هناك قاعدة معروفة تقول أنّ: "ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته"، وكلما زادت المنظومة تعقيداً وأهمية، زادت حاجتنا إلى الدقة في قياس المعطيات. وبما أنّ القطاع الصحي يعد من أكثر القطاعات تعقيداً وتأثيراً على ميزانية الدول وصحة المواطنين، دعت الأكاديمية الوطنية للطب في الولايات المتحدة الأميركية في تقريرها الشهير (Crossing the Quality Chasm) إلى الاستثمار في النظام الصحي الإلكتروني لتدوين البيانات اللازمة لقياس وتطوير مستوى الرعاية الصحية. وهنا نشير إلى أنّ قدرة النظام الصحي على جمع البيانات تكمن في قدرة أجزائه (المستشفيات) على تدوين ومشاركة البيانات. فالقصور في أداء بعض المستشفيات في تدوين أو مشاركة البيانات قد ينعكس سلباً على مستواها في المستقبل، ويخل بتوازن النظام الصحي كمنظومة.
في هذه المقالة سوف نناقش الوضع الراهن للنظام الصحي السعودي والتحول الإلكتروني في ظل التفاوت بين إمكانيات القطاع الخاص والتشغيل الذاتي والقطاع العام.
كثيراً ما نسمع من العاملين والباحثين في السياسات والأنظمة الصحية وصفهم للنظام الصحي بأنه نظام يملك تركيبة معقدة (Complex) أو متداخلة؛ ويرجع ذلك إلى كثرة الأطراف المعنية بتركيبة هذا النظام والتي يمكن أن تؤثر عليه أو تتأثر به. ووسط هذا التداخل بات خلق التوازن بين الأطراف والعوامل المؤثرة في النظام الصحي ضرورة ملحة ومهمة صعبة. لاسيما مع زيادة التحديات المطروحة مثل رفع سقف توقعات المرضى ومعدل ارتفاع متوسط عمر الفرد وشح الموارد المتاحة وغيرها من التحديات التي قد لا يتسع المجال لحصرها.
ومع زيادة التعقيد وتداخل المعطيات في النظام الصحي، باتت عملية التخطيط وقياس النتائج والتنبؤ بها أكثر تعقيداً. ومن هنا كان من الواجب الاعتماد على لغة الأرقام والبيانات عوضأ عن التجارب الفردية أو الحدس الإداري. فقد زاد اهتمام الأنظمة الصحية بالنظام الصحي الإلكتروني لأنه مكنهم من جمع البيانات اللازمة لقياس المعطيات ومتابعة الأداء والنتائج بشكل منهجي ومستمر. وعلى الرغم من أنّ غالبية الطرح المتداول عن الملف الصحي يركز على الهدف المباشر من النظام الصحي الإلكتروني (خدمة المريض خلال الزيارة) إلا أنّ هناك العديد من الاستخدامات الأخرى التي لا تقل أهمية مثل متابعة وتحسين مستوى الجودة والأداء المالي والأداء الإداري. وعليه، فإنّ قدرة المنشأة على التدوين الدقيق والمستمر للبيانات يزيد من قدرتها على تقييم أدائها وتحديد جوانب الضعف والتحسين المستمر. فإنّ قاعدة "ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارتة" تنطبق على كافة الجوانب: الصحي والمالي والإداري.
ومن هذا المنطلق، فقد استثمرت وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية في البنية التحتية وأبرمت العديد من المشاريع في مجال التحول الصحي الإلكتروني سواء على مستوى المستشفيات أو خدمة الأفراد بشكل مباشر. مثل تطبيق "صحة" للاستشارات عن طريق الهواتف الذكية، وتطبيق "موعد" لحجز المواعيد عبر الإنترنت. ولا تزال الوزارة تطمح للمزيد في هذا الجانب ومن أبرز أهداف الوزارة الطموحة: إنشاء "الملف الصحي الموحد" لـ 70% من المواطنين بحلول العام 2020.
وهنا لا بدّ من العودة إلى التذكير بطبيعة التداخل في القطاع الصحي، حيث إننا نتساءل ما إذا كان القطاع الخاص والتشغيل الذاتي والقطاع العام على نفس الوتيرة في ما يخص الاستثمار في البنية التحتية للنظام الصحي الإلكتروني وما إذا كانت هذه القطاعات على استعداد لمشاركة البيانات مع الوزارة أو المستشفيات الأخرى؛ وما هي الخطط والسياسات والاستراتيجيات المرسومة للموازنة في هذا الجانب، وخصوصاً مع التوجه الحاصل لخصخصة القطاع الصحي وزيادة دور وزارة الصحة في مراقبة وتقييم مزودي الرعاية الصحية، بما في ذلك من مراقبة الأداء والمقارنة المرجعية بين المستشفيات أو "التجمعات الصحية". إضافة إلى ذلك، العمل على تقييم أداء القطاع الصحي ككل ووجود أهداف رؤية المملكة 2030، مثل تقليل فترة انتظار المريض أو تعزيز الجانب الوقائي وبالأخص أنّ العديد من الفوائد المرجوة من النظام الصحي الإلكتروني تستدعي تمكين المستشفيات من مشاركة البيانات سواء فيما بينها أو مع الجهات المسؤولة مثل وزارة الصحة. إنّ التفاوت في قدرة مستشفى معين على تدوين ومشاركة البيانات قد يمتد تأثيره سلباً على المستشفيات الاخرى. فأهمية النظام الصحي تتجلى في المهام التكاملية والتي تتطلب العمل المشترك: مثل مشاركة بيانات المرضى بين المستشفيات والمشاركة في رفع البيانات للملف الصحي الموحد ورفع تقارير الصحة العامة والإحصائيات السنوية والتبليغ بالأمراض المعدية والترصد الوبائي.
إنّ تأخرنا في سن الحد الأدني من المعايير من جهة، والتفاوت الحالي في آلية التمويل بين القطاع الخاص والتشغيل الذاتي والقطاع العام من جهة أخرى، بالإضافة إلى سياسة ومرونة كل منهم في إدارة موارده المالية وقواه العاملة؛ تكاد تكون العوامل الرئيسية في التفاوت الحاصل على مستوى الرعاية المقدمة للمريض (ومن منا لم يلحظ هذا التفاوت). ولكن السؤال المطروح هنا هو: هل سوف يتكرر مشهد التفاوت مرة أخرى على مستوى أنظمة الصحة الإلكترونية المعمول بها بين المستشفيات التابعة لكل من هذه القطاعات؟ وكيف سينعكس ذلك على قدرة الوزارة مستقبلاً فيما يخص متابعة الأداء والمقارنة. وما هي تبعات هذا التفاوت على المهام التكاملية والتي تتطلب العمل المشترك مثل مشاركة بيانات المرضى بين المستشفيات والملف الصحي الموحد وتقارير الصحة العامة والإحصائيات الوطنية أو مكافحة الأمراض المعدية والترصد الوبائي؟
وهنا أنتهز الفرصة لعرض تجربة الولايات المتحدة الأميركية في هذا الخصوص - وهو مثال لغرض التوضيح وليس دعوة للاقتداء. فبعد سنوات من بطء الإقبال على تطبيق النظام الصحي الإلكتروني من قبل بعض المستشفيات، تم اللجوء إلى سياسة "الجزرة والعصا" لتحفيز المستشفيات على تطبيق الملف الصحي الإلكتروني وفرض القوانين لدعم ما يعرف بـ "الاستخدام الأمثل" (Meaningful use) عن طريق سلسلة من المحفزات والعقوبات المالية في حال الالتزام أو الإخلال بتطبيق خطة النظام الصحي الإلكتروني حسب جداول زمنية محددة لكل مرحلة من مراحل التحول الإلكتروني. وكانت سياسة "الاستخدام الأمثل" تعنى بقياس مقدار الخدمات أو العمليات التي تنفذ بالنظام الإلكتروني لضمان الحصول على المنفعة المرجوة وقياس ما إذا كانت هذه التقنية قد حققت الغرض الذي وضعت من أجله.
وكما هو معلوم أنّ كل نظام صحي له صفاته وطبيعته الخاصة، حيث يصعب نسخ ما هو موجود في نظام ما وتطبيقه في نظام آخر بحذافيره. ولكن هناك بعض الأسس والممارسات التي تكاد أن تكون مشتركة بين أغلب الأنظمة الصحية فيما يتعلق بهذا الخصوص. ومن أبرزها:
1- دعم أتمتة مشاركة البيانات وخصوصاً في الجوانب التي تستدعي الشفافية والسرعة والديناميكية في اتخاذ القرارات.
2- العمل على تدريب الممارسين الصحيين المعنيين بتدوين وتوثيق البيانات خلال المراحل الأولية أو ما يعرف بـ "التوثيق السريري" (clinical documentation) لتحسين وتوحيد آلية تدوين البيانات.
3- العمل على تدريب وترخيص الممارسين الصحيين المعنيين بإرسال التقارير والبيانات المتعلقة بالصحة العامة والإحصائيات أو ما يعرفون بـ (registrars) وتحديد الحد الأدنى من المهارات والتراخيص المهنية لضمان وتوحيد آلية تدوين البيانات.
4- تحديد معايير الترخيص والتصنيف للمنشآت الصحية فيما يتعلق بجودة البيانات فيها وقدرة المنشأة على مشاركة البيانات سواء في تقارير الصحة العامة والأمراض السكانية أو معايير الأداء، حيث تتضمن هذه المعايير الحد الأدنى من مواصفات الأنظمة الإلكترونية المستخدمة وتحديد سلسلة الإجراءات المتبعة ومؤهلات الكادر البشري وجودة البيانات المرسلة.