التأليف الجماعي في الإدارة، تجربة ودروس مستفادة

5 دقائق
التأليف الجماعي في مجال الإدارة
shutterstock.com/Chumakov Oleg

يمكن تتبع ممارسات التعهيد الجماعي لمئات السنين الماضية، إلا أن هذا المصطلح يعتبر حديثاً، فقد أشار إليه جيف هاو في أحد مقالاته عام 2006 لوصف استخدام المؤسسات للإنترنت من أجل تعهيد بعض الأعمال إلى الجمهور.

إن مجالات استخدام التعهيد الجماعي متعددة، وهي تتزايد باطراد، ومن هذه المجالات صناعة المحتوى، وأول تجربة يمكن أن تخطر على بالنا في هذا الصدد هي تجربة موقع "ويكيبيديا" التي أُطلقت في عام 2001، والتي تجاوز عدد المقالات المكتوبة باللغة الإنجليزية فيه حاجز الـ 6.2 مليون مقال في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2021.

على الرغم من استخدام التعهيد الجماعي في صناعة المحتوى، فإن التأليف الجماعي هو ممارسة غير شائعة بشكل عام، ويترسخ هذا الانطباع عندما نتناول التأليف الجماعي في مجال الإدارة، آخذين في عين الاعتبار أن النشر الأكاديمي لورقة علمية أو كتاب يتألف من تجميع عدة أوراق حول موضوع معين هو خارج مسار التأليف الجماعي المقصود، وذلك لمحدودية عدد المشاركين من جهة، ولاختيارهم من ضمن مجموعة ضيقة من جهة أخرى.

أبرز تحديات إصدار كتاب "نوادر إدارية"

لا أعتقد بوجود حاجة إلى إبراز ندرة التأليف الجماعي باللغة العربية، وهو ما لم نجده متاحاً –وفق ما توفر لنا من معلومات-، الأمر الذي حفزنا إلى خوض غمار هذه التجربة والتي أدت إلى ولادة كتاب منذ أيام قليلة بعنوان "نوادر إدارية". اعتمد هذا العمل مبدأ التأليف الجماعي وكان الهدف منه مشاركة القارئ العربي مجموعة من الطرائف والقصص والعِبر والمفارقات التي التي واجهها المؤلفون في أثناء حياتهم المهنية.

عندما بزغت فكرة إصدار هذا الكتاب، ظننا للوهلة الأولى أنها أقرب إلى التمني منها إلى مبادرة واقعية يمكن أن تبصر النور. فأنّى لنا أن نجمع في كتاب واحد ذلك العدد الكبير من المؤلفين والكتّاب الناطقين بلغة الضاد. على الرغم من هذا الهاجس، فقد انطلقت هذه المبادرة وأثار دهشتي التجاوب الكبير معها خلال فترة وجيزة، حيث وصلت المشاركات التي تم قبولها وتضمينها في الكتاب إلى 114 مشاركة كتبها 82 مؤلفاً من 13 دولة عربية، وبعضها جاء من مؤلفين عرب مقيمين في دول أخرى مثل السويد ونيوزيلندا. كذلك تنوعت المجالات المهنية للمشاركين في الكتاب، فمنهم أساتذة جامعيون، وأطباء، وخبراء استشاريون، ومهندسون، ورواد أعمال، ومعلمون، وأدباء، وفنانون، وغيرهم.

ما يهمّني حقاً في هذا المقال، هو مشاركة قرّاء "هارفارد بزنس ريفيو العربية" أهم التحديات التي واجهتنا خلف كواليس إنجاز هذا العمل، وكيف تعاملنا معها، آملين أن يمهد ذلك طريقاً للراغبين ويهون عليهم مشقة الرحلة.

فخ التواصل

ظننا في البداية أن تكنولوجيا المعلومات ستحول عملية التواصل إلى رحلة مسلية، ولكن هذه الرحلة طالت أكثر من المتوقع، فقد استغرق إنجاز الكتاب نحو 9 أشهر من العمل الحثيث جله في التواصل مع المؤلفين المشاركين.

طورنا نماذج إلكترونية ليضيف المؤلف نبذة عن فكرته وتقديم طلب المشاركة، وراجعنا بعدها الفكرة من أجل التقرير بشأنها، وفي حال القبول، كان على المؤلف كتابة مشاركته كاملة بحسب الإرشادات والشروط وتقديمها، على أن يملأ بعد ذلك نموذجاً منفصلاً لبياناته الشخصية وإقراراً بقبول شروط النشر وغير ذلك من المعلومات.

كان هناك 3 دورات من التواصل كحد أدنى مع كل مؤلف مشارك، وازدادت هذه الدورات إلى 5 أو 6 وأحياناً أكثر عند وجود ملاحظات حول المحتوى وطلبات بالتعديل. هذا بالإضافة إلى مراسلات المتابعة والإخطارات ومشاركة التحديثات. لقد شكّل ذلك عبئاً كبيراً واستهلك زمناً طويلاً، وتكفي الإشارة إلى أنه ولتاريخ إصدار الكتاب، تم إحصاء 1,762 بريداً إلكترونياً – مرسل فقط - إلى المؤلفين.

أضف إلى ذلك تحديات أخرى، كالمؤلفين الذين أدخلوا عناوين بريدهم الإلكتروني بشكل خاطئ، أو الذين لم تصلهم كل المراسلات لإعدادات خاصة بجدران الحماية المستخدمة لديهم، أو الذين تأخروا عن المواعيد المحددة لظروف مختلفة.

حاولنا قدر الإمكان اختصار المراسلات من خلال تجميع الطلبات وشرح الخطوات وتوفير الروابط في رسالة واحدة للمؤلفين المشاركين، وكذلك تفعيل الردود ورسائل التأكيد التلقائية، وفي مرات أخرى اعتمدنا التواصل عبر الهاتف أو تطبيق "واتساب" للذين يفضلون ذلك.

معضلة الكم والنوع

من أهم التحديات التي تعاملنا معها كان التفاوت في مستوى المشاركات، وقد كان هذا التفاوت على مسارين، الأول يخص جودة المحتوى الإداري والعبرة التي يقدمها المؤلف، والثاني مرتبط بطريقة الصياغة والأسلوب والقيمة الأدبية.

تم الاعتذار عن قبول المشاركات التي لم تحقق المستوى المطلوب في المسارين المذكورين، وقد شكل الأمر إحراجاً في بعض الحالات حين تم قبول الفكرة مبدئياً ولكن تم الاعتذار بعد تسلم المشاركة كاملة. حاولنا قدر الإمكان اتخاذ قرار نهائي عقب استلام فكرة المشاركة، ولكن هذا لم يكن يسيراً نظراً إلى أن الفكرة لا تعطي تصوراً واضحاً عن طريقة الصياغة وأسلوب كتابة المشاركة.

جهدنا لموازنة الكم والنوع في الكتاب وقد قارب عدد المشاركات التي تم الاعتذار عنها لتلك التي تم قبولها، وهنا أوجه إلى هؤلاء الشكر والتحية، وأتمنى أن تتاح لنا الفرصة لنتعاون في أعمال أخرى.

لو بدأنا هذه المبادرة اليوم، لكنا قررنا أن يرسل المؤلف مشاركته كاملة منذ البداية وأن يتم مراجعتها وتقييمها دون طلب إرسال الفكرة أولاً، على الرغم من أن القصد من ذلك كان التشجيع على المشاركة وتخفيف العبء على المؤلفين الراغبين بتفادي كتابة كامل المشاركة ومن ثم يتم رفضها.

تباين الثقافة والممارسة

نظراً إلى أن المشاركين من دول مختلفة، فقد برز تحدٍ آخر وهو اختلافات الثقافات والممارسات الإدارية بين الدول، على سبيل المثال، وردت بعض المشاركات مبنية على ممارسة إدارية اعتبرها المؤلف مبتكرة وسباقة، ولكن ذلك كان صحيحاً فقط في المحيط الذي ينتمي إليه المؤلف، بينما تعتبر ممارسات تقليدية جداً وبديهية في دول أخرى وذلك نتيجة تفاوت النضج الإداري بين المكانين.

حاولنا قدر الإمكان توضيح ذلك للمؤلفين أصحاب هذه المشاركات، ولما رأينا هذا الأمر يتكرر، كتبنا أكثر من مشاركة، واستخدمناها كمشاركات نموذجية، وأرسلناها إلى المؤلفين المعنيين لغرض الاستئناس بها ووضع مستوى معين لما هو متوقع منهم. لو عاد بنا الزمن، لكتبنا هذه المشاركات مبكراً منذ البداية، وأتحناها لجميع المؤلفين الراغبين في المشاركة للاطلاع عليها قبل اتخاذ قرار المضي قدماً.

كذلك الأمر بالنسبة لاختلاف الثقافات المجتمعية، حيث تسلمت بعض المشاركات التي احتوت على جرأة كبيرة في الطرح وحساسية عالية تصل إلى حد غير مقبول في منطقتنا، الأمر الذي اضطرنا إلى تعديلها جذرياً في حالات محددة، أو الاعتذار عن قبولها في حالات أخرى.

دوّامة التحرير والمراجعة

كانت عملية التدقيق والتحرير مشكلة مؤرقة أخرى، حيث إن لكل مؤلف أسلوبه وثقافته ومخزونه الإداري، وقد نتج عن ذلك تفاوتات كبيرة بين المشاركات من حيث الصياغة، فنجد بعض المشاركات كتبت باللغة الفصحى، وأخرى باللغة العامية، وأخرى ما بين هذا وذاك.

على الرغم من أننا حددنا في شروط المشاركة ألا يقل عدد الكلمات عن 250 كلمة ولا يزيد على 500 كلمة، فقد وجدنا العديد منها خارج هذه الحدود ما أجبرنا على تعديل معظمها وأحياناً إعادة كتابتها دون الإخلال بروح النص.

من التحديات ذات الصلة أيضاً تشابه بعض المشاركات من حيث الموضوع، وقد اضطرنا هذا إلى الاعتذار عن بعض هذه المشاركات مباشرة، وبعض المشاركات تم قبولها سهواً ولكن تم الاعتذار عنها لاحقاً حال اكتشاف هذا التكرار.

كل ذلك استوجب جهداً إضافياً واستثنائياً في عملية المراجعة والتحرير، والتي تمت على أكثر من مرحلة - خلافاً للكتب العادية - إلى أن وصل الكتاب إلى يدي القارئ بالشكل الحالي.

تحديات الأسماء والمسميات

لقد فرض العدد الكبير للمؤلفين المشاركين تحدياً لا عهد لنا به، لأن مجرد إضافة الاسم ونبذة مختصرة عن كل مؤلف يحتاج إلى كتاب منفصل، الأمر الذي دفعنا إلى ابتكار دليل إلكتروني للمؤلفين المشاركين يحتوي على الاسم والصورة الشخصية ونبذة عن كل مؤلف بالإضافة إلى الدولة وعدد المشاركات، وتم إضافة رابط الدليل ورمز باركود خاص على غلاف الكتاب ليتمكن القارئ من التعرف على جميع المؤلفين، بينما اكتفينا بتضمين الكتاب اسم المؤلف تحت عنوان المشاركة الخاصة به.

أما بالنسبة للألقاب المهنية والأكاديمية، فقد كان هناك صعوبة في كتابة الألقاب بشكل مناسب. نظراً لأن جميع المؤلفين لديهم إنجازات وخبرات نوعية، بعضهم المستشار وبعضهم الطبيب وبعضهم المعلم وغير ذلك. تعاملاً مع هذا الواقع، أضفنا لقب دكتور للحاصلين على شهادات الدكتوراه، وأضفنا ما عدا ذلك في النبذة الخاصة بكل مؤلف.

كذلك فرض العدد الكبير للمشاركين تحدياً لوجستياً في توصيل نسخة مطبوعة من الكتاب للمؤلف المشارك خصوصاً في الظروف الحالية، لقد انتبهنا إلى ذلك وتعاملنا معه بإرسال نسخة إلكترونية محمية خاصة إلى كل مؤلف.

على الرغم من جميع هذه التحديات التي ذكرتها، فإنني أشعر بسعادة غامرة لصدور كتاب "نوادر إدارية" كنتيجة رائدة للتأليف الجماعي العربي، وأشعر بالفخر للتعاون مع هذه الكوكبة من الكتّاب المبدعين، ولا شك في أن العامل الأكبر الذي مدّنا بالطاقة لاستكمال هذه المبادرة كان تخصيص جميع عائداتها لمعالجة الأطفال المصابين بالسرطان، فقد أهدينا هذا الكتاب لهم وللطاقم الطبي المشرف على علاجهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .