كلما ازداد انشغالك ازدادت حاجتك إلى الوعي والانتباه

5 دقيقة

لطالما كانت الشركات ذات التطلّعات الأكثر تقدمية وتركيزاً على المستقبل مستعدة للمجازفة بهدف تحقيق الإنجازات العظيمة. ويكتفي معظم القادة بإطلاق الوعود النظرية بهذا الخصوص ولا يفعلون شيئاً، لكن قلة من هؤلاء القادة فقط يجازفون فعلياً. وقد عملنا مع مصارف مستعدة لشراء أصول ذات مخاطر عالية (مجدداً) وصناديق تحوط مستعدة للمقامرة بمبلغ 100 مليون دولار لشراء شركة فاشلة. ومع ذلك، لا يزال قادتها يخشون فكرة التريث لوهلة ليطلبوا من موظفيهم التوقف عن العمل لمدة دقيقتين يومياً ليراقبوا أنفاسهم الداخلة إلى صدورهم والخارجة منها.

وفي أكثر من 700 حديث لنا ألقيناه في مؤتمرات مختلفة، لم نسمع إلا مرتين فقط بقائد كبير يتجاوز عملية تحديد الأهداف المالية للسنة التالية ويضيف إليها بنداً آخر، من خلال إخبار الشركة بأن واحداً من أهم مفاتيح النجاح هو الانتباه واليقظة الذهنية أو ما يعرف بالوعي الذاتي. ومن وجهة نظرنا نحن، فإن "العمل الجاد، والعمل بوتيرة أسرع، وإنجاز المزيد بموارد أقل" هي الحلول المحدودة للمؤسسات القصيرة النظر التي تخشى المجازفة. فالقادة الذين يمتلكون فكراً تقدمياً بحق ويتطلعون إلى المستقبل يدركون بأن واحدة من أفضل الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها في قطاع الأعمال هي تطوير مَلَكَة التفكير والانتباه العميق إلى قواهم العاملة.

تُعتبر شركة "أتنا" (Aetna) واحدة من الشركات الرائدة في العالم التي بادرت إلى تطبيق أساليب علم النفس الإيجابي في العمل، حيث وضعت برنامجاً تدريبياً يساعد الموظفين على التفكير العميق. وكان البرنامج مصمّماً لتعليم الموظفين كيفية أخذ استراحات قصيرة من أجل تركيز انتباههم باستعمال تقنيات التأمل الذاتي واليوغا. وقد شارك في البرنامج أكثر من ربع موظفي الشركة البالغ عددهم 50 ألفاً. وقد تزايدت العلامات التي حصل عليها الموظفون في مجال الانتباه العميق، كما هو متوقع، ولكن حصل في الوقت نفسه تراجع في المعدل الوسطي لدرجات التوتر لديهم وبنسبة بلغت 28%، وتحسنت مستويات النوم لديهم كما أفادوا بنسبة 20%، بينما حصل انخفاض في معدلات الألم بواقع 19%. وحسبت شركة "أتنا" حجم الأموال التي وفّرتها نتيجة لتطبيق البرنامج واكتشفت بأن إنتاجية المشاركين في برنامج تحسين الانتباه قد ارتفعت بواقع 62 دقيقة أسبوعياً لكل موظف، أي ما يمثل زيادة تبلغ 3 آلاف دولار في إنتاجية الموظف الواحد في الشركة كل عام. وكانت المصاريف الطبية للأفراد الواقعين في أعلى 20% من سلم التوتر قد بلغت ما يقارب ألفي دولار أكثر في السنة التي سبقت تطبيق البرنامج، الأمر الذي يعني بأن تطبيق البرنامج يمكن أن يقود إلى توفير كبير في المصاريف الطبية. وبناء على تجربة شركة "أتنا" هذه، فإن الحديث هنا هو عن مبلغ وسطي قد يصل إلى 5 آلاف دولار للموظف الواحد، بحسب النقطة التي يبدأ الموظف منها. ولكن حتى هذا الرقم أيضاً قد لا يكون كافياً لتقدير القيمة المالية الحقيقية للانتباه واليقظة الذهنية، بما أنه لا يشمل التأثيرات الإيجابية على تقلّب الموظفين، أو تكاليف إعادة توظيف أناس جدد، أو تكاليف إعادة التدريب، أو خدمة الزبائن.

وفي الآونة الأخيرة، لجأ عدد متزايد من الباحثين إلى دراسة تأثير موضوع الانتباه والوعي على نجاح الشركات. وقد ساعدت إلين لانغير، عالمة النفس بجامعة "هارفارد" وواحدة من أهم خبراء العالم في مجال تأثير الوعي والانتباه، في توضيح تأثير الانتباه والوعي على مكان العمل وخارجه وذلك في مقال لها نشر في صحيفة "نيويورك تايمز". تقول إيلين: "إن اليقظة الذهنية والانتباه يعنيان على "ملاحظة التغيّرات الحاصلة في كل لحظة من حولك، من الاختلافات التي تراها في وجه زوجتك الجالسة قبالتك على مائدة الإفطار إلى التباين في أعراض مرض الربو التي تظهر عليك". وفي عملنا الذي قمنا به، عرّفنا اليقظة الذهنية والانتباه على أنه "إدراك الأحداث والاحتمالات ضمن بيئة معينة". راقب أعضاء فريقك في العمل: هل يبدو عليهم الانتباه والوعي الذاتي الكبيرين؟ أم أن أدمغتهم تبدو وكأنها دائماً سابقة للحاضر وبالتالي يفوتهم ما يحصل هنا والآن – مثل ردود الأفعال التي تظهر على وجوه زملائهم الآخرين في الفريق، والفرص التي تسمح لهم بالاستفادة من إيجابيات التوتر، والفرصة السانحة لكيل المديح إلى شخص معيّن أو الإقرار بعمله الجيد قبل الوقوع في مشاكل جديدة؟ إن غياب الانتباه واليقظة الذهنية يحرم الجميع من فرصة رؤية المسارات المحتملة إلى النجاح.

وليس من الصعب ملاحظة التأثيرات السلبية لعدم الانتباه وقلة الوعي. فنحن جميعاً عرضة للوقوع في فخ الإنتاجية بحيث نندفع وبمنتهى الجنون إلى ملء أيامنا بالاجتماعات التي يجب أن نحضرها وبالاستمارات التي يجب أن نملأها. فكر في الأسئلة التالية: 1) عندما تجد نفسك لا تفعل شيئاً "مُنتجاً"، هل تشعر بأن الأحداث تفوتك أو أنك لا تستغل وقتك جيداً؟ 2) عندما لا يكون لديك اجتماع مدرج في جدول أعمالك، فهل تملأ اللحظات الزمنية القليلة الفاصلة بين مختلف الأنشطة بسحب هاتفك من جيبك لتفقد الأسهم أو الرسائل الإلكترونية الجديدة الواردة، أو لقراءة العناوين، أو لممارسة بعض الألعاب الإلكترونية السريعة مثل "آنغري بيردز"؟ 3) إذا كان لديك وقت فراغ، فهل تشعر أحياناً بأنك ضائع ولا تعرف كيف تملؤه؟ 4) هل تريد فريقاً أنجح؟ 5) هل تريد ترقية؟ إذا كانت إجابتك عن أي من هذه الأسئلة هي نعم، فقد تحتاج أنت أو شركتك إلى تدريب في مجال اليقظة الذهنية والانتباه.

إن التدريب على اليقظة الذهنية والانتباه، والذي يقود إلى نتائج مهمة، هو أمر ممكن خلال بضع دقائق فقط في اليوم. ففي تجربة رائعة وملفتة للانتباه، أجرت إيمي بلانكسون من معهد "الأبحاث الإيجابية التطبيقية"، دراسة تجريبية شملت الموظفين الجدد في شركة "جوجل". وقد شجّعت هذه الدراسة التجريبية الموظفين الجدد على ممارسة اليقظة الذهنية والانتباه من خلال ممارسة التأمل لمدة دقيقتين في اليوم الواحد وتدوين الأشياء التي شعروا بالامتنان حيالها في دفتر مخصّص لذلك. وقد تحسنت علامات التفاعل مع المحيط لدى الأشخاص الذين شاركوا في البرنامج. ورغم أننا هنا لسنا سوى أمام مثال واحد بين أمثلة عديدة، فإن السبب الذي يدفعنا إلى تسليط الضوء على تجربة "جوجل"، هو أن هذه الشركة قد تبدو من الخارج بوصفها أقل الشركات حاجة إلى إيجاد طرق لتفاعل الموظفين مع محيطهم. ولكن، كما قال لازلو بوك، رئيس قسم الموظفين في "جوجل"، في كتابه الذي حمل عنوان "قواعد العمل" (Work Rules): "بعد أن يتراجع الشعور بالجدّة ودرجة الإثارة من كل المغريات العظيمة والظروف المنشطة التي توفرها "جوجل" في بيئة عملها (المسابح الدائمة، والمطابخ الصغيرة، والدراجات الهوائية الملونة، ووجبات السوشي المجانية، وغيرها)، فإن تفاعل الموظف مع محيطه يمكن أن يتراجع ما لم يتخذ خطوات إيجابية استباقية للاختيار، وبملء إرادته، لممارسة اليقظة الذهنية والانتباه والشعور بالامتنان.

قد يقول البعض منكم بأنهم منغمسون في الكثير من العمل ولا وقت لديهم للتركيز على التأمل. لكننا نقول لهم إنهم منغمسون في الكثير من العمل الذي "لا يجب" أن يركزوا عليه. فقد وجد باحثون من جامعة "واشنطن"، بأن معدلات الدقة لديك، وقدرتك على إنجاز عدة مهام في وقت واحد، وقدرتك على التعامل مع التوتر تتحسن بمقدار كبير إذا تدربت على ممارسة التأمل الذاتي لمدة 8 أسابيع فقط. وفي مقال نشر في واحدة من كبريات مجلات علم النفس، خلصت زميلتنا الباحثة عليا كروم، إلى أن توعية الأفراد ولفت انتباههم إلى المعنى الكامن وراء حالة التوتر الموجودة لديهم، أدت إلى حصول تراجع كبير في التأثيرات السلبية لحالة التوتر التي شعروا بها. وبالتالي، فإن تدريب الناس على اليقظة الذهنية والانتباه يمكن أن يساعدهم في إدراك المعاني التي كانت ستفوتهم لو لم يحصلوا على هذا التدريب.

هناك الكثير من الطرق التي درستها الأبحاث العلمية المختلفة لزيادة الوعي والانتباه، ولكن عوضاً عن أن نتخمكم بالكثير من الخيارات التي لن تتبنوها على الأغلب، دعونا نقترح عليكم خياراً واحداً سهلاً: في اللحظة التي تصلون فيها إلى مكتبكم صباحاً، حاولوا قضاء دقيقتين يومياً للبدء بممارسة طقس جديد لا تفعلون فيه أي شيء سوى مراقبة أنفاسكم الداخلة إلى صدوركم والخارجة منها، مع إدراك محيطكم في الوقت ذاته.

في أحيان كثيرة يفترض معظم القادة الطموحين بأنهم إذا استمروا في السعي هنا وهناك، فإنهم بذلك سينجزون الكثير. ولكن إذا أردت أن تكون شخصاً مهنياً يتطلع إلى الأمام ويفكر في المستقبل، فيجب عليك أن تتوقف عن التفكير في المستقبل لوهلة. وإذا أردت إنجاز المزيد اليوم، اجلس وحاول أن تتدرب على إدراك أنفاسك الداخلة إلى صدرك والخارجة منه، وعلى حقيقة أنك قادر على الوصول إلى المعنى في هذه اللحظة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي