ملخص: عملت شركة نوفارتس (Novartis) على تدريب أكثر من 1,000 موظف على تقديم الإسعافات الأولية في مجال الصحة العقلية، وذلك بهدف تقديم الدعم والمساعدة لزملائهم في العمل. على الرغم من أن الموظفين كانوا متحمسين للتدريب، فإن معدل الإقبال على المشاركة في البرنامج لا يزال منخفضاً. سعى فريق من الباحثين إلى فهم سبب انخفاض المشاركة في البرنامج، وذلك من خلال إجراء تجربة عشوائية منتظمة شملت 2,400 موظف من شركة نوفارتس يعملون في كل من المملكة المتحدة وأيرلندا والهند وماليزيا. عُرضت على الموظفين صيغة واحدة من 6 صيغ مصمّمة للتغلب على عقبتين رئيسيتين، وهما المخاوف المتعلقة بالخصوصية والمخاوف المتعلقة باستخدام البرنامج. وجد الباحثون أن الموظفين الذين قرؤوا قصة عن زميل لهم يستخدم الخدمة كانوا أكثر عرضة للتسجيل لمعرفة مزيد من المعلومات حول البرنامج وأن التشديد على سرية البرنامج وحجب هوية المشاركين لم يبدُ له أي تأثير. تشير نتائج الدراسة إلى أن إحدى طرق تشجيع الموظفين على الاستفادة من موارد الصحة العقلية المتاحة تتمثل في بناء ثقافة داعمة تشجع على الحديث عن التحديات المتعلقة بالصحة العقلية في العمل.
أبدى أحد الأصدقاء، الذي كان يعاني أعراض الاحتراق الوظيفي، تردده في الاستفادة من الاستشارة الميدانية التي وفرتها الشركة التي يعمل فيها في أعقاب الجائحة؛ إذ قرر تحديد موعد للحصول على المساعدة عدة مرات، لكنه في النهاية لم يذهب قط،
ويفسّر ذلك بأنه لم يكن متأكداً من أهمية مشاكله بما يستدعي حصوله على المساعدة ولم يرغب في إهدار وقت شخص آخر دون داعٍ. إن تجربة صديقنا ليست تجربة فريدة من نوعها؛ إذ تمثل الصحة العقلية تحدياً متزايداً في مكان العمل. ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يعانون أعراض القلق أو الاكتئاب في أنحاء العالم كافة، وهما عاملان رئيسيان يضعفان الصحة العقلية، إلى 41% في عام 2021؛ مقارنة بنسبة 11% في عام 2019، ويطالب الموظفون بتوفير دعم أكبر فيما يتعلق بالصحة العقلية، وفقاً لتقرير صادر عن جمعية علم النفس الأميركية (American Psychological Association) في عام 2022، يرى 81% من الموظفين أن دعم الصحة العقلية يجب أن يكون أولوية رئيسية بالنسبة لأصحاب العمل في المستقبل.
استجابة لهذه المطالب، استثمرت مؤسسات عديدة في مبادرات جديدة لدعم الصحة العقلية أو عززت مبادراتها الحالية، مثل توفير أيام للعناية بالصحة العقلية، أو تقديم مزايا الاستشارة، أو تنفيذ برامج دعم الأقران، أو توفير تطبيقات الصحة العقلية.
لكن، مثلما يوضح المثال أعلاه، لا يستفيد العديد من الموظفين من هذه المبادرات ذات النوايا الحسنة.
تساءل فريقنا المكوّن من علماء السلوك وعلماء السلوك التنظيمي عن هذا الأمر، ما هو سبب ذلك؟ هل تتضمن هذه المبادرات أخطاءً جوهرية، أم أن الموظفين لا يدركون قيمتها؟
تشير أبحاثنا المستمرة إلى إجابة أخرى، وهي أن الوصمة المرتبطة بالصحة العقلية في مكان العمل قد تمنع الموظفين من الحصول على الدعم الذي يحتاجون إليه. توصلت نتائجنا الأولية أيضاً إلى حل بسيط لزيادة استخدام موارد الصحة العقلية؛ إذ أظهرت أبحاثنا أن مجرد سماع الموظفين لتحديات الزملاء يمكن أن يُعزز قبول الحصول على دعم الصحة العقلية في العمل، ويزيد مشاركة الموظفين في برنامج دعم الأقران فيما يتعلق بالصحة العقلية الموجود حالياً بنسبة تصل إلى 8%.
تجربة في شركة نوفارتس (Novartis)
أجرينا تجربة مراقبة عشوائية شملت 2,400 موظف يعملون في شركة نوفارتس، وهي شركة سويسرية متعددة الجنسيات للصناعات الدوائية. استقطبنا العناصر لتشكيل العيّنة التي ستشملها الدراسة بالتعاون مع القادة المحليين من المملكة المتحدة وأيرلندا والهند وماليزيا. على مدى العامين الماضيين، درّبت شركة نوفارتس أكثر من 1,000 من مقدمي الإسعافات الأولية في مجال الصحة العقلية (MHFA) لتقديم الدعم في برنامج دعم الأقران. على الرغم من أن الموظفين كانوا متحمسين للمشاركة في البرنامج، فإن نسبة المشاركة الفعلية ظلت منخفضة.
قسّمنا الموظفين عشوائياً للاطّلاع على 6 صيغ مختلفة لبرنامج دعم الأقران، وذلك بهدف تقييم العوامل التي قد تُشجع الموظفين على طلب المساعدة من برنامج الإسعافات الأولية في مجال الصحة العقلية (MHFA). صمّمنا صيغاً مختلفة للبرنامج من أجل التغلب على عقبتين رئيسيتين تمنعان الموظفين من المشاركة في البرنامج، وهما المخاوف المتعلقة بالخصوصية والمخاوف المتعلقة باستخدام البرنامج.
- بالنسبة للتعامل مع المخاوف المتعلقة بالخصوصية، صمّمنا صيغاً متنوعة للبرنامج بحيث تختلف في مدى تأكيدها سرية البرنامج وحجب هوية المشاركين من عدمها.
- أما بالنسبة للمخاوف المتعلقة باستخدام البرنامج، فقد ركزنا على تعزيز قبول استخدام برنامج دعم الأقران. حققنا ذلك من خلال ربط الصيغة التي تؤكد سرية البرنامج مع معرفة المشاركين فيما إذا كان أحد الزملاء قد لجأ إلى البرنامج بسبب مشكلة بسيطة أم بسبب مشكلة كبيرة. سمح لنا هذا باستكشاف مدى تأثير شدة التحديات المتعلقة بالصحة العقلية على زيادة استخدام البرنامج، وربطنا الصيغة المتعلقة بسرية البرنامج بمجموعة مراقبة لم تتلقَ أي معلومات عن استخدام أحد الزملاء للبرنامج.
تركزت القصص البسيطة على الضغوط اليومية والقلق الذي يواجهه الموظف في العمل، على سبيل المثال، يقول أحد الموظفين: "بدأتُ في الآونة الأخيرة أشعر بالتوتر والقلق في العمل أكثر من المعتاد، كان معظم الأسباب الرئيسية للتوتر والقلق أموراً بسيطة مثل اجتماع مع أحد العملاء أو تلقي انتقادات بنّاءة من زميل في العمل، واجهت أيضاً صعوبة في النوم وكنت أعاني شعوراً بالتوتر الشديد والتشنج في معدتي".
أما القصص الأشد، فقد تركزت على الاكتئاب والتحديات التي تؤثر على الفرد خارج بيئة العمل، على سبيل المثال، يقول أحدهم: "في الآونة الأخيرة، أنهيتُ علاقة تسببت في تأثيرات سلبية على الصعيدين العاطفي والنفسي، وكان لها تأثير كبير على صحتي العقلية، كنت أعاني صعوبة كبيرة في النهوض من السرير كل يوم، وعندما كنت أتمكن من النهوض، كنت أشعر بخوف شديد من مغادرة المنزل، لقد تعرضتُ لنوبات هلع شديدة ومنهكة وفقدان للوزن وشعور كبير بالانعزال والانفصال عن الواقع".
بعد الاطّلاع على صيغ البرنامج، طُلب من الموظفين النقر على رابط إذا كانوا يرغبون في الاشتراك في برنامج دعم الأقران، الذي كان المقياس الرئيسي للمشاركة.
وجدنا أن الموظفين الذين قرؤوا قصة عن زميلهم الذي يستفيد من الخدمات (بغض النظر عن شدة التحديات التي يواجهها الزملاء) كانوا أكثر اهتماماً بمعرفة مزيد من المعلومات حول برنامج الصحة العقلية مقارنة بالموظفين الذين لم يقرؤوا أي قصة. عند اطّلاع الموظفين على القصة البسيطة المتعلقة باستفادة زميل من البرنامج لمواجهة القلق والتوتر، ارتفعت احتمالية النقر على رابط التسجيل بنسبة 8%، في حين أدت قراءة الموظفين للقصة الأشد التي تتناول استفادة زميل آخر من البرنامج للتعامل مع علاقة سيئة، إلى زيادة نسبة النقر على الرابط بنسبة 6.6%. بناءً على ما سبق، في عينة الدراسة التي شملت 2,400 موظف، شجعت قراءة القصة البسيطة 29 موظفاً على المشاركة والاستفادة من خدمات البرنامج من خلال النقر على رابط التسجيل، أما قراءة القصة الأشد، فقد شجعت 24 موظفاً إضافياً على التفاعل مع البرنامج، وذلك مقارنة بالمجموعة التي لم تقرأ أي قصة. قد تبدو هذه الأرقام ضئيلة، لكن عند تطبيق البرنامج على نطاق واسع في شركة مثل نوفارتس التي تضم 78,000 موظف، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تشجيع نحو 2,000 موظف على الاستفادة من خدمات دعم الصحة العقلية.
توضح النتائج التي توصلنا إليها فعالية استخدام السرد القصصي في تشجيع الموظفين على طلب الدعم المتعلق بالصحة العقلية. تتوافق هذه النتائج أيضاً مع الأبحاث السابقة حول وصمة الصحة العقلية، التي تُظهر أن الموظفين قد لا يلجؤون إلى موارد الصحة العقلية لأنهم يفترضون (بطريقة خاطئة) أن القلق والتوتر أمران طبيعيان ولا يتطلبان مساعدة المختصين. يبدو أن القصص المختلفة التي يشاركها الزملاء الآخرون ساعدت على توسيع مفهوم الصحة العقلية ليشمل التحديات اليومية مثل القلق والتوتر.
في المقابل، لا يبدو أن التشديد على سرية برنامج دعم الأقران وحجب هوية المشاركين يؤدي إلى زيادة استجابة الموظفين ومشاركتهم في البرنامج. تُعد هذه النتيجة مفاجئة إلى حد ما، نظراً لأن أحد الأسباب الأكثر شيوعاً لانخفاض الاستفادة من موارد دعم الصحة العقلية هو الخوف من التهميش أو المعاملة بطريقة مختلفة. من المحتمل أن مجرد التركيز على الخصوصية لم يكن كافياً لمواجهة المخاوف العميقة التي تحيط بالدعم المتعلق بالصحة العقلية في مكان العمل، أو ربما أصبحت مسألة السريّة وحجب الهوية أقل أهمية لأن الجائحة سلّطت الضوء على المخاوف المتعلقة بالصحة العقلية في العمل وشجعت الموظفين على أن يكونوا أكثر انفتاحاً بشأن صحتهم العقلية.
أحد الأسئلة الحاسمة هو مدى فعالية الصيغ المختلفة لبرنامج دعم الأقران بالنسبة لبعض الموظفين مقارنة بالآخرين. في هذا الجزء من الدراسة، ركزنا على تحليل النتائج بحسب النوع الاجتماعي والدور المؤسسي (أي استجابة الموظفين المسهمين الفرديين مقارنة بمدراء الموظفين). فاجأتنا النتائج بعدم وجود أي اختلاف في معدلات التسجيل بناءً على هذين المعيارين للتركيبة السكانية. على الرغم من ذلك، وجدنا أن الرجال أفادوا بأن صحتهم العقلية أسوأ بنسبة 3% وسطياً مقارنة بالنساء. تتوافق هذه الرؤية المثيرة للاهتمام مع الأبحاث الحالية التي تشير إلى ضرورة تعزيز قبول الحديث عن الصحة العقلية للرجال لأنهم أقل عرضة للإفصاح عن معاناتهم والصعوبات التي يمكن أن تواجههم.
مع تحول التحديات المتعلقة بالصحة العقلية في العمل إلى أمر طبيعي واعتيادي، فقد حان الوقت لإجراء مزيد من الأبحاث لفهم الأساليب الأخرى التي من شأنها زيادة الاستفادة من موارد الصحة العقلية، وتحديد الفئات المستفيدة بصورة أكبر من هذه الموارد، بالإضافة إلى دراسة مدى استدامة الفوائد التي يحصل عليها الموظفون من الوصول إلى مثل هذه الموارد. لكن عموماً، تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن إحدى طرق تشجيع الموظفين على الاستفادة من موارد الصحة العقلية الموجودة هي من خلال إنشاء ثقافة دعم تشجع على مشاركة التحديات المتعلقة بالصحة العقلية بين الزملاء في العمل، بغض النظر عن حجم هذه التحديات، بدلاً من إصدار الأحكام عليها.