ملخص: لحقت السعودية بسباق المراكز المالية العالمية مع إطلاق رؤية المملكة لعام 2030 الهادفة إلى التنويع الاقتصادي وتقليص الاعتماد على الموارد النفطية، وسارعت المملكة خطواتها وسابقت الزمن وبدأت مسيرتها للتحول من خلال بناء بيئة تنظيمية صحية جاذبة لكبار الفاعلين في المجالات المالية. وما ساعدها على تحقيق ذلك:
- البنية التحتية: كان للبنية التحتية نصيب مهم من رؤية المملكة للتحول إلى مركز لجذب الفاعلين في مجال الخدمات المالية، إذ عملت على توفير البنية التحتية المتقدمة وخاصة الرقمية، وعلى غرار المدن المالية الكبرى في العالم.
- صندوق الاستثمارات العامة: الذي يقود مسيرة المملكة للتنويع الاقتصادي، وهو سادس أكبر صندوق سيادي في العالم بأصول تحت الإدارة تصل إلى 925 مليار دولار.
- الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية.
شهد قطاع الخدمات المالية بفضل التقدم التكنولوجي ثورة غير مسبوقة، ما أدى إلى تعدد المشتقات المالية المتداخلة في المناحي الاقتصادية كافة، وقد خلق هذا التطور السريع الذي قابله نمو في الاقتصاد العالمي بفضل الثورات الصناعية المتتالية المراكز المالية، وهي عبارة عن مدن أو مناطق تحتضن مؤسسات كبرى تقدم الخدمات المالية، على غرار البنوك الاستثمارية وصناديق التقاعد وصناديق التحوط وشركات إدارة الأصول والثروات وشركات التأمين وغيرها، وتتنوع مهمتها بين التعاون بين الحكومات والشركات في الصفقات المالية مثل إدارة أدوات الدَّين وجمع التمويل إضافة إلى قيادة العمليات المالية مثل الاكتتاب والدمج والاستحواذ وغيرها من الخدمات المالية.
ووفقاً لتصنيف مؤشر المراكز المالية العالمية (GFCI) لعام 2024 الذي ضم 121 مدينة على مستوى العالم، فقد حلّت مدينة نيويورك في المرتبة الأولى بوصفها من أهم المراكز المالية، في حين جاءت لندن في المرتبة الثانية، وسنغافورة وهونغ كونغ في المرتبتين الثالثة والرابعة على التوالي، وعند النظر إلى المدن المتصدرة للمؤشر تتضح العوامل المشتركة بينها التي أدت إلى نيلها تلك المراكز، وأبرزها وجود قطاع مالي قوي وبيئة تنظيمية متطورة توفر الحوافز والضمانات للمؤسسات المالية، والعامل الثاني هو البنية التحتية المتطورة التي تساعد المؤسسات على أداء عملها بكفاءة، والثالث هو العنصر البشري المدرب والمؤهل الذي يعتمد بدوره على جودة التعليم في الدولة، والرابع هو استقرار بيئة الاقتصاد الكلي الذي يعطي طمأنينة للمؤسسات في الدولة، إلى جانب عوامل أخرى مثل درجات الانفتاح الثقافي.
بالوصول إلى السعودية التي لحقت بسباق المراكز المالية العالمية مع إطلاق رؤية المملكة لعام 2030 الهادفة إلى التنويع الاقتصادي وتقليص الاعتماد على الموارد النفطية، سارعت المملكة خطواتها وسابقت الزمن وبدأت مسيرتها للتحول من خلال بناء بيئة تنظيمية صحية جاذبة لكبار الفاعلين في المجالات المالية، مستفيدة من الطفرة التي شهدتها مؤشرات الاقتصاد الكلي في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأس خطط التنويع كان تعزيز الأسواق المالية من خلال تشجيع الشركات على الاكتتاب، ولم تمر 3 سنوات على إطلاق الرؤية حتى طرحت المملكة أكبر شركة للطاقة في العالم "أرامكو" للاكتتاب في السوق السعودية في عام 2019، وقد مثّلت تلك الخطوة شرارة البداية ونقطة الانطلاق لطفرة الاكتتابات العامة الأولية في المملكة، فخلال الفترة الممتدة بين 2018 و2023 وصل عدد الاكتتابات في المملكة إلى 106 اكتتابات، ما جعل المملكة من أكثر الأسواق نشاطاً في العالم وجذب أنظار المؤسسات المالية الكبرى في العالم للاستفادة من تلك الطفرة، ودفع عمالقة في مجال الخدمات المالية مثل بنك روتشيلد (Rothschild) وشركة إدارة الأصول نورثرن ترست (Northern Trust) التي تدير أصولاً في العالم بأكثر من تريليون دولار لفتح مكاتب إقليمية في مدينة الرياض. إضافة إلى ذلك، أطلقت المملكة برنامج جذب المقرات الإقليمية، بهدف جذب الشركات العالمية لفتح مقراتها الإقليمية في مدينة الرياض. ويؤكد نجاح هذا البرنامج التزام المملكة بخلق بيئة أعمال جاذبة واستعدادها للمنافسة على الساحة العالمية.
وكان للبنية التحتية نصيب مهم من رؤية المملكة للتحول إلى مركز لجذب الفاعلين في مجال الخدمات المالية، إذ عملت على توفير البنية التحتية المتقدمة وخاصة الرقمية، وعلى غرار المدن المالية الكبرى في العالم، فلا بد من وجود وجهة رئيسية مفضلة للشركات والمستثمرين مثل المركز المالي العالمي في نيويورك وحي المال في لندن، لذلك أحدثت السعودية مركز الملك عبدالله المالي. وتعود أهمية تلك المراكز إلى أنها توفر بيئة خصبة للشركات سواء من حيث البنية التحتية المتطورة أو الحوافز المالية والضريبية أو القوانين الخاصة التي تسهّل عملها. وعلى الرغم من حداثة مركز الملك عبدالله المالي أصبح الوجهة الأساسية للشركات العالمية التي تنقل مقراتها الإقليمية إلى الرياض، فوفقاً لبيانات شركة (CBRE) وصلت نسبة المساحات التي جرى تأجيرها في المركز بنهاية الربع الرابع من 2024 إلى 65%.
بالإضافة إلى ما سبق، لدى المملكة ورقة رابحة وعامل جذب قوي وهو صندوق الاستثمارات العامة الذي يقود مسيرة المملكة للتنويع الاقتصادي، وهو سادس أكبر صندوق سيادي في العالم بأصول تحت الإدارة تصل إلى 925 مليار دولار، وخلال 2023 والنصف الأول من 2024 كان الصندوق المستثمر السيادي الأنشط في العالم، إذ وصل حجم استثماراته في 2023 إلى 31.6 مليار دولار، في حين بلغ خلال النصف الأول من 2024 نحو 10.2 مليارات دولار، ولتحقيق الاستفادة القصوى من الصفقات التي يبرمها الصندوق لجأت شركات خدمات مالية كبرى إلى فتح مقرات إقليمية لها في الرياض، ما يعزز من جاذبية المدينة ويحولها إلى وجهة للمال والأعمال في المنطقة. وإضافة إلى الصندوق تملك المملكة قطاعاً مصرفياً ضخماً تسعى مؤسسات مالية كبرى لاستغلاله بهدف توفير التمويل وعقد الصفقات.
وإلى جانب العوامل الداخلية تخدم الظروف الاقتصادية والسياسية العالمية رؤية المملكة للتحول إلى مركز مالي مهم، ففي ظل تراجع شعبية عدد كبير من المراكز المالية العالمية مثل لندن وشنغهاي والمراكز المالية الأوروبية الأخرى بسبب تراكمات عديدة خلقتها الصراعات الجيوسياسية، نجد من جهة الأزمة الروسية الأوكرانية وما تبعها من عقوبات كبيرة على روسيا، ومن جهة أخرى الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. إضافة إلى حالة الشك الاقتصادي التي تشهدها القارة الأوروبية ودول أخرى في آسيا مثل اليابان بسبب الانكماش الداخلي وتراجع معدلات الطلب. توفر تلك العوامل فرصة مهمة للمملكة للتحول إلى مركز بديل لتلك الوجهات لجذب المستثمرين والأثرياء من مختلف دول العالم، معتمدة بذلك على حالة الاستقرار الاقتصادي التي تعيشها والعلاقات القوية التي تجمعها مع مختلف الدول.
وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته المملكة لتحقيق مرتبة مهمة في سباق المراكز المالية فإنها قد تستفيد من تحسين بعض المحاور الضرورية التي ستزيد من جاذبيتها للمستثمرين المتعطشين لأسواق جديدة، ألا وهي تحسين البيئة التنظيمية، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز العنصر البشري، وضمان الاستقرار الاقتصادي.
لا بد من التحديث المستمر للبيئة التنظيمية في ظل المنافستين الإقليمية والعالمية لجذب الشركات والأثرياء بما يتماشى مع المتغيرات العالمية. وبالنظر إلى نجاح برنامج جذب المقرات الإقليمية الذي جذب عدداً كبيراً من الشركات، يتضح مدى الجاذبية التي تتمتع بها السوق السعودية، ما يعزز طموحات المملكة ورؤيتها المستقبلية. على سبيل المثال، يمكن للمملكة أن تطمح إلى تحويل سوق المال السعودية إلى مركز رئيسي للاكتتاب للشركات الإقليمية والعالمية. سيؤدي هذا الطموح إلى أثر إيجابي كبير يتجاوز نطاق الشركات المحلية فقط، ما يعزز مكانة المملكة بوصفها مركزاً مالياً عالمياً.
ونظراً لموقع المملكة المتميز الذي يربط بين مختلف القارات، يمكن العمل على تحويلها إلى مركز لتداول السلع والمعادن مثل الذهب والفضة على غرار مدن مثل لندن. بالإضافة إلى ذلك، يمكن توفير الحوافز التي تدعم تحول المملكة إلى مركز للتكنولوجيا الناشئة من خلال جذب المواهب العالمية وتوفير الدعمين المالي واللوجستي اللازمين لعملها.
ومن المهم أيضاً تقديم الحوافز الكافية والقادرة على جذب الشركات والكفاءات، سواء كانت حوافز مالية أو ضريبية أو حتى حوافز تتعلق بالانتقال ومنح التأشيرات والإقامة للعاملين في قطاع الخدمات المالية. كما يجب توفير حوافز خاصة بأسر العاملين مثل الخدمات التعليمية والرعاية الصحية الجيدة.
تؤدي العوامل الثقافية والمعيشية دوراً مهماً، إذ يبحث المنتقلون عن نمط حياة يتقارب مع السائد في بلدانهم الأصلية أو أفضل. وقد حققت المملكة تقدماً ملحوظاً في هذا المحور مؤخراً بفضل العديد من الإصلاحات التي تهدف إلى الانفتاح على مختلف ثقافات العالم.
ختاماً، فإن المملكة أصبحت في مرتبة متقدمة تمكّنها من الاستفادة من الأزمات العالمية التي ضربت أهم المراكز المالية العالمية نتيجة التوترات الجيوسياسية والضعف الاقتصادي، للتحول إلى مركز مالي رئيسي للمؤسسات المالية الكبرى وتعزيز مسيرة التنمية الحالية. قد يكون من المناسب مواصلة العمل على سد الفجوات التي تواجه قطاع المال والأعمال مع الاستفادة من التجارب السابقة للدول التي شقت طريقها وتحولت إلى مراكز مهمة لصناعة المال في العالم.