ملخص: تغيرت الأساليب التي نتبعها في العمل على مدى السنوات القليلة الماضية، إذ تُظهر البيانات الحديثة أن فكرة العمل لدى شركة واحدة، أو البقاء في المسمى الوظيفي نفسه عدة سنوات، أصبحت أقل شيوعاً. في الواقع، لن تتبع مسارات الموظفين جميعهم المهنية أنماطاً تقليدية هدفها الارتقاء في السلم الوظيفي، ولا بأس في ذلك. إلا أننا بحاجة إلى طريقة جديدة للتعامل مع مساراتنا الوظيفية تتيح لنا التمتع بالمرونة والقدرة على التحمّل. لماذا لا نعتبر الحياة المهنية رحلة طويلة لبناء مسار وظيفي مدروس يكون فريداً وممتعاً وقابلاً للتكيّف مع التغييرات؟
- تولّ قيادة مسارك الوظيفي؛ ليس من الضروري أن تلتزم بمسار مهني محدد مسبقاً وأن تواصل العمل في الوظيفة نفسها، بل يمكنك تكوين مجموعة من الخبرات من خلال الشروع في رحلة استكشاف تشمل تجارب متنوعة ومثيرة.
- اعلم أيضاً أن الخطة قابلة للتكرار؛ فعندما تخطط لرحلة ما مثلاً، أنت لا تستخدم نظام تحديد المواقع لتحديد وجهتك النهائية وتسير إليها بأسرع وأقصر طريق ممكن فقط، بل تطرح على نفسك بعض الأسئلة الأساسية حول التجارب التي ترغب في خوضها خلال رحلتك: ما هي الأماكن التي أرغب في زيارتها؟ وما هي المواقع التي أرغب في التوقف عندها والمغامرات التي أود خوضها؟ وبالمثل، من المهم أن تدرك أن تغيير المسار أمر طبيعي خلال الحياة المهنية.
- كن منفتحاً على الفرص غير المتوقعة واستعد لتجربتها؛ فالتغيير جزء طبيعي من أي رحلة، وهو ما يجعلها تجربة غنية. لذلك، تقبّل الاحتمالات غير المتوقعة في مسارك الوظيفي واغتنمها. يمكنك حتى تكرار تجارب اختبرتها من قبل وتجربتها من منظور جديد ومختلف. واسعَ في أثناء استكشافك الفرص الجديدة إلى فهم الروابط بين تجاربك السابقة وأهدافك المستقبلية. وتعلّم كيفية الاستفادة من مهاراتك الفريدة في كل وظيفة جديدة، إذ قد تجعلك هذه المهارات قيمة مضافة في مجالات العمل الجديدة.
اعتقدت إحدى عميلاتي، ولاء، أن مسارها الوظيفي سيكون تقليدياً وقائماً على الارتقاء في السلم الوظيفي. وسعت إلى تحقيق النجاح من خلال صعود السلم خطوة بخطوة؛ فحددت أولاً المنصب الذي تطمح إلى شغله من خلال اختيار مجال عمل، ثم استثمرت وقتها في تطوير مهارات متخصصة في هذا المجال، وسعت بجد إلى بلوغ قمة السلم الوظيفي. كانت تصدق مقولة أن النجاح المهني يتطلب التقدم الخطي فقط، وأنه لا مجال للركود أو القناعة بالوضع الراهن.
وعلى الرغم من جهود ولاء الحثيثة لتحقيق النجاح، شعرت بأنها لا تسير على المسار الصحيح منذ البداية. أتاحت لها وظائفها الأولى التقدم وتحقيق بعض النجاح، لكن عندما قررت تغيير مجال عملها، شعرت أنها عادت إلى أسفل السلم مرة أخرى. لم يبدُ مسارها خطياً، بل بدا أنها تتخذ قراراتها دون خطة واضحة استناداً إلى الظروف. ولم تحقق الأهداف التي وضعتها لتلك المرحلة، وخشيت من أن يعتبرها الآخرون من هواة تغيير الوظائف مقارنة بنظرائها الذين كانوا يحققون النجاح والتقدم. واعتبرت مسيرتها الوظيفية سلسلة من المحاولات غير الناجحة، إذ لم تساعدها مجموعة الأدوار التي شغلتها والمهارات التي اكتسبتها على تحقيق أي تقدم.
عملتُ مدربة مهنية على مدى السنوات الـ 12 الماضية مع مئات المهنيين في مراحل حياتهم المهنية جميعها، لا سيما أولئك الذين يشعرون أن مساراتهم الوظيفية تختلف عن توقعاتهم، مثل ولاء. وأدركتُ من خلال هذه اللقاءات أن المشكلة ليست في عملائي، بل في التوقعات القديمة وغير الواقعية التي يحاولون تحقيقها.
في الواقع، تغيرت الأساليب التي نتبعها في العمل على مدى السنوات القليلة الماضية. وأظهر استقصاء حديث شمل أكثر من 1,000 شخص من الأميركيين البالغين أن نسبة 58% منهم كانوا يخططون لتغيير كبير في وظائفهم خلال عام 2024، وهي نسبة مماثلة للنسبة التي أظهرها استقصاء العام السابق. ووجد استقصاء آخر أجرته منصة لينكد إن على 1,000 شخص من المهنيين الأميركيين أن نسبة 85% منهم يفكرون في تغيير وظائفهم هذا العام، مقارنة بنسبة 67% في عام 2023.
في الواقع، تُظهر البيانات أن فكرة العمل لدى شركة واحدة، أو البقاء في المسمى الوظيفي نفسه لعدة سنوات، أصبحت أقل شيوعاً. لكن من جهة أخرى، تُعد رحلة ولاء شائعة الانتشار. ومع ذلك، لا يزال بعض المهنيين الشباب يتمسكون بفكرة المسار الخطي. قالت لي ولاء: "سببت لي تلك الفكرة مصدر قلق كبير في العشرينيات من عمري. أريد أن أسلك المسار الوظيفي الواضح الذي سلكه والداي، والذي يضم خطوات ومتطلبات محددة لتحقيق النجاح، وأرغب بذلك بحق. لكني أدرك أيضاً أن هذا المسار ليس الأنسب لي".
في الواقع، نحن بحاجة إلى طريقة جديدة للتعامل مع مساراتنا الوظيفية تتيح لنا التمتع بالمرونة والقدرة على التحمّل، إذ لم تعد فكرة الترقي في السلّم الوظيفي مناسبة لاحتياجات الحياة المهنية الحديثة. ولهذا السبب أطلب من عملائي اعتبار الحياة المهنية رحلة لبناء مسار وظيفي مدروس يكون فريداً وممتعاً وقابلاً للتكيّف مع التغييرات. وبوسعك فعل الشيء ذاته.
وإليك الطريقة.
تولّ دفة قيادة مسارك الوظيفي
أنت لست مقيداً بمسار محدد مسبقاً في رحلاتك، بل لديك حرية تحديد مسارك والاستراحات التي ترغب في التوقف عندها بما يتوافق مع احتياجاتك ما بين نقطة الانطلاق والوجهة النهائية. لذلك، اجعل مسيرتك الوظيفية تتبع نهجاً مماثلاً؛ بمعنى أنك لست ملزماً باتباع مسار وظيفي واحد، بل يمكنك تكوين مجموعة من الخبرات من خلال الشروع في رحلة استكشاف تشمل تجارب متنوعة ومثيرة.
يختلف هذا النهج تماماً عن التقدم المتسلسل في السلم الوظيفي، لأنك عندما تكون المسؤول عن مسارك الوظيفي؛ فذلك يعني أن تتخذ نهجاً استباقياً وعملياً لاستكشاف الخيارات، وتقييم الفرص، واتخاذ قرارات مدروسة تناسب أهدافك؛ بمعنى أن تتبنّى عقلية حب الاستطلاع والاستقلالية والاستكشاف. وبعبارة أخرى، لا تجعل خطواتك المهنية مستندة إلى تسلسلات هرمية محددة مسبقاً، بل إلى المجالات التي تُثير حماسك وتُضيف قيمة لك في عملك الحالي.
التخطيط هو عملية تكرارية
عندما تخطط لرحلة ما مثلاً، فأنت لا تستخدم نظام تحديد المواقع لتحديد وجهتك النهائية وتسير إليها بأسرع وأقصر طريق ممكن فقط، بل تطرح على نفسك بعض الأسئلة الأساسية حول التجارب التي ترغب في خوضها خلال رحلتك: ما هي الأماكن التي أرغب في زيارتها؟ وما هي المواقع التي أرغب في التوقف عندها والمغامرات التي أود خوضها؟
تبدأ رحلتك عادة بوضع إجابات أولية عن تلك الأسئلة، ثم الاستمرار في طرحها مراراً وتكراراً، إذ تتيح لك كل استراحة تتوقف عندها فرصة لإعادة ضبط المسار، وذلك لأنك لست ملزماً بالتخطيط للمسار بأكمله مسبقاً، بل يمكنك التخطيط له في أثناء تقدمك بناءً على ما يثير اهتماماتك، والفرص المتاحة أمامك، والتغيرات التي تحدث في طريقك.
وبالمثل، من المهم أن تدرك أن تغيير المسار أمر طبيعي خلال الحياة المهنية. في الواقع، تُظهر البحوث أن الأشخاص الذين يغيرون مساراتهم بالفعل يكتشفون في النهاية المجالات التي تُثير اهتمامهم ويستمتعون بها، ما يتيح لهم التمتع بمسار مهني مُرضٍ.
تمثّل كل وظيفة جديدة تشغلها فرصة للتفكير بعمق في احتياجاتك الحالية من خلال طرح 4 أسئلة رئيسية على نفسك:
- ما هي المهارات التي أريد صقلها وتطويرها في المستقبل القريب؟
- ما هي المجالات التي تثير فضولي وتحفزني في الوقت الحالي؟
- ما هي المناصب الجديدة التي أرغب في شغلها لاحقاً خلال مسيرتي المهنية؟
- ما هي الفرص المتاحة أمامي والتي تتناسب مع هذه المعايير؟
كن منفتحاً على الفرص غير المتوقعة
توفر الرحلة المثالية فرصة لخوض تجارب غير مخطط لها. والتغيير متوقع خلالها، وهو ما يجعلها تجربة غنية. وأنت تمتلك بالفعل خيار تغيير المسار عندما تواجه عقبات أو عوائق في طريقك الحالي. قد تمر مثلاً ببلدة ساحرة أو بحيرة هادئة ترغب في التوقف لاستكشافها دون تخطيط.
وبالمثل، كن منفتحاً تجاه الاحتمالات غير المتوقعة التي قد تظهر في مسارك الوظيفي. أي بدلاً من أن تتوقع أن تكون كل مرحلة في مسارك الوظيفي مرتبطة بالمرحلة السابقة وفق تقدم خطي، قد يكون مسارك الحالي أكثر إثارة وحيوية.
ولديك بالفعل حرية استكشاف مجالات مختلفة وتجربة مناصب جديدة، ودمج مهاراتك بطرق مبتكرة، والتعبير عن جوانب مختلفة من شخصيتك. لذلك، اغتنم الفرص غير المتوقعة. يمكنك حتى تكرار تجارب اختبرتها من قبل وتجربتها من منظور جديد ومختلف. وتسهم كل مرحلة في مسارك الوظيفي بالفعل في تعلمك واكتسابك تجارب غنية تساعدك على النمو والتقدم.
حصّن نفسك بالمهارات والخبرات
قد تجمع خلال رحلاتك تذكارات من كل وجهة تمر بها.
وبالمثل، يمكنك خلال مسيرتك الوظيفية الاستفادة من المهارات التي طورتها، والخبرات التي اكتسبتها، والعلاقات التي بنيتها في مراحل مختلفة؛ فهي ليست استثمارات تتخلى عنها عندما تنتقل إلى مرحلة جديدة في مسارك الوظيفي، بل هي جزء من شخصيتك، ويمكنك الاستفادة منها وتطبيقها في كل منصب جديد تشغله.
اسع في أثناء استكشافك الفرص الجديدة إلى فهم الروابط بين تجاربك السابقة وأهدافك المستقبلية. وتعلّم كيفية الاستفادة من مهاراتك الفريدة في كل وظيفة جديدة، إذ قد تجعلك هذه المهارات قيمة مضافة في مجالات العمل الجديدة.
على سبيل المثال، اكتسبت ولاء خبرة في التدريس من خلال عملها في برنامج علم الروبوتات بعد الكلية، واكتسبت مهارات التواصل وبناء الشبكات المجتمعية من خلال عملها مديرة مشاركة الأعضاء في غرفة التجارة. وعندما بيّنت القيمة الفريدة التي تتمتع بها بفضل مزيج المهارات التي اكتسبتها، تمكنت من شغل منصب لم تتخيل بلوغه يوماً، وهو منسقة مجتمعية في الدائرة التعليمية.
اطلب المساعدة والتوجيه
تأتي أفضل التجارب التي تخوضها في رحلاتك عندما تقرر التوقف لطلب توصيات من السكان المقيمين حول أماكن محلية لزيارتها.
وبالمثل، لست مضطراً في مسارك الوظيفي إلى مواجهة التحديات وحدك، بل تُعد محادثات التطوير الوظيفي مع الموجهين والأصدقاء والزملاء جزءاً من عملية اكتشاف المسار الوظيفي مدى الحياة وليس فقط في بدايته. استخدم الموارد كافة، بما فيها الأفراد الذين تربطك بهم علاقات ضعيفة، إذ إنهم قد يقدمون لك رؤى ثاقبة حول منصب أو قطاع معين، أو مجموعة مهارات تثير اهتمامك. اسألهم:
- ما هي المهارات الجديدة التي أحتاج إلى اكتسابها للتقدم في هذا المجال الجديد؟
- كيف يمكنني الاستفادة من خبرتي للانتقال إلى هذا المجال برأيك؟
- ما هي النصائح التي تقدمها لشخص مثلي يبحث عن وظيفة؟
- واختم الحديث دائماً بالأسئلة التالية: من يمكنه مساعدتي في الحصول على مزيد من المعلومات؟
تذكّر بينما تسعى للحصول على التوجيه أنك وحدك المسؤول عن اتخاذ القرارات المتعلقة بمسارك الوظيفي.
استمتع بالرحلة
لن تكون رحلتك ممتعة عندما تسرع الخطى للوصول إلى الوجهة النهائية. وإذا لم تكن تستمتع برحلتك، فأنت تفوّت بذلك فرصة خوض تجارب جديدة.
ومثلما تحتفظ بسجل يحتوي على صور وتذاكر وكتيبات وذكريات من رحلاتك، اعتبر مسارك الوظيفي رحلة تعرض فيها إنجازاتك وتجاربك وعلاقاتك والأثر الذي تُحدثه من خلال عملك.
وعندما تبدأ مسارك الوظيفي، فكر في كيفية جعل تجربتك المهنية ممتعة وهادفة ومثيرة، ولا تنتظر انتهاءها لتستمتع بها؛ وهو خطأ يقع فيه العديد من الأشخاص الذين يؤجلون الاحتفال بالإنجازات لصالح السعي المستمر للوصول إلى الأهداف بصورة أسرع، بل احتفل بالإنجازات الصغيرة، وخصص وقتاً لتكوين علاقات هادفة مع زملائك، والتفكير في التقدم الرائع الذي حققته.
عند التفكير في مسار ولاء الوظيفي من منظور الرحلة، نكتشف جوانب مختلفة عنه: فمسارها غير المتسلسل هو تجربة غنية اكتسبت خلالها مهارات قابلة للنقل يمكنها دمجها وتطبيقها بطرق إبداعية لتناسب مناصب متعددة. وجمعت من خلال تجاربها المتنوعة الكثير من البيانات الغنية لمساعدتها في الإجابة عن السؤال: ما هي التجربة التالية التي أرغب في خوضها؟