ملخص: عززت حقبة العمل المرن الجديدة ثقافة العمل الإضافي التي ثبت أنها تؤثر سلباً في الصحة النفسية للموظفين. تقدم المؤلفة ماليسا كلارك في كتابها الجديد "العمل بلا توقف" (Never Not Working)، عملية من 3 خطوات للمؤسسات لتصحيح هذه العلاقة غير الصحية: 1) قيّم المستوى الأساسي لثقافة العمل الإضافي في شركتك وجذورها؛ 2) خطط لتغيير تدريجي من خلال الإسراع باستهداف المجالات التي ستكون فعالية التغيير فيها أعلى؛ 3) نفّذ تجربة وتعلّم من النتائج وكررها.
ترى الأستاذة المشاركة في جامعة جورجيا ورئيسة مختبر العمل الصحي (Healthy Work Lab) فيها، ماليسا كلارك، أن الحدود بين الحياة المهنية والحياة الشخصية أصبحت غير واضحة في مشهد العمل ما بعد الجائحة، إذ تجاوز العمل المساحات المكتبية وساعات العمل التقليدية. في كتابها الجديد "العمل بلا توقف: لماذا تضر ثقافة العمل المستمر الشركة وكيف يمكن تصحيحها" (Never Not Working: Why the Always-On Culture Is Bad for Business and How to Fix It) الذي صدر عن هارفارد بزنس ريفيو برس، تتعمق كلارك في وباء العمل الإضافي المنتشر حالياً وأسوأ مظاهره، وكيف سمح جيل كامل من الموظفين دون قصد لوظائفهم بالسيطرة على حياتهم. يحدد هذا المقتطف الذي خضع لبعض التعديلات، خطوات واضحة يمكن للمؤسسات اتخاذها لتصحيح ثقافة العمل الإضافي من أجل تحسين رفاهة موظفيها في نهاية المطاف.
تربطنا بالعمل علاقة غير صحية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فقد بلغت مستويات الاحتراق الوظيفي والتوتر حدوداً غير مسبوقة، ووصفت منظمة الصحة العالمية التوتر بأنه وباء القرن الحادي والعشرين، حتى من قبل الجائحة. ولكن ما المصدر الرئيسي للتوتر؟ وظائفنا بالطبع. أجرت شركة مايكروسوفت عدة دراسات لتحليل بيانات الضربات على لوحة المفاتيح واستخدام برنامج المحادثة التعاوني تيمز (Teams)، وكشفت النتائج عن اتجاهين مثيرين للقلق: كنا أكثر ميلاً إلى العمل مساءً وقبل النوم مباشرة خلال فترة الجائحة مقارنة بما قبلها، وارتفع عدد الرسائل المرسلة والمستلمة في عطلات نهاية الأسبوع بنسبة 200%، والآن بعد مرور 3 سنوات على الجائحة أصبحت الأنماط التي ظهرت خلالها هي القاعدة.
عندما انتقلنا إلى العمل من المنزل، تشوش الحد الفاصل بين العمل والحياة الشخصية، واعتدنا النمط الجديد غير الرسمي من الإفراط في العمل، على غرار الطريقة التي يطور بها المرء عادة سيئة. والأسوأ من ذلك هو أن عبء العمل المتزايد هذا والحاجة إلى التواصل بشأن العمل وأنماط التواصل المتغيرة قد أُضيفت إلى جدول مواعيدنا الحالي، ونتيجة لذلك بتنا نقضي وقتاً أطول في العمل ونرتبط به أكثر من أي وقت مضى. الحقيقة المرة هي أن العمل الإضافي بلغ أعلى مستوياته على الإطلاق، وطبيعة العمل الجديدة تُفاقم المشكلة.
نستخدم في علم النفس الصناعي مصطلح "إدمان العمل" (Workaholism) لوصف هذه الظاهرة، وهو لا يعني بالضرورة العمل ساعات إضافية، فالترابط بين عدد ساعات العمل والعمل الإضافي الإشكالي أو إدمان العمل ضعيف في الواقع. يشير مصطلح "إدمان العمل" إلى حالة مؤذية من عدم القدرة على الانفصال عن العمل، إذا هيمن العمل على أفكارك وأنشطتك على حساب الجوانب الأخرى من حياتك وعلاقاتك وصحتك، فلديك ميل إلى إدمان العمل. من المهم أن نلاحظ أن إدمان العمل ليس تشخيصاً سريرياً وليس مدرجاً في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية (DSM)، لكن الأدبيات البحثية التي درسته عميقة ومقنعة، وخلصت جميعها إلى أن إدمان العمل ضار للأفراد والمؤسسات التي غالباً ما تعززه دون قصد.
عندما ناقشت مشكلة الإدمان على العمل مع المؤسسات، وكيف يمكن أن تشجعه دون قصد، سمعت كل الأعذار الممكنة التي قد تتخيلها مراراً وتكراراً، وإدمان العمل في المؤسسات التي تسود فيها ثقافة العمل الإضافي مقبولٌ ومتوقع تماماً، فالشركات ازدهرت نتيجة اتباعها هذا النهج، فلماذا تغيره إذاً؟ وفي المقابل، ما أقترحه هو أن هذا النهج ليس فعالاً كما قد نفترض ويجب على المؤسسة أن تفكر في تغييره، ولكن بالنظر إلى طبيعة الثقافة المؤسسية والتحديات التي تواجه تغييرها، فمقاومة هذا التغيير جانب طبيعي بل متوقع.
إذا أردت ألا تكون مؤسستك واحدة من تلك المؤسسات فالتغيير ضروري، قد يكون رد فعلك التلقائي هو التفكير في أن التغيير لن ينجح في مؤسستك أو أن فريقك لن يستطيع مواكبة وتيرة العمل، لكن ذلك غير صحيح، وبديل أسلوب عملك الحالي ليس سيئاً مثلما تعتقد.
بمجرد إدراكك الحاجة إلى التغيير يجب أن تضع خطة للتغلب على ثقافة إدمان العمل، وفيما يلي عملية من 3 خطوات تبدأ بها.
الخطوة الأولى: قيّم المستوى الأساسي لثقافة العمل الإضافي في شركتك وجذورها
ابدأ بتقييم مدى انتشار ثقافة العمل الإضافي في المؤسسة وتحديد الأفراد أو العوامل التي تديمها، وستعتمد إجراءاتك اللاحقة على هذا الأساس. وباستعارة مفهوم من أدبيات التدريب والتغيير المؤسسي، أقترح البدء بما يسمى "تقييم الاحتياجات"، وهو يساعد على تحديد المجالات التي تتطلب التغيير وتقييم مستوى الدعم (أو المعارضة) لمبادرة التغيير، ويوضح الصورة الشاملة لاحتياجات التدريب على مختلف مستويات التحليل.
يتوافر عدد من أطر تقييم الاحتياجات التي يمكنك استخدامها وتهدف عموماً إلى الإجابة عن سؤالين أساسيين:
- ما المجالات التي تتطلب التغيير؟
- ما مستوى الدعم المتوافر لتنفيذ هذا التغيير؟
يجب أن يتولى إجراء هذا التقييم أفراد لديهم خبرة فيه، مثل المهنيين الذين خضعوا إلى التدريب في مجال إدارة التغيير. ومن المهم أيضاً بناء علاقات مع كبار المدراء في المؤسسة، لأن بعضهم قد يبدي خشية من هذا التغيير أو مقاومة له، لذلك كلما كانت العلاقة معهم أفضل ازداد احتمال قبول نتائج التقييم.
إذا شعر الموظفون بالتهديد من التغييرات المقترحة ولم يطمئنوا إلى أنهم لن يواجهوا عواقب سلبية، فالمبادرة محكوم عليها بالفشل. يجب أن يستهدف تقييم ثقافة العمل الإضافي 3 مستويات: التنظيمي والوظيفي والشخصي، وسيكشف هذا التقييم عن العوامل التي تغذي ثقافة العمل الإضافي وكيف تشجع الهياكل الوظيفية على إدمان العمل، وسمات الأفراد الذين ينالون التقدير والمكافأة ودورها في تعزيز ثقافة العمل الإضافي، ومشاعر الموظفين تجاه عملهم والشركة.
عند الانتهاء من التقييم، ستدرك مدى تجذر العمل الإضافي في ثقافة مؤسستك، والأهم هو أنك ستحدد العوامل الرئيسية التي تسهم في هذه المشكلة. قد يكون العامل الرئيسي الذي يسبب هذه المشكلة في بعض المؤسسات هو القيادة، وقد يكون في مؤسسات أخرى استخدام التكنولوجيا بطريقة تدفع الموظفين للعمل من دون توقف، وربما كانت زيادة العمل الإضافي في بعض المؤسسات ناجمة عن تصميم الوظائف وهيكليات الموارد البشرية. من المرجح أن تكشف الاستقصاءات والمقابلات عن مشكلات تتعلق بالصحة البدنية والصحة النفسية وبعض الاختلالات في فريق العمل يسببها إدمان العمل ولم تكن على علم بها.
الخطوة الثانية: خطط لتغيير تدريجي من خلال الإسراع باستهداف المجالات التي ستكون فعالية التغيير فيها أعلى
أسوأ ما يمكن أن تفعله المؤسسة في هذه المرحلة هو الإعلان عن نيتها التخلص تماماً من ثقافة العمل الإضافي وإدمان العمل، فالتغيير لا يجري بهذه الطريقة؛ بل هو عملية طويلة من التحسينات التدريجية، ويكمن السر في التقييم الذي سيوجهك إلى المجال الذي يجب أن تركز عليه جهودك أولاً والذي سيكون التغيير فيه أكثر جدوى وفعالية في آن معاً.
في هذه المرحلة، تتمثل الخطوات الحاسمة في تحديد الغرض من التجربة وأهدافها بوضوح وترسيخ الثقة وتحديد ما ستتضمنه فترة التجربة بعناية وتوضيح الخطة للأطراف المعنية في المؤسسة كافة.
أولاً، حدد الغرض من التجربة وأهدافها. يجب أن تحدد غرضك من التجربة بناءً على البيانات التي جمعتها وحللتها خلال مرحلة التقييم. قد يتضح عند التدقيق في المستويات الأساسية لثقافة العمل الإضافي أن السعي لتحقيق أهداف مثل تطبيق أسبوع عمل مكون من 4 أيام غير ممكن، ربما يجب أن يكون الهدف في مثل هذه الحالات أكثر تواضعاً، مثل تغيير الإرشادات المتعلقة بالتواصل عبر البريد الإلكتروني خارج أوقات العمل أو في عطلات نهاية الأسبوع، وهو ما تدعوه الباحثة ليزلي بيرلو وفريقها "تعديلات جزئية على ممارسات العمل".
لا يمكن بناء الثقة إلا إذا تضمنت جهود تغيير الثقافة إسهامات من جميع الموظفين؛ أي أنه لا يمكن فرضها من القمة إلى القاعدة، وللمساعدة في بناء هذه الثقة يقترح الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال جون كوتر تشكيل "ائتلاف توجيهي" يضم مجموعة أفراد من جميع مستويات المؤسسة متحمسين لمبادرة التغيير ويحظون باحترام أقرانهم.
ثانياً، ضع الخطوط العريضة للتجربة بعناية. برزت بعض النقاط الرئيسية خلال مناقشاتي مع القادة الذين يعملون على تصميم التجارب، أولها مقاومة التفكير المفرط في الخطة إلى درجة جعلها معقدة وغير قابلة للتنفيذ، والأفضل أن تتبنى عقلية تجريبية في تنفيذ العملية وتدرك أنك ستعدّلها مع تقدمك. ومن النقاط الأخرى تحديد تاريخ محدد للبدء والانتهاء وتحديد نطاق التجربة؛ أي تحديد الفريق الذي سيشارك في التجارب الأولية وكيف سيتوسع نطاقها بمرور الوقت إلى الفرق الأخرى. وقبل البدء بالتجربة، احرص على جمع البيانات الأساسية عن أي جانب ستقيّمه في نهايتها.
على سبيل المثال، إذا كان هدفك الحد من الاحتراق الوظيفي بين الموظفين فاحرص على تقييمه قبل أن يعلم الموظفون بالتجربة (كي تتمكن من المقارنة بين ما قبل التجربة وما بعدها بدقة)، وأوصي بشدة بالاستعانة بالخبراء عند جمع بيانات استقصاء آراء الموظفين.
من المهم توضيح الخطة لأصحاب المصلحة الرئيسيين والحفاظ على حوار مستمر، لا يكفي أن تقول لهم ببساطة: "سنصلح ثقافة إدمان العمل في الشركة من خلال مبادرة جديدة"، بل عليك أيضاً الإفصاح عن جهودك بالتفصيل وما تأمل تحقيقه من كل تجربة. كما يجب ألا يكون التواصل في اتجاه واحد من القمة إلى القاعدة، فالتواصل المنتظم الثنائي الاتجاه جانب بالغ الأهمية في هذه العملية. التمس التعليقات من موظفيك قبل التجربة وفي أثنائها وبعد انتهائها، واحرص على الاستماع إلى مخاوفهم والاستجابة لها.
الخطوة الثالثة: نفّذ التجربة وتعلّم من النتائج وكررها
بعد أن أصبحت الخطة جاهزة، حان الوقت لوضعها موضع التنفيذ. قد تميل إلى الإعلان عن تغييرات كبيرة، ولكن يجب ألا تفعل ذلك؛ يجب تجنّب الإيحاء بأنك اكتشفت أي حلول. ابدأ على نطاق صغير وأشرك الموظفين مع مراعاة مواقفهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم الحالية، واحرص على إجراء تغييرات قليلة ومحدودة النطاق، يمكنك البدء بفريق واحد أو قسم أو منطقة جغرافية واحدة مثلاً. احرص باستمرار على تقييم استجابة الموظفين لمبادرات التغيير، وتجنب الغموض في التنفيذ، فإذا لم يكن الموظفون على يقين مما يحدث، فسيتجنبون المخاطرة ويعودون إلى أنماطهم القديمة.
لنفترض إن إحدى تجارب التغيير تتضمن إدراج جملة في توقيع الموظفين على الرسائل الإلكترونية تقول: "لست مضطراً إلى الرد على هذه الرسالة خارج أوقات العمل". يبدو هذا التغيير مفيداً لكنه غامض، فهو لا ينص صراحة على عدم الرد، وإذا كانت الرسالة من مدير مثلاً فقد يشعر الموظفون بأنهم ملزمون بالرد، على غرار الاجتماعات "التطوعية" التي يدرك الموظفون أن حضورها في الواقع إلزامي. ربما تكشف التجربة أن الموظفين استمروا في الرد على رسائل البريد الإلكتروني على الرغم من ذلك، وبالتالي تكون الخطوة التالية هي تغيير اللغة المستخدمة إلى شيء أوضح مثل: "الرجاء عدم الرد بعد ساعات العمل"، أو حتى وضع قواعد تحظر إرسال رسائل إلكترونية في ساعات معينة.
لقد قدمت العديد من نقاط الانطلاق لتنفيذ هذه التغييرات أعلاه، ومع ذلك أدرك أنك ستواجه مقاومة للتغيير على المستوى التنظيمي مثلما أوضحت في البداية. فقد يجد بعض القادة والمؤسسات صعوبة في تجاوز عقلية التفاني في العمل وإدراك الآثار السلبية لتشجيعهم إدمان العمل على الرغم من الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، ولن يكونوا قادرين على فهم الصلة بين الأداء الضعيف وتركيزهم على ثقافة العمل المستمر على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ولن يستوعبوا التكاليف المختلفة الناجمة عن إدمان العمل، مثل دوران الموظفين ونفقات الرعاية الصحية وانخفاض الإنتاجية. والأهم من ذلك كله أنهم لن يصدقوا أن بمقدورهم تحقيق النتائج نفسها، بل نتائج أفضل حتى، من خلال تقليل ساعات العمل والحد من اتصال الموظفين بالإنترنت؛ فالأمر ببساطة ليس بديهياً.
لكنها الحقيقة، فالأبحاث والدراسات واضحة كل الوضوح في هذا الصدد: ثقافة العمل التي تتيح العمل الإضافي ليست مثالية. كان لجائحة كوفيد-19 دور رئيسي في إدراكنا الحاجة إلى تعديل مواقفنا ومعتقداتنا حول التفاني في العمل، وأسهم نجاح تجارب أسبوع العمل المؤلف من أربعة أيام في هذا الإدراك أيضاً. يزداد عدد المؤسسات التي تحقق قيمة من تغيير ثقافة إدمان العمل، وأنت قادر على ذلك أيضاً. لا مزيد من الأعذار.