منذ نشأة فكرة الاستراتيجية في عالم الأعمال في أوائل الستينيات، كانت غاية التميز ذات أهمية قصوى. ووقع اختيار العملاء على الشركة التي تقدم لهم قيمة لا تضاهيها الشركات الأخرى. والشركة التي باستطاعتها إثبات اختلافها عن الشركات الأخرى، بطريقة تمس العملاء، تكتسب ميزة تنافسية كبرى.
وانطلاقاً من أننا استراتيجيي أعمال، فإننا نرى كتابات كثيرة حول كيفية تحقيق التميز. ونرى الكثير من التنفيذيين وهم يحاولون العمل بالنصائح التي تُسدى لهم. ودائماً ما تذكّرنا الظروف أيضاً بقصور التميز الحقيقي في أغلب الشركات العالمية التقليدية — وكذلك بالفرص التي تهدرها تلك الشركات.
تبدأ المشكلة بالطريقة التي يتعامل بها كثير من رجال الأعمال مع التميز. فوحدة التميز بالنسبة لهم هي المنتج أو الخدمة أو العلامة التجارية الفردية. وهذا ما يراه العملاء على أي حال مرتبط بما يمكن أن تقدمه المنافسة.
لكن التميز يجب أن يكون مستداماً، ولا ينبغي أن يصعد نجمه أو يزوي بالتزامن مع عروض فردية. لذلك، فإن جوهر التميز هو قدرة الشركة على تطوير منتجات وخدمات وتجارب خاصة بالعلامة التجارية والترويج لها على نحو منتظم. فالناتج ليس هو ما يميزك عن المنافسين، ولكن ما يميزك هو الطريقة التي يدعم بها كل ما تقدمه للمنتج ويخلع عليه سياقاً. ولدى الشركات المميزة حقاً، نجد أن قسماً كبيراً من التميز يتجاوز المنتج نفسه. فعند التعامل مع شركة "آبل" مثلاً، فإنك لا تشتري حاسوباً أو هاتفاً وحسب، بل مجموعة متجانسة من الخدمات الفورية ذات الصلة على شبكة الإنترنت ومحطة عبقرية لحل مشكلاتك. وفي شركة "أيكيا" لا يشتري المرء أريكة أو خزانة، بل وسيلة لصنع القرار والتجميع والتوصيل.
يكمن تحدي تميزك في تمييز شركتك ككل بدلاً من الرهان على مستقبلك على منتج أو منتجَين منفصلَين. ويتطلب ذلك منك بناء قدرات مميزة — وأن تتعلم القيام بأشياء محدودة ببراعة شديدة لا يجيدها إلا عدد قليل من الشركات.
وهذا حيد عن استراتيجيات التميز التي كانت سارية في الماضي. في الثمانينيات، كان من الممكن أن تميز أي شركة نفسها بحجمها، فكون الشركة الأضخم في فئة ما يكفل لها دعماً يتجاوز تكاليفها ودعماً من عمليات مكتب المساندة وتوزيعاً وفعالية تسويقية. ولكن بدايةً من الألفية الثانية، تراجعت مزايا حجم الشركات حتى كادت تتلاشى، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى بزوغ نجم العولمة وتخفيف الرقابة وإزالة القيود ونشأة التكنولوجيا الرقمية. وأصبح من الأسهل شيئاً فشيئاً على الشركات الصغيرة أن تكتسب قاعدة عملاء ووعي كبيرَين (علاوة على رأس مال عامل كبير). ووجدت الشركات الكبرى نفسها تنافس مجموعة أكبر بكثير من المنافسين ومجموعة أكثر عالمية من ذي قبل.
التميز بالمنتج أو الخدمة المقدمة يؤتي ثماره كاستراتيجية بديلة، ولكن في ظل المنافسة المتزايدة المحمومة لم يعد ذلك كافياً لتحقيق النجاح المنشود. فالشركة التي تمتلك منتجاً مميزاً "تحقق طفرة واحدة في حياتها"، وعندما تفقد تلك الطفرة زخمها أو إذا أصابها أي شيء آخر، تضعف شوكة الشركة بأكملها.
لننظر على سبيل المثال إلى الطريقة التي تُسَوَّق بها الكثير من البطاقات الائتمانية. بما أنها جميعاً تقدم الخدمة السلعية نفسها — ألا وهي القروض غير المضمونة — فعليها أن تبحث عن أشكال أخرى للتميز. ويعني ذلك عادةً التحالف مع شركة أخرى: إنشاء بطاقات لخطوط الطيران ذات أميال طيران متكررة، أو بطاقات ذات ضمانات ممتدة مدعومة من شركات التأمين، أو بطاقات شراء بالتجزئة تقدم وصولاً أو خصومات حصرية. كان لدى شركة "أميركان إكسبريس"، "خدمة ناجحة مدوية وحيدة" على هيئة اتفاقية ممتدة لسنين مع سلسلة محلات "كوستكو" لتجارة التجزئة بالولايات المتحدة الأميركية، والتي لم تسمح بتداول أي بطاقات أخرى في محلاتها المشهورة. ولكن في عام 2015، حوَّلَت محلات "كوستكو" ولاءها وانتماءها إلى فيزا مجموعة "سيتي غروب". وتعرضت شركة "ديسكفري" إلى نكسة مثيلة عام 2004 عندما حولت سلسلة محلات "وول مارت" شراكة بطاقة الائتمان إلى شركة "ماستر كارد".
علاوة على ذلك، عندما تتميز بالمنتج، فإنك تُخاطر بالتخبط، لأن المنتجات المختلفة قد تتطلب قدرات وإمكانات مختلفة، الأمر الذي يمكن أن يشتت شركتك في عدة اتجاهات مختلفة في نفس الوقت. على سبيل المثال، كانت العلامة التجارية للأطعمة الفاخرة للحيوانات الأليفة "Iams" واحدة من أبرز العلامات التجارية في هذا المضمار حيث كانت تروج منتجاتها إلى أصحاب الحيوانات الأليفة الواعين بمكونات تلك الأطعمة والذين يشترونها من محلات بيع الحيوانات الأليفة المتخصصة. وعندما اشترتها شركة "بروكتر آند غامبل" عام 1999 لقاء 2.3 مليار دولار أميركي، اعتبر كثيرون عملية الاستحواذ صفقة رابحة تضيف قيمة جديدة وعرضاً مميزاً للعلامات التجارية "كريست"، و"تايد"، و"أيفوري سوب"، وغيرها من العلامات التجارية الراقية التي تقدمها شركة "بروكتر آند غامبل". لكن الصفقة لم تحقق ذلك تحديداً. على مدار العقد التالي، ظهرت منافسة جديدة على هيئة أطعمة حيوانات أليفة متخصصة. لا مثيل لشركة "بروكتر آند غامبل" في تطوير منتجات الرعاية الخاصة والغسيل وعرضها على المستهلكين، لكنها لم تكن تمتلك إمكانات الحفاظ على تميز العلامة التجارية "Iams" في سوق أطعمة الحيوانات الأليفة الذي أمسى فجأة أكثر تنافسيةً. وفي عام 2014، باعت شركة "بروكتر آند غامبل" تلك العلامة التجارية والعلامتين التجاريتين المرتبطتين بها "يوكانوبا"، و"ناتورا" إلى شركة "مارس" التي كانت تمتلك بالفعل علامات تجارية أخرى مميزة لأطعمة الحيوانات الأليفة (مثل ويسكاس) ومن ثم كانت تمتلك الإمكانات الضرورية بالفعل.
لا تعول الشركات الأكثر فعالية على المنتجات أو الخدمات أو العلامات التجارية المميزة لتحقيق التميز، بل تركز على تدشين مشروع مميز جداً بحيث يمكنه خلق العديد من المنتجات والخدمات والعلامات التجارية التي لا تفتأ تزداد جاذبية.
في كتابنا المعنون "الاستراتيجية الناجحة" (Strategy That Works)، نبين للقراء الشكل الذي يمكن أن تكون عليه تلك الإمكانات وكيفية التخطيط لها وبنائها وإنتاجها على نطاق موسع. تبدأ توصياتنا لتحقيق ذلك بالتزام الفريق الأبرز وتتوسع بحيث تشمل جميع العاملين بالمؤسسة. وتتضمن توصياتنا ما يلي:
• كن مُشككاً في المعايير المعمول بها. ولا تنساق وراء الممارسات التي لا تُناسب شركتك، حتى لو لم تكن شائعة في صناعتك.
• انطلق من هدفك وشق طريقك عائداً، على أن توضح الخطوات التي تحتاج إليها للانتقال من الإمكانات التي تمتلكها إلى الإمكانات التي تحتاج إليها.
• استمر في استخدام إجراءات التدخل المركزة — وأعني الخطوات التي تقوم بها بالفعل لتعديل الأنظمة والمؤسسات — ولكن احرص على أن تتسق مع تحقيق استراتيجيتك.
• تحول إلى مبتكر مميز للإمكانات حيث تصمم وتطور ممارساتك الخاصة التي تمنحك قوة لا يضاهيها أحد.
• عند الاستحواذ على شركات، ابحث عن فرص "صفقات التحسين" التي تسد الفجوات في إمكاناتك الخاصة، وانتبه لتكامل ما بعد الاندماج.
• صمم قدراتك بالتعاون مع فرق تتجاوز وتتسامى على القيود الوظيفية.
• بدد غموض المعرفة الضمنية بواسطة تصنيف الأشياء التي تقوم بها في نطاق القدرات، ولكن لا تكف عن إعادة النظر في تصنيفك وتحسينه وإعادة صياغته.
لا يمكن للآخرين محاكاة القدرات والإمكانات المميزة. فهي موجودة في كل ما تفعله تلك الشركات، وتبدأ تؤتي ثمارها فور أن تشرع في تطويرها، لكنها تتعمق وتصبح أقوى بكثير بمرور الوقت بينما تقوم بتطبيقها على المنتجات والخدمات حول العالم. وخلاف ذلك من أشكال خلق القيمة قصير الأجل. أما التميز عن طريق الإمكانات فهو ليس كذلك. إنه الوسيلة الوحيدة التي نوقن أنها تحقق نجاحاً متصلاً مستمراً، مرة تلو الأخرى، في ظل هوية استراتيجية واحدة تكمن وراء كل ما تفعله مؤسستك.