تُعد قيادة التغيير في أي مؤسسة كبيرة أمراً صعباً، فكيف إذا كان التغيير في وزارة الخارجية الأميركية التي تعتبر من أكبر المؤسسات بيروقراطية في العالم. حتى أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شاركتُ في قيادة دائرة صغيرة نسبياً (400 شخص) ضمن الوزارة. ومن خلال تجربتي كقائد رقمي في إدارة الرئيس باراك أوباما، زاد تفاؤلي بأنّ التغيير يمكن أن يحدث حتى في البيروقراطيات الكبيرة.
من خلال مراقبتي لما تحقق من نجاح وفشل في الحكومة، وجدت أنّ هناك ثلاثة عناصر مشتركة مطلوبة لتحقيق التغيير التنظيمي الإيجابي:
تأسيس المصداقية - بتواضع
كان التحدي الأول الذي واجهته، هو أنني كنت منتدباً سياسياً، أدخل في بيئة موظفين كرّسوا مسارهم المهني للعمل الحكومي. ومن الطبيعي ألا يتقبلوا رأي غريب يرى أنهم على خطأ، وهو مقتنع بغرور أنه الشخص الأذكى في هذا المكان.
لهذا، شعرت بالحاجة إلى تأكيد حسن نيتي ومصداقيتي. كان هناك شيء في صالحي، هو أنني ابن ضابط في الخدمة الخارجية. لا زلت أذكر التعليقات المتكررة والعفوية التي كان يقولها والدي عن المنتدبين السياسيين. والآن، بعد مرور 20 عاماً، أصبحت أنا أحد هؤلاء المنتدبين السياسيين. يا للسخرية! لذلك بالطبع تواصلت مع والدي للحصول على المشورة حول ما علي فعله كي لا أصبح أحد أولئك الأشخاص.
كانت نصيحته أن أسلّم بأنّ كل شخص سأقابله في مكتبي سيقوم بوظيفته على خير ما يرام من دوني، فقد فعلوا ذلك لسنوات، وأحياناً لعقود، وسيستمر هذا لفترة طويلة بعد مغادرتي. أما أنا، من ناحية أخرى، لا يمكنني أن أفعل شيئاً على الإطلاق من دون دعمهم. فإذا استمعت إلى فريقي وقدمت لهم دعماً وفيراً، سيكون بوسعهم تحقيق أشياء لا تصدق، ومعاً يمكننا دفع العمل إلى الأمام.
على هذا الأساس، حاولت التعرف على جميع الأشخاص الـ140 في فريقي، فرداً فرداً، على الغداء. سألتهم أسئلة واستمعت إلى مشاكلهم. كان بينهم امرأة حاصلة على درجة الماجستير في الصحافة، وتدير الآن مشاريع التقنية العالمية، وشخص يدير عقوداً بملايين الدولارات في النهار ومصور فلكي في الليل، وطيار في القوات الجوية الاحتياطية ينقل بانتظام وفود الكونغرس الأميركي في الخارج.
شاركت معهم إيماني القوي بأننا جميعاً مسؤولون بشكل جماعي عن جعل المكان أفضل مما وجدناه. وأننا لن ننجح من دون مساهمات جميع الأفراد الفعّالة.
تقليل المخاطر وإظهار قيمتها
ربما يعتقد المرء أنّ الحصول على دعم كامل من الجميع، سيكون الهدف النهائي في التغيير التنظيمي، ولكن الحكومة، أو أي مؤسسة كبرى، لا تعمل بتلك الطريقة. إذ يتطلب التغيير الناجح قيادة قوية، والعمل خطوة بخطوة مع الأشخاص المناسبين لتحريك بقية المؤسسة في الاتجاه الصحيح.
منذ البداية، رأينا أنّ هناك أوجه تشابه للتغيير الناجح ضمن المؤسسة مع حملات المناصرة السياسية:
- قاعدتنا من المؤيدين. كان 20 في المئة من القوى العاملة متحمسين للتغييرات الجذرية التي دفعنا بها. وكانت تلك أكثر المجموعات ابتكاراً وتعاونية وتقبلاً للأفكار الجديدة، فضلاً عن مشاركتها أفكارها الخاصة.
- المعارضون. كانت أقلية صغيرة من حوالي 10 في المئة، وهي ساخرة وغير مهتمة بالتغييرات. ليس ذلك فحسب، بل كانت هناك ضمن هذه المجموعة أيضاً مجموعة فرعية من المعرقلين الهدامين ينشرون الشائعات. بالنسبة لهم، كان التغيير تهديداً للوضع الراهن الذي أضحوا مرتاحين له.
- المترددون والناخبون المتأرجحون. أما نسبة الـ70 في المئة الباقية فكانت المجموعة التي احتجنا لإقناعها. لم يكن هؤلاء متحمسين لأفكارنا، ولم يكونوا معارضين لها.
تطلّب الفوز بحملتنا للتغيير أمرين: الحدّ من مخاطر التغيير، وإظهار فائدته. إلى جانب ذلك، كنا بحاجة لتعزيز ثقافة تتقبل المخاطرة وتشجع الأفكار الجديدة، (المفاهيم لا توجد بشكل تلقائي في الحكومة).
كانت الاستراتيجية تقوم على تمكين مؤيدينا من العمل كسفراء للتغيير وتشجيع زملائهم على تبني فلسفات ومفاهيم عمل جديدة، أي تلك التي تعني مثلاً أنّ القيادة تدعم كلياً خوض بعض المخاطرات التي تهدف إلى تحقيق النتائج. لأننا إذا لم نقم بذلك، فإن حالة فشل التغيير ستستمر، قاطعة الطريق أمام الإبداع.
بالطبع، هناك بعض الخدمات الحكومية الحساسة التي يجب ألا تفشل، مثل معالجة الضرائب أو العمليات العسكرية أو فرز الأصوات. ولكن يتوجب علينا إدراك أنه في كثير من الحالات اليومية لا يكون الفشل سيئاً، بل هو إشارة على أنك تحاول. إنما تكرار الفشل هو السيء. وبالنسبة إلى المخاطرة فهي عنصر ضروري للابتكار، وعلينا أن نمنح الآخرين إذناً ومساحة آمنة لتجريب أشياء جديدة، والأهم من ذلك، لتجريب الفشل.
في القطاع الخاص، يمكن قياس قيمة المخاطرة بحسب مقدار الزيادة في الإيرادات. أما في القطاع الحكومي، فإننا نريد رؤية خدمات تُقدم بشكل أفضل، وزيادة في الإنتاجية والكفاءة، وتحسناً في معنويات الموظفين.
مكّن الأشخاص بالتقنية
تمكّن التقنية الأشخاص وتقوي الثقافة. ربما تبدو حاجة الناس للأدوات الصحيحة أمراً واضحاً، لكنها أيضاً حاجة يسهل تناسيها. إذ تجعل التقنية غير المناسبة حتى الجوانب البسيطة من العمل صعبة، ما يؤثر سلباً على معنويات الموظفين. عندما يتكرر حصول هذا عبر كامل المؤسسة ستكون النتيجة ثقافة من خيبة الأمل والإحباط.
للأسف، تُعرف الحكومة بالمشاريع التقنية البيروقراطية القديمة التي تتجاوز ميزانياتها. لقد كانت البيئة التقنية لدى وصولي للمؤسسة قاتمة. ولم يكن لدينا شبكة واي فاي، وكان البلوتوث محظوراً، وكان كل موظف يحصل على جهاز كمبيوتر مكتبي من نوع ديل عمره خمس سنوات، ويحصل بعضهم على جهاز بلاك بيري، وكانت الغالبية تعطى رمزاً مشفراً كي يتمكنوا من الدخول في المنزل عبر نظام سيتريكس (Citrix)، ليواجهوا بعدها بتقطعات لا تنتهي وتأخير ثانية واحدة في كل ضغطة. علماً، أنّ هذه التجهيزات كانت تكلّف دافعي الضرائب حوالي 1,900 دولار لكل موظف، في السنة، وذلك فقط للصيانة.
لم يكن هذا تمكيناً لموظفينا، ولا كان يعزز ثقافتنا. لقد ورثنا شلل سنوات من النماذج السيئة لكيفية اكتساب الحلول التقنية ونشرها ودعمها. وكنت هناك للمساعدة في تحدي هذه النماذج الخاطئة. إذ لم نكن نريد تقنية خاصة بالحكومة. كنا بحاجة إلى أفضل التقنيات المتاحة، ولا نقاش في ذلك.
أضفنا أفضل المنصات في الصناعة مثل سلاك (Slack)، وجي سويت (تطبيقات جوجل سابقاً)، وتقنيات المصادر المفتوحة، فكنا نجربها لنقيّم فائدتها. وكانت العملية عضوية وبطيئة في البداية، لكن لم تمر بضعة أشهر إلا وكان نصف العاملين في المكتب يستخدمون هذه الأدوات الجديدة. في موازاة ذلك، تأكدنا من أنّ استخدام هذه الأدوات كان يراعي السياسات الأمنية الحيوية لضمان وجود هيكلية أذونات تسمح للموظفين الاستخدام الآمن.
كان هناك تحسن ملحوظ تقريباً في تدفق المعلومات. فقد ألغى محرر مستندات جوجل إحباطات إدارة إصدارات الوثائق، فانفجر التعاون حول الأفكار. وسمحت سلاك بالتواصل في المكتب بشكل أكثر انفتاحاً وشفافية. وبدلاً من المحادثات المغلقة في البريد الإلكتروني، كان لدينا قنوات مفتوحة مع الموظفين الكبار والمستجدين منهم لمناقشة الاستراتيجيات. ولم يعد المدراء يزعجون الموظفين لمعرفة آخر المستجدات، لأنه أصبح بإمكانهم تتبع المحادثات المفتوحة. كما أننا أيضاً حررنا الأشخاص من الجلوس على مكاتبهم بمنحهم أجهزة موبايل، وتزويد المكتب بخدمة الإنترنت "واي فاي" على أن يكون آمناً. فقد كان الناس بحاجة للوصول إلى بيانات عملهم من أي مكان وفي أي وقت باستخدام أي جهاز.
لدى مغادرتي وزارة الخارجية بعد ثلاث سنوات تقريباً، كان مكتبنا عملياً في وضع أفضل مما وجدناه عليه في السابق. والدليل على ذلك هو الوقت الذي تستغرقه الوزارة لإطلاق المشاريع: فمشروع تحديث البنية التحتية العالمية لمواقع السفارة الأميركية على الإنترنت الذي كان من المتوقع أن يستغرق أربع سنوات في البداية، سوف يتم في أكثر من عام بقليل، وذلك بفضل وجود الأشخاص والثقافة والتقنية المناسبة. كما تمكنّا من إطلاق منصة ديبلوماسية عامة للمحتوى المنتقى بعناية والمناسب للمواقع الاجتماعية خلال ثلاثة أشهر فقط.
تغيير مؤسسة كبيرة هي لعبة تفاصيل دقيقة. تبدو صعبة أحياناً، ولكن التحول ممكن.