ملاحظة من المحرر: تستند هذه المقالة إلى بحث أكاديمي تم التراجع عنه وسحبه بتاريخ 4 أغسطس/ آب 2023.
ألهم ريتشارد ثالر، الأستاذ في جامعة شيكاغو والفائز بجائزة نوبل التذكارية في علوم الاقتصاد، الباحثين في مختلف التخصصات، كما أنه غيّر جذرياً طريقة تفكيرنا في السلوك البشري. ويمكننا اعتبار ثالر المؤسس أو الأب لعلم الاقتصاد السلوكي، وهو فرع جديد نسبياً يجمع رؤى من علم النفس والتقدير واتخاذ القرارات والاقتصاد من أجل توليد فهم أكثر دقة للسلوك الإنساني. فماذا عن تأثير الاقتصاديات السلوكية حول العالم؟
لطالما اختلفت علوم الاقتصاد عن التخصصات الأخرى في افتراضها أنّ معظم السلوك البشري، إن لم يكن كله، يسهل شرحه من منطلق أنّ تفضيلاتنا معروفة جيداً وثابتة بمرور الوقت وعقلانية. ابتداء من التسعينيات، بدأ ثالر يتحدى تلك النظرة بالكتابة عن شذوذ في سلوكيات الأشخاص لا يمكن شرحها بالنظرية المعيارية للاقتصاد. مثلاً، في العام 1991، بدأ يكتب عموداً في صحيفة الآراء الاقتصادية مع زميلين آخرين خصصت جميعها لمثل هذا الشذوذ.
اقرأ أيضاً: دروس وإرشادات لوحدات الترغيب والتوجيه السلوكي في الشرق الأوسط
من بين إنجازاته العديدة، ألهم ثالر ابتكار فرق العلوم السلوكية، والمدعوة عادة باسم "وحدات الترغيب" في الشركات العامة والخاصة حول العالم. وعمل إلى جانب كاس سانستين في العام 2008 على تأليف كتاب "ترغيب: تحسين القرارات في الصحة والثروة والسعادة" (Nudge: Improving Decisions about Health, Wealth, and Happiness) والذي يرى فيه أنّ هناك فرصاً عديدة من أجل "الترغيب" نحو سلوك يُحدث تغييرات قوية على السياق الذي سيُتخذ فيه القرار وهو موضوع سبق لي أن بحثت فيه.
تأثير الاقتصاديات السلوكية
يمكن للترغيب حل جميع المشاكل المهمة في نظر الحكومات والأعمال على حد سواء. إليكم هنا بعض الأمثلة.
قبل بضع سنوات، أراد قادة شركة جنرال إلكتريك التعامل مع مشكلة التدخين لإيمانهم بتأثيرها السلبي على الموظفين. لهذا، ومن خلال التعاون مع كيفن فلوب وزملائه من المؤلفين، أجروا تجربة عشوائية (أشبه بتجربة ميدانية). إذ قدم للموظفين في مجموعة المعالجة 250 دولار إذا توقفوا عن التدخين لستة أشهر، و400 دولار إن توقفوا لمدة 12 شهراً. أما الأشخاص في مجموعة التحكم فلم يحصلوا على أي حافز. وجد الباحثون أنّ مجموعة المعالجة حققت ثلاثة أضعاف معدل النجاح مقارنة بمجموعة التحكم، واستمر التأثير حتى بعد التوقف عن منح الحوافز بعد مرور 12 شهراً. بناء على هذا، غيّرت جنرال إلكتريك سياستها وبدأت تستخدم هذا الأسلوب مع موظفيها البالغ عددهم 152,000 موظف.
تُعتبر السياسات التي تؤثر على كمية ما نتناوله من طعام سلوكاً آخراً مهماً في نظر واضعي السياسات والشركات الذين يريدون التشجيع على أنماط حياة صحية (مثلاً، جوجل وفيسبوك). لدى مكدونالدز سياسة قديمة تقوم على سؤال المستهلكين إذا كانوا يريدون زيادة حجم وجبتهم. وغالباً، تكون الإجابة بالموافقة. لكن بحثاً أجرته جانيت شوارتز وزملاؤها توصل إلى أنه عندما سُئل زبائن مطعم صيني إذا كانوا يريدون تقليل كمية الأطباق الجانبية في وجبتهم، كانوا يوافقون غالباً. شكلت هذه النسبة من الزبائن التي وافقت على تقليل حجم وجبتها ما بين 14 في المئة إلى 33 في المئة من مجموع الزبائن، وتناولوا ما يعادل 200 حريرة أقل من غيرهم.
تجربة ريتشارد ثالر
وفي بحث أجراه ثالر بنفسه، استُخدم التسجيل التلقائي لزيادة مدخرات الموظفين عبر زيادة تلقائية في النسبة المخصصة للتوفير من رواتبهم. سمي البرنامج "ادخر أكثر اليوم". زاد المشاركون في البرنامج نسب مدخراتهم من 3.5 في المئة إلى 13.6 في المئة على مدى 40 شهراً وسطياً، في حين ظلت معدلات الادخار راكدة لأولئك الذين لم يشاركوا في البرنامج.
اقرأ أيضاً: علم الاقتصاد السلوكي أفضل وقاية من الأنفلونزا
كذلك، يساعد الترغيب في زيادة الأمانة. أجريت أنا وزملائي تجربة ميدانية بالتعاون مع شركة تأمين. إذ طلبنا من العملاء التوقيع في أعلى الاستمارة أو أسفلها عندما يبلّغون عن عدد الأميال التي قطعوها في سيارتهم خلال السنة السابقة وذلك بهدف تقييم التأمين. بنقلنا مكان التوقيع إلى الأعلى، هيّأناهم للتصرف بنزاهة. وعليه، كان عدد أكبر من الأشخاص صادقين عند الإبلاغ عن رقم عداد سياراتهم بدل تقليل ذلك الرقم كي يحصلوا على سعر أفضل مثلما كانوا يفعلون عندما كانوا يوقّعون في أسفل الاستمارة.
ليس الهدف من كل هذا القول إنّ الاقتصاد السلوكي أمر سهل على الشركات تطبيقه، فهناك طرق عديدة خاطئة للاستخدام ورأينا أمثلة حديثة عنها في شركات مثل أوبر.
اقرأ أيضاً: كيف تتحدد اختياراتنا وفقاً لعلم الاقتصاد السلوكي؟
وفي نهاية الحديث عن تأثير الاقتصاديات السلوكية حول العالم، ربما لا يبدو التدخين والتوفير للتقاعد والأمانة والأكل الصحي قائمة من المشاكل أو القضايا التي ترغب في رؤية تحسن فيها في سلوك أو أفعال الأشخاص الذين تديرهم أو تقودهم. لكن أياً كان ما يثير قلقك، فإنّ تبني الترغيب، كما يخبرنا ثالر والعديد من الباحثين الذين اتبعوا أسلوبه في البحث، يؤدي إلى تغيير قوي نحو الأفضل. يتطلب الأمر فقط اعترافاً بأنّ السلوك البشري فيه الكثير من التناقضات.
اقرأ أيضاً: كيف تبني مهارات العلوم السلوكية في شركتك؟