نشهد منذ أيام هبوطاً حاداً في قيمة مجموعة من أشهر مؤشرات الأسواق المالية، ما يُعيد للأذهان أحداث الاثنين الأسود من عام 1987، فهل كان من الممكن للخبراء التنبؤ بوقوعها، أم أن بعض الخبراء توقعوا حدوثها لكنهم تجاهلوها؟
يوجد مصطلح اسمه "نظرية البجعة السوداء" (Black Swan Theory)، يشير إلى عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث النادرة وكأنها مستحيلة الحدوث. أخذت النظرية اسمها من طائر البجع، إذ كان الاعتقاد سائداً أن كل طيور هذا النوع لونها أبيض، حتى جرى اكتشاف البجع الأسود في غرب أستراليا في القرن الثامن عشر؛ وحتى يأخذ حدث ما صفة البجعة السوداء، يجب أن يكون مفاجئاً وغير قابل للتوقع وله تأثير كبير. من الأمثلة على أحداث البجعة السوداء اختراع كل من الكمبيوتر والإنترنت، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. صاغ النظرية الباحث اللبناني نسيم نقولا عام 2007 في كتابه "البجعة السوداء" (The Black Swan)، لكن أول من استخدم المصطلح كان الاقتصادي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر عند حديثه عن مفهوم "قابلية الدحض" (Falsifiability).
لا توجد معايير متفق عليها يمكن من خلالها تصنيف حدث ما على أنه "بجعة سوداء"، لذلك يمكن أن يكون كارثة طبيعية أو حرباً نشبت فجأة أو انهياراً مالياً أو تفشياً عالمياً لفيروس قاتل، لكن وفقاً لنسيم نقولا، فإن أحداث البجعة السوداء تتصف عادة بـ 3 خصائص رئيسية هي:
- لم يقع مثلها في الماضي القريب، ولا يمكن لأدوات التنبؤ والتوقع المستخدمة وقت وقوعها رصدها.
- تترك أثراً عميقاً على مستوى المجتمعات في جميع أنحاء العالم.
- تكون غير قابلة للتفسير وقت وقوعها، ولا يمكن استيعابها إلا بعد مرور زمن كافٍ على وقوعها، ويؤدي ذلك إلى وقوع الكثير من الأفراد في انحياز سلوكي يسميه الباحثون "انحياز الإدراك المتأخر"؛ أي ميل الأفراد إلى المبالغة في الاعتقاد أنهم كانوا قادرين على التوقع الصحيح لنتيجة حدث ما وقع في السابق، لذلك تجدهم يستخدمون عادة عبارات مثل: "كنت متأكداً من حصول ذلك" للتعبير على الأحداث الحاصلة، على الرغم من أنها كانت غير متوقعة.
بناءً على هذه المعايير، فالأزمة المالية التي نشهدها هذه الأيام يمكن وصفها بـ "بجعة سوداء"، لكن المؤلف والمدافع عن البيئة آدم سويدان له رأي آخر، إذ يصف الكوارث التي تلوح في الأفق ويمكن التنبؤ بها ولا يرغب أحد في التصدي لها بمصطلح "الفيل الأسود"، وهو مصطلح مشتق من الجمع بين "أحداث البجعة السوداء" والعبارة المجازية "فيل في الغرفة" التي تعبّر عن الحقائق الواضحة التي يجري تجاهلها، فالظروف السياسية والمؤشرات الاقتصادية التي نعيشها حالياً تشبه الظروف المحيطة بأزمة عام 1987؛ أي أنها أقرب لـ "فيل أسود" من "بجعة سوداء"، فالقدرة على التنبؤ هي ما يميّز "البجعة" عن "الفيل"، لذلك نجد عدم اتفاق على وصف بعض الأحداث التاريخية مثل جائحة كوفيد-19 التي يصفها بعض الخبراء بـ "البجعة السوداء" في حين يُصر آخرون على أنها "فيل أسود"؛ لأن احتمالية التنبؤ بتفشي الأوبئة واردة دائماً، والأمر نفسه بالنسبة للأزمة المالية العالمية عام 2008؛ لأنه من المحتمل أن نعاني المزيد من تلك الأحداث كالهجمات الإلكترونية والأعطال في تداول الأوراق المالية القائم على الخوارزميات، والكوارث البيئية الناجمة عن التغيرات المناخية. في الماضي كان بإمكان الشركات تجاهل هذه التهديدات بوصفها مشكلات محلية أو إقليمية، ولكن الآن تترابط الأسواق والشركات ويتداخل بعضها في بعض تداخلاً عميقاً للغاية في شتى أنحاء العالم لدرجة أن الاضطراب الذي يحدث في أحد الأماكن يمكن أن ينتشر بسرعة في أماكن أخرى.
في سياق الحديث عن المصطلحات التي تحمل أسماء حيوانات وتجاهل المعلومات، يبرز انحياز سلوكي يصف الميل نحو تجاهل المعلومات الخطيرة أو السلبية عن طريق تجنب سماعها أو التظاهر بعدم وجودها، ويسميه الباحثون "تأثير النعامة" (Ostrich Effect)، ويرجع أصل المصطلح إلى المعلومة الشائعة غير الصحيحة عن طائر النعامة الذي يدفن رأسه في الرمال عندما يحس بالخطر. قد يكون الدافع وراء ظهور هذا الانحياز هو أننا قد اتخذنا قراراً بالفعل حول موضوع معين، وقد يكون هذا التحيز مؤشراً على أننا نريد فقط النظر في الجوانب الإيجابية المرتبطة بموضوع ما.
على المستويين المؤسسي والشخصي، فإن أفضل حل للتعامل مع مثل هذه الأحداث هو تبنّي عقلية استشرافية بعيدة عن منطقة الراحة، والاستعداد للتجريب المستمر، فقراءة المستقبل والخوف منه مفيدان جداً كما يقول الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنتل أندرو غروف: "المشكّكون الخائفون هم فقط من يستطيعون النجاة في عصرنا الحالي".