الوصمة التي تمنع الاستشاريين من الاستفادة من الوقت المرن في العمل

6 دقائق

تقدم شركات الاستشارات الإدارية بعضاً من أفضل سياسات العمل المرن، فلدى شركة "ماكنزي آند كومباني" على سبيل المثال خيارات العمل بدوام جزئي، ولدى شركة "ديلويت" سياسة التكييف المهني الشامل، وسياسة خاصة بجداول السفر، كما تقدم "بوسطن كونسلتينغ جروب" سياسة الإجازات الإلزامية.

إلى جانب تلك السياسات، توجد مزايا إضافية، مثل الإجازات مدفوعة الأجر، وإجازات التفرغ، إلا أنّ معظم الموظفين لا يسعون إلى الاستفادة منها. يمكن اعتبار ذلك بمنزلة فرصة ضائعة، خاصة أنّ الاستشاريين في مجال الإدارة ما زالوا يعانون من مستويات مرتفعة للغاية من الصراع للتوفيق بين الحياة المهنية والحياة الشخصية، ما يؤدي إلى مواجهة الشركات لمشكلات متعلقة بالرضا الوظيفي المنخفض وارتفاع معدل دوران الموظفين.

يشير البحث إلى أنّ "النظرة التقليدية للمرونة" تفسر هذا الانفصال بين السياسات المقدمة من قبل الشركات والإقبال المحدود عليها من قبل الموظفين. إذ يخشى الأخيرون من أنّ الاستفادة من المزايا المقدمة سوف تؤدي إلى النظر إليهم على أنهم أقل التزاماً بالعمل. ومن الجدير بالذكر أنّ تلك المزايا تشمل إجازات مدفوعة للوالدين، وأسابيع العمل بدوام جزئي أو الأسابيع المكثفة، وتمديد الغياب المأذون، والعمل على المشاريع محلياً أو افتراضياً لخفض ساعات السفر لفترة مؤقتة، والفترات المخصصة للتمتع بالمزيد من المرونة.

أجرينا مقابلات مع 50 استشارياً في مجال الإدارة يعملون في خمس شركات مرموقة تقع في الولايات المتحدة، وطرحنا عليهم عدداً كبيراً من الأسئلة حول مساراتهم المهنية والحياة الشخصية لكل منهم، لفهم التحديات التي يواجهونها. علمنا أنه بالإضافة إلى النظرة التقليدية التي يحملونها تجاه المرونة في العمل، فقد أحجم أولئك المهنيون عن الاستفادة من تلك السياسات المقدمة، بغية المحافظة على الشعور بالسيطرة الشخصية، إذ إنهم فضلوا التمتع بحرية إدارة التوازن بين الحياة المهنية والحياة الشخصية بما يناسبهم، بدلاً من اختيار الانخراط في سياسة الشركة. (شملت العينة التي تناولناها نسبة 50% من الرجال ومثلها من النساء، ونسبة 50% من الأفراد المتزوجين أو المخطوبين مقابل النسبة ذاتها من الأفراد غير المتزوجين، وكانت نسبة الاستشاريين الذين عملوا في هذا المجال منذ أقل من خمسة أعوام 60% من العينة بأكملها).

تكمن المشكلة في أنّ هذا التصور بوجود سيطرة شخصية أكبر على مجرى الأمور لا يجدي من ناحية الحد من الصراعات بين الحياة المهنية والحياة الشخصية لدى الاستشاريين. إذ علمنا من أولئك الذين قابلناهم أنهم اضطروا إلى التضحية بالكثير من الالتزامات على الصعيد العائلي، وواجهوا العديد من المشكلات الصحية، وعانوا أيضاً على صعيد العلاقات الشخصية، ويعود ذلك كله بسبب جداول مواعيد العمل المزدحمة لديهم. عندما سألناهم حول سبب عدم سعيهم للاستفادة من المزايا المتاحة أمامهم التي تقدم لهم المرونة في العمل، أجابوا بأنهم يرفضونها باعتبارها غير قابلة للاستعمال. قالت إحدى الاستشاريات على سبيل المثال إنها لم تتمكن من رؤية والدها الذي كان على فراش الموت، لأنّ أحد العملاء طلب وجودها في مدينة أخرى، فبدلاً من الاستفادة من خيار العمل المرن، استجابت إلى طلب العميل على مضض. على الرغم من أنها ما تزال تشعر بالأسف الشديد بشأن نتيجة قرارها، لكنها تؤكد على أنّ قرارها ذاك لم يجبرها أحد على اتخاذه، الأمر الذي يمنحها شعوراً بالقوة بدلاً من الشعور بأنها وقعت ضحية العمل.

السؤال الذي يُطرح هنا، لماذا يسعى الموظفون إلى الحفاظ على الشعور بالسيطرة على حساب رفاههم؟ تبرز أربعة أسباب رئيسة للإجابة عن هذا السؤال:

أولاً، أكد الاستشاريون الذين أجرينا معهم مقابلات على أنّ تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية (والخطط ذات الصلة) لا يتوافق ببساطة مع عمل الاستشاري. بغض النظر عن الجنس أو ما إذا كان لدى الشخص أولاد، فإنهم يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّ وظائفهم كثيرة المطالب بطبيعتها، وأنّ المؤسسات لا يمكن أن تصبح أكثر تفهماً للحياة الأسرية، أدهشنا هذا الاعتقاد، وخاصة أنه صادر عن استشاريين يديرون التغيير في المؤسسات لكسب العيش.

وكثيراً ما مجدوا متطلبات العمل، بما في ذلك ساعات العمل الطويلة جداً، ورحلات العمل الطويلة، والعمل خلال عطل نهاية الأسبوع، ذلك على الرغم من اختلال التوازن بين الحياة المهنية والحياة الشخصية الذي ينتج عن ذلك. يعتبر الاستشاريون أنّ النزعة نحو الإفراط في العمل سمة طبيعية من سمات الاستشاري، وجزءاً من "دستور عملهم"، كما وصفها أحدهم، لديهم اعتقاد يميل إلى وضع أولئك الذين يعطون الأولوية لعائلاتهم قبل عملهم ضمن إطار أنهم أقل ملائمة للعمل في هذه المهنة.

أخبرتنا إحدى المشاركات في الدراسة، التي أطلقنا عليها اسم رانيا (جميع الأسماء المذكورة هنا هي أسماء مستعارة)، الآتي: "اختبرت ما يكفي من الوظائف المختلفة لأخلص إلى النتيجة القائلة بأنّ هنالك أموراً معينة تتطلبها كل وظيفة، ولا يمكنك حقاً تغييرها، فلا يمكنك على الإطلاق العمل استشارياً، ثم تمتنع عن السفر". وعلى الرغم من أنها امتنعت عن السفر عندما كان أطفالها صغاراً، وعملت في مقابل ذلك على مشاريع معظمها محلية، فإنها رفضت ذلك الحل نفسه لزملائها.

ثانياً، يفتخر الاستشاريون بأنفسهم لإدارتهم الصراع بين الحياة المهنية والحياة الشخصية، وذلك على أساس كل حالة على حدة وحسب الحاجة. على الرغم من تنوع البرامج المقدمة، فإنّ الاستشاريين الذين شملتهم عينتنا أكدوا على أنّ إدارة التوازن بين العمل والحياة الشخصية هي مسألة شخصية في الأساس. ويعتقدون وبشدة أنّ ملاءمتهم "الطبيعية" لمهنة الاستشاري تعني أنّ باستطاعتهم، بل ينبغي عليهم، إيجاد حلول خاصة بهم. كما رفض معظم المشاركين سياسات المرونة في العمل التي تقدمها الشركات، قائلين إنّ نهج "الحل الواحد الذي يناسب الجميع" لا يساعد على تلطيف حدة الصراعات التي يواجهها مختلف الأشخاص.

أخبرنا رائد بالتالي: "عندما أسمع عن حلول مطروحة على شكل خطط كبيرة لتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، أتناول الأمر بشيء من الشك. فتركيبة كل شخص أو كل زوجين أو والدين تختلف عن الأخرى بكل ما تحمله من تفاصيل".

ثالثاً، صاغ الاستشاريون القرارات المتعلقة بالحياة المهنية والشخصية كخيارات. استخدم معظم الذين تحدثنا إليهم لغة تندرج تحت بند الخيارات (مثل المقايضة، والحلول التوافقية، والخيارات) لوصف الطريقة التي أداروا من خلالها ذلك التوازن المذكور. وساعدتهم تلك اللغة على توصلهم إلى قناعة بأنّ أوضاعهم الراهنة تعكس تفضيلاتهم الحالية بدقة.

ألغى جاد، على سبيل المثال، العديد من الإجازات التي كان ينوي قضاءها مع زوجته وأطفاله، من أجل تلبية وتجاوز توقعات متطلبات مجال العمل. وعبّر عن ذلك قائلاً: "لدي الخيار للعمل، وأنا أضحي بقضاء الوقت مع العائلة لأنني أجد في العمل فرصة لتحقيق تقدم مهني". إنه يعتقد أنّ الحصول على إجازة سيمنعه من إحراز تقدم مهني. إنّ وضع مفهوم جديد لهذه المتطلبات غير القابلة للتغير كخيارات، ساعده على استعادة إحساسه بالقوة بدلاً من وضع نفسه في موقف ضعيف.

رابعاً، أكد الاستشاريون على وجود خيار ترك العمل في هذا القطاع. نظراً لأنهم يرون هيكل العمل الاستشاري غير قابل للتغيير، فإنهم يحاولون إدارة العمل وحياتهم الخاصة في ظل معطيات ذلك الهيكل، لكنهم إذا وجدوا يوماً أنهم لا يتمكنون من إدارة تلك المشكلة على الإطلاق، فهم يؤكدون على أنّ خيار الخروج من العمل في هذا القطاع أمامهم دائماً. أشار شادي، على سبيل المثال، إلى أنه في حال لم يعد يرغب مستقبلاً في التخلي عن وقت العائلة لحساب العمل، فإنّ بإمكانه ترك العمل كاستشاري. لقد ذكر العديد من الاستشاريين الآخرين احتمال اتخاذهم لقرار المغادرة كخيار مطروح، يتجلى ذلك بلا شك في معدل دوران الموظفين العالي في هذا المجال، وكذلك ثقافة "الارتقاء أو الاستقالة" السائدة فيه.

ما الذي ينبغي

على المؤسسات فعله؟

تبقى البرامج التي تعزز المرونة للموظفين في العمل مهمة، حيث أظهر بحث أنّ تلك البرامج يمكن أن ترفع معدل رضا الموظفين، وتحمي صحتهم، وتزيد من إنتاجيتهم، وتقلل من معدل دورانهم، ولها تأثير جوهري على تحقيق النتائج المالية، ذلك إذا استفاد الموظفون منها. إليك طرق تسهل على الاستشاريين والعاملين في قطاعات مشابهة تحقيق ذلك:

توسيع نطاق مقاييس النجاح. ينبغي على القادة إعادة النظر فيما يعني النجاح في مؤسساتهم، فبدلاً من تقديم مزايا لا تغير التوقعات تغييراً جوهرياً، يمكنهم وضع مفهوم المرونة في صلب منطقهم التوجيهي. عندما تكون ساعات العمل مدفوعة الأجر هي مقياساً أساسياً في تقييم الموظفين (كما كان حال العديد من الشركات التي أجرينا دراستنا عليها)، فإنّ البرامج التي تعد الموظفين بساعات عمل أقل تمثل مشكلة. قد تشمل المقاييس الأفضل التي يستند عليها التقييم بنوداً مثل الأداء، وجودة الخدمة، ورضا العميل وفريق العمل. وينبغي أن يكون إسناد المهمات المتعلقة بالمشاريع، والتقييمات، وقرارات الترقية، مبنية على أساس أقل من التضحية المقدمة من الاستشاريين بين الحياة المهنية والحياة الخاصة، بما في ذلك السفر المكثف.

في حين أنّ معظم الشركات تقدم شكلاً من أشكال تقويم الأداء بطريقة 360 درجة (أي عندما يقيم المرؤوسون رؤسائهم)، فإنها تتباين من ناحية تقييم النتائج عند اتخاذ قرارات الترقية ودفع التعويضات. فتلك الشركات التي تقدر بشدة الآراء التقييمية من الموظفين ذوي المستوى الأدنى قد تجعل القادة أكثر مسؤولية تجاه التشجيع على تحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية.

على الرغم من شيوع نماذج التوظيف العالمية التي تسند إلى الاستشاريين مشاريع بعيدة بصورة روتينية، يمكن للشركات أيضاً أن تختار بدلاً من ذلك التوجه نحو التوظيف المحلي والإقليمي، ما قد يؤدي إلى انخفاض مستوى معاناة الاستشاريين.

تغيير الثقافة القائلة بأنّ الإفراط في العمل أمر "طبيعي". ينبغي على المؤسسات أيضاً السعي نحو التخفيف من لغة الملائمة الفطرية للعمل لدى الاستشاريين وتمجيد الإفراط في العمل، فتجدها تصور وتتعامل مع ساعات العمل الطويلة على أنها مقوّم أساسي، بل وأخلاقي، للمهنة النخبوية. يجب على القادة عوضاً عن ذلك التأكيد على أهمية ساعات العمل النوعية بدلاً من حجمها. أظهر بحث أنه من الممكن مواجهة هذه المعايير المتفشية وتغييرها، ونظراً لأنّ المدراء المحليين يتمتعون بحرية تصرف واسعة في خلق ثقافة الفريق، يمكنهم تشجيع موظفيهم على قضاء إجازة لتلبية الاحتياجات الشخصية ومشاركة المسؤوليات.

صياغة المرونة كقيمة مؤسسية مشتركة. يشجع شعار "اختياري الشخصي" على تبني أساليب فردية للتعامل مع الصراعات التي تواجه الاستشاريين فيما يتعلق بالموازنة بين الحياة المهنية والشخصية، التي تعتبر أساليب غير ناجحة، كما يشير البحث، خصوصاً في تحقيق نتائج أفضل. في المقابل، يمكن للشركات تبني مفهوم المسؤولية المشتركة، والتأكيد على أنها ملتزمة بمساعدة الموظفين عن خلق التوازن وإحلال الرفاه، وأنها لا تتوقع من موظفيها حمل هذا العبء بمفردهم.

من الأفضل تناول التحديات الشائعة للموازنة بين الحياة المهنية والشخصية من خلال التغيير التنظيمي، ومن خلال اتباع هذه الخطوات، يمكن للمؤسسات إحراز تقدم في الحد من تلك الصراعات، وتقديم حلول للموظفين يمكنهم الاستعانة بها بفاعلية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي