائز بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2017، هو عضو في مجلس إدارة فريق الروئ والخلاصات السلوكية التابع للمملكة البريطانية المتحدة. وقد أنشأت وحدات التوجيه السلوكي في الدول العربية مجموعة مجالس تجمع بين أكاديميين رفيعي المستوى وممارسين في مجال العلوم السلوكية والسياسة العامة.
الدرس الثالث عشر:
بغض النظر عن موقع وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي ومهمتها الأساسية ونظام حوكمتها، إلا أنّ وجود علاقة قوية بينها وبين الأوساط الأكاديمية هو عامل نجاح رئيسي لهذه الوحدات والمراكز. بالنسبة للبلدان العربية، يمكن الحفاظ على روابط وثيقة مع الأوساط الأكاديمية من خلال ضم الأساتذة الجامعيين كجزء من اللجان والمجالس الأكاديمية بهدف إجراء تجارب مشتركة، فضلاً عن دعوة الزملاء والمتدربين للمشاركة. ويمكن تحقيق ذلك أيضاً من خلال إقامة شراكات مع الأوساط الأكاديمية. ومن الأمثلة على الشراكات بين وحدات الترغيب والجامعات، استضافة الأكاديميين كزملاء زائرين (visiting fellows) لقضاء فترة من الزمن ضمن فريق الوحدة أو بالعكس عبر إتاحة فرصة لبعض العاملين في الوحدة للتدريس في الجامعة. وفي هذا السياق تم تطبيق هذا المفهوم الآن في لبنان بين الجامعة الأميركية في بيروت ووحدة لبنان للترغيب والتوجيه السلوكي "نادج ليبانون" عبر مقرر تم تدريسه كجزء من ماجستير الاقتصاد في الجامعة.
وأطلقت "نادج ليبانون" مؤخراً مبادرة "مختبر سياسات المواطن المستهلك" (Consumer-Citizen Lab) وهي مبادرة أكاديمية تمولها مؤسسة كارنيغي، حيث تسعى لإدراج مفهوم الاقتصاد السلوكي واختبار السياسات العامة إلى الجامعات عبر تشجيع الشراكة في الاختبارات السلوكية وغيره من أشكال التعاون كتقديم مقررات دراسية في الجامعات. وهناك خطط أخرى جارية لتوسيع نطاق هذا المفهوم في بلدان أخرى والمشاركة في بناء القدرات لدى العاملين في القطاع الحكومي وغير الحكومي عبر تقديم شهادات مهنية في مجال العلوم السلوكية.
الدرس الرابع عشر:
إنّ تنوع الخبرة والخلفية العلمية للفريق أمر ضروري لإجراء التجارب السلوكية بشكل فعال. وتبدأ معظم وحدات الترغيب والتوجيه السلوكي بفرق عمل صغيرة وتنمو تدريجياً، إلا أنها تظل صغيرة نسبياً مع بعض الاستثناءات القليلة في هذا الاتجاه (فمثلاً يوظف فريق الرؤى والخلاصات السلوكية التابع للمملكة البريطانية المتحدة ما يزيد على 120 موظفاً). يشار إلى أنّ وحدات الترغيب غالباً ما تسعى إلى توظيف كوادر ذوي تخصصات أكاديمية ومهارات متنوعة بما في ذلك خبراء السياسة العامة وعلماء النفس والاقتصاديون والاقتصاديون السلوكيون وغيرهم من العاملين في المجال السلوكي والإحصائيين ومحللي البيانات وغيرهم. وقد بدأت بلدان كثيرة في المنطقة وحداتها عبر فرق تتألف من حوالي 4 أو 5 أشخاص تنمو تدريجياً بعد ذلك مع نضوج الوحدة.
الدرس الخامس عشر:
يشهد العالم مزيداً من التعاون والتبادل بين الدول في مجالات الرؤى والخلاصات السلوكية، وعادة ما تعقد اجتماعات كبيرة لتبادل المعرفة والتواصل بين الممارسين والأكاديميين. ويعد مؤتمر التبادل السلوكي الذي بدأ في العام 2014 وهو أكبر حدث عالمي للروئ والخلاصات السلوكية في مجال السياسة العامة، والذي يجذب العديد من المشاركين من بينهم خبراء من القطاعات الأكاديمية والعامة والخاصة من جميع أنحاء العالم. وقد أخذ المنتدى الاقتصادي العالمي أيضاً زمام المبادرة للتعاون في تبادل المعرفة في ما يتعلق بالرؤى والخلاصات السلوكية وإنشاء منصات لهذا الغرض. أما بالنسبة للبلدان العربية، فلم تستضف حدثاً بهذا النطاق الواسع بعد، ويجري العمل على تنظيم مثل هذا الحدث بين الوحدات الفاعلة في المنطقة.
اقرأ أيضاً: صعود نجم الاقتصاد السلوكي وتأثيره على الشركات
الدرس السادس عشر:
يزداد اعتماد المنظمات الدولية على مبادئ الرؤى والخلاصات السلوكية في أعمالها. وقد بدأ فريق من هذه المنظمات بالفعل في إدراج الرؤى والخلاصات السلوكية ضمن تصميمات البرامج وتقييم الأثر. ويؤدي ذلك إلى ظهور مساندة تقنية قائمة على قواعد ومبادئ مستوحاة من العلوم السلوكية والتي تسعى إلى تصميم المشاريع والبرامج بهدف تحقيق أغراض التنمية. حتى إنّ بعضاً من هذه المنظمات أنشأت وحدات مخصصة لتطبيق الرؤى والخلاصات السلوكية على برامج المساعدة التقنية التي يقدمها لشركائه من الحكومات والمنظمات. ومن هذه المنظمات نذكر كلاً من البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومبادرة الأمين العام للأمم المتحدة.
ملاحظات ختامية حول الترغيب والتوجيه السلوكي
سوف يُحدث الاستخدام المتزايد للرؤى والخلاصات السلوكية في الشرق الأوسط تغييراً كبيراً، حيث سيساعد الحكومات في المنطقة على التصدي لبعض التحديات التي تتعلق بسياساتها (والتي لها الجذور السلوكية). وينبغي ألا يُنظر إلى هذه التجارب السلوكية على أنها الحل الشامل للمشاكل التي تعاني منها الحكومات، إلا أنّ التجارب السلوكية المخطط لها بشكل جيد تساعد في إجراء تحسينات ملحوظة في البرامج والسياسات٬ على سبيل المثال٬ في تقليل استهلاك الطاقة من خلال استخدام المعايير والمقارنات الاجتماعية، وزيادة نسبة ادخار الأفراد للمستقبل من خلال استخدام برامج تعمل على تغيير نسب الادخار بشكل تلقائي بعد انتساب الأفراد إليها، وتحسين محصلّات التعليم من خلال تعزيز تفاعل أولياء الأمور، وتعزيز الالتزام بقواعد ونظم المرور من خلال توجيه الأشخاص باستخدام رسائل واضحة وبارزة، وتشجيع الأشخاص على إجراء فحوصات طبية دورية باستخدام آليات الالتزام، إلى آخره. ومع تزايد الضائقة المالية العامة في الشرق الأوسط، فإنّ استخدام الروئ والخلاصات السلوكية في تسريع عملية دفع الضرائب أو الفواتير سيحتل أهمية بالغة لما سيترتب عليه من زيادة قدرة الحكومات على تحصيل الأموال المستحقة من الأفراد.
من الواضح أنّ زيادة الاعتماد على العلوم السلوكية يتيح الكثير من الفرص في المنطقة في ما يخص التأثير على السياسة العامة وصنع القرار في القطاع الخاص. ومن المسائل التي ستلقى اهتماماً متزايداً، هي البيانات الضخمة التي إذا استخدمت في التجارب السلوكية سوف تساعد في فهم أفضل لسلوك الناس وتوقعات أكثر دقة حول توجه هذا السلوك مستقبلاً. فزيادة مصادر المعلومات من إنترنت الأشياء (internet of things) من شأنه أن يزيد من وفرة ونوعية المعلومات بشكل كبير. يبقى أنّ نجاح هذه الاختبارات رهن بصحة البيانات المستخدمة وبفعالية المنهجية المعتمدة في جمع هذه البيانات وتصنيفها وتحليلها. في الوقت نفسه، لا يمكن أن نضمن بشكل دائم حسن النوايا عند إجراء تجارب سلوكية .
لهذا، ينبغي تركيز الجهود على الترغيب والتوجيه السلوكي والتدابير المتعلقة بالأخلاقيات وبالشفافية حول هذه التجارب مثل نشر تفاصيل ونتائج التجارب على منصة إلكترونية، على ألا يقتصر أمر النشر على التجارب الناجحة والفاشلة، وإنما على التجارب المخطط لها، وهو ما يعتبر ترغيباً وتوجيهاً سلوكياً يرمي إلى تجنب أي سوء استخدام وتلاعب محتمل.
اقرأ أيضاً: تعميم أفكار العلوم السلوكية ضمن الحمض النووي للمؤسسات