كيف نفرّق بين استراتيجية عبقرية وخطأ فادح؟ دروس من أساتذة الشطرنج

15 دقيقة
الشطرنج
ماتياس كلامر/غيتي إميدجيز

شاهدت مؤخراً مقاطع فيديو حول لعبة الشطرنج مع أخي، وهو من أشد المعجبين باللعبة. في مقاطع الفيديو هذه، شاهد خبراء محترفون مجموعة من الحركات من مباراة بين لاعبين لم تُكشف هويتاهما، ومطلوب منهم تقييم اللاعبين.

الشطرنج لعبة مهارة واستراتيجية لا تعتمد على الصدفة والحظ والعشوائية. لذلك، يبرع الخبراء الذين درسوا آلاف المباريات، في تقييم اللاعبين الآخرين. كل ما يحتاجون إليه هو مراقبة اللاعب وتصنيف مستواه بناءً على الحركات التي يجريها.

حدث أمر مفاجئ جداً في أحد مقاطع الفيديو التي شاهدناها؛ إذ توقف الخبراء المراقبون عند حركة معينة وقالوا إنها إما حركة ذكية أجراها عبقري وإما خطأ غير مقصود ارتكبه أحمق.

ما قصده الخبراء هو أن الحركة قد تكون مؤشراً على مهارة عبقرية إذا أجراها اللاعب على أنها استراتيجية متعمدة لاستغلال ميزة تنافسية، لكنها يمكن أن تكون حمقاء أيضاً إذا أجراها اللاعب بمعزل عن غيرها؛ أي دون وضع خطة "لما سيأتي بعدها". قد يتعذر أحياناً، حتى بالنسبة للخبراء المحترفين، التمييز بين الحالتين دون مراقبة حيثيات المباراة.

إذا كانت هذه هي الحال في لعبة الشطرنج، وهي لعبة حتمية ذات استراتيجيات فوز محددة، فماذا عن عالم الأعمال، مع ما يتسم به من عدم يقين وعشوائية وعوامل مؤثرة لا حصر لها؟

تقع على عاتق الخبراء المحترفين في عالم الأعمال، من أعضاء مجلس الإدارة والموظِّفين ومستشاري الإدارة ومحللي الاستثمار وغيرهم، مسؤولية تقييم مهارات المدراء التنفيذيين أو تصنيفها غالباً. تعتمد هذه التقييمات غالباً على مراجعة التحرُكات والخطوات التي يتخذها هؤلاء المدراء. هنا أيضاً، يحكم الخبراء على بعض الإجراءات على أنها علامات على المهارة "العبقرية"، التي يبدو أن من يتخذها محترف، في المقابل يعدّون الإجراءات الأخرى أخطاء "حمقاء" يرتكبها أشخاص لا يعون ما يفعلونه على الأرجح.

لماذا تقييم تحرُكات الشركات صعب؟

هل هذه التقييمات والأحكام التي تنتج عنها ذات قيمة؟ لنتأمل الأمثلة الآتية:

  • طرد مجلس إدارة شركة آبل ستيف جوبز من قبل، وقيّم المجلس مهاراته القيادية على أنها غير فعّالة. كادت الشركة أن تفلس في السنوات التي تلت ذلك. ثم عاد جوبز في نهاية المطاف وأعاد بناء الشركة لتصبح واحدة من أعظم الشركات على الإطلاق، وذلك باتباع قواعد اللعبة نفسها تقريباً التي أدّت إلى طرده في المقام الأول.
  • أشاد المحللون بكبار المدراء التنفيذيين في بنوك وول ستريت ومنحوهم أعلى المكافآت على أساس الأداء في التاريخ بحلول نهاية عام 2007، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى ابتكارهم طرقاً جديدة لجمع الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري وبيعها. حدث ذلك قبل أشهر فقط من الأزمة المالية الكبرى التي كادت فيها هذه الاستراتيجيات نفسها أن تدمر النظام المالي الأميركي.
  • نُظر إلى وارن بافيت باعتباره شخصاً ضعيف الأداء وانقضى زمانه في ذروة الازدهار التكنولوجي بين عامي 1999 و2000. ثم انهارت طفرة الويب وأُعيد تصنيف بافيت بأنه عبقري الأعمال، ليس لأنه غيّر استراتيجيته جذرياً، بل لأن العديد من شركات الويب انهار بينما أعاد نهج بيركشاير هاثاواي المتسق والقائم على القيمة إثبات جدارته.
  • كثيراً ما يوصف إيلون ماسك بالعبقري والأحمق في آنٍ معاً. في الواقع، ليس غريباً أن يصف العديد من خبراء الأعمال قراراته التجارية بهذه الطريقة.

خلاصة القول هي أن التاريخ بيّن مراراً وتكراراً أن عبقري الأعمال اليوم قد يكون أحمق الغد، والعكس صحيح. هذا ليس مفاجئاً تماماً لأنه أولاً، القيادة في مجال الأعمال ظرفية؛ إذ إن الإجراءات المختلفة تنجح أو تفشل بناءً على التوقيت والسياق، وثانياً، لأن الأمر الوحيد الذي يستطيع المدراء التنفيذيون في مجال الأعمال التحكم به هو القرارات التي يتخذونها؛ في حين أن نتائجها خاضعة للاحتمالات والصدف المتقلبة. بالتالي، قد يكون التمييز بين المهارة والحظ مستحيلاً.

لكن تشبيه الشطرنج يشير إلى عامل إضافي مهم يجب أخذه في الاعتبار. لدى لاعبي الشطرنج جميعهم الهدف النهائي نفسه: التغلب على الخصم وإعلان "كش مات". مع ذلك، هناك أنماط مختلفة لممارسة اللعبة؛ إذ يمارس لاعبو الشطرنج السريع جداً (Bullet chess) اللعبة بسرعة هائلة، وتستغرق الحركات ثوانٍ بينما تستمر المباريات بضع دقائق. في حين تستغرق مباريات الشطرنج السريع (Rapid chess) عادة ساعة أو نحو ذلك على الأكثر. على النقيض من ذلك، قد تستغرق المباريات الكلاسيكية عدة ساعات، وتمتد عدة أيام أحياناً.

المهارات المطلوبة للنجاح ليست متطابقة في أنواع الشطرنج جميعها؛ إذ تعتمد المباريات الأقصر على البديهة وردود الفعل والترويع والاستعجال، بينما تعتمد المباريات الأطول على التفكير العميق والصبر والانضباط والقدرة على التحمل. يجعل ذلك تصنيف اللاعبين من خلال مراقبة حركاتهم أعقد؛ إذ إن الإجابة قد لا تعتمد فقط على ما كان يفكر فيه اللاعب، بل على نوع المباراة، كلاسيكية أو سريعة أو سريعة جداً.

تماماً مثل الهدف الشامل المتمثل في الوصول إلى إعلان كش مات، يشترك المدراء التنفيذيون في مجال الأعمال أيضاً بالهدف النهائي نفسه: خلق قيمة للمساهمين من خلال تحقيق عوائد تتجاوز تكلفة رأس المال المستثمر. لكن من هم هؤلاء المساهمون؟ وما هي تكلفة رأس مالهم؟ هل يلعبون جميعاً اللعبة نفسها، أم أن هناك العديد من الألعاب الفرعية المختلفة التي تتطلب حركات مختلفة ومهارات مختلفة كما هي الحال في الشطرنج؟

الألعاب المختلفة في مجال الأعمال

تشير تجاربي في عالم الاستثمار إلى أن مجال الأعمال له أنواع مختلفة. خذ في الاعتبار ما يلي:

  • لا يهتم القائمون على صناديق التحوط ذات التوجه التجاري عادةً بما سيحدث بعد 5 أو 10 سنوات من الآن؛ فهم يركزون عموماً على تحقيق الربح في الربع السنوي المقبل، وتحديداً على الشركات التي يمكن أن تفاجئ الجمهور من خلال تقديم تقارير أرباح تختلف اختلافاً جوهرياً عن توقعات السوق.
  • يعتمد القائمون على صناديق الأسهم الخاصة على خطط الأعمال التي تمتد عدة سنوات، وتحديداً تلك التي تعتمد على توقعات التدفق النقدي التي تضمن سداد الالتزامات وإعادة رأس المال إلى المستثمرين. الهدف من ذلك هو تحقيق الربح الأقصى من عوائد الأسهم باستخدام الرفع المالي، وبيع الحصص في الوقت المناسب من عمر الصندوق (نحو عقد من الزمن عموماً). لا يهتم هؤلاء بما قد يحدث بعد ذلك كثيراً.
  • يفضّل القائمون على صناديق رأس المال المغامر الشركات المزعزعة التي تخاطر لتحقيق نجاحات باهرة ولا تقلق كثيراً بشأن خسارة الاستثمار. خسارة رأس المال مقبولة لأن طرح عدد قليل من شركات اليونيكورن في البورصة يعوّض عشرات الاستثمارات الفاشلة بسهولة.
  • يمنح رأس المال "الدائم"، مثل رأس المال من الأوقاف أو المكاتب العائلية أو شركات مثل بيركشاير هاثاواي، الأولوية عموماً لحماية رأس المال الأساسي. لا يتسامح هذا النوع من رأس المال مع الخسائر الكاملة، وهو مستعد بالنظر إلى خضوعه لهذا الشرط للانتظار بصبر مهما استغرق تحقيق القيمة من الوقت. يقول وارن بافيت عن بيركشاير: "فترة الاحتفاظ المفضلة لدينا هي تلك التي تمتد إلى ما لا نهاية".

اعتماداً على السياق، قد يكون المساهمون المذكورون أعلاه جميعهم من المساهمين الذين يتعين على المدير التنفيذي خلق القيمة لهم، لكن كل واحد منهم يمارس نوعاً مختلفاً جداً من الألعاب بجداول زمنية ولوحات نتائج وطرق مختلفة جداً لصناعة القرار. فالإجراءات العبقرية لأحدهم قد تكون حمقاء لآخر، والعكس صحيح.

مع ذلك، لا يحظى هذا الفارق الدقيق بالتقدير والاهتمام بما يكفي دائماً، ولا سيما في عصر إصدار الأحكام بسرعة الذي نعيش فيه. تخضع الخطوات التي يتخذها المدراء التنفيذيون في مجال الأعمال إلى رقابة الجمهور، ما يلقي بضغط إداري هائل عليهم يدفعهم إلى تحسين أدائهم. يمكن أن يؤدي هذا الضغط إلى ارتكاب أخطاء ينسى المدراء التنفيذيون عند ارتكابها ما يهم أهم المساهمين أو يتجاهلونه. بالتالي، قد يؤدي ذلك إلى تدمير ليس فقط القيمة الخاصة بالمساهمين، بل سمعة المدراء الإدارية التي بنوها بعد عناء.

بالنظر إلى ما سبق، ربما يستطيع المدراء التنفيذيون، وأولئك المكلفون بالحكم على مهاراتهم، أن يتعلموا الدروس من أساتذة الشطرنج. إليك 3 من هذه الدروس:

اعرف اللعبة.

يختلف لعب الشطرنج السريع جداً على مدار ثوانٍ عن لعب الشطرنج الكلاسيكي على مدار أيام، وكذلك يختلف خلق قيمة للمساهمين من متداولي اليوم الواحد عن خلق القيمة بالنسبة لرأس المال الدائم. سيؤدي الخلط بين النوعين أو الفشل في تحديدهما إلى نتائج سيئة على الأرجح. يصح الأمر نفسه عند محاولة ممارسة ألعاب مختلفة في الوقت نفسه. تبعاً للسياق، قد تكون ممارسة عدة أنواع من الألعاب خياراً سليماً، لكن هذه الأنواع تتمتع بسرعات لعب مختلفة جداً وتتطلب مهارات مختلفة جداً تسهم في النجاح. التركيز والملاءمة هما الأساس.

تعرّف على الجمهور.

مهما كنا أذكياء ومنضبطين ونتمتع بقدرة كبيرة على التحمّل باعتقادنا، لا يمكننا أن نتجنّب تأثير آراء الآخرين. (القطاعات مثل الإعلان والعلاقات العامة بأكملها مبنية على هذه الحقيقة).

تكثر هذه الآراء في عالمي الشطرنج والأعمال؛ فمع الازدياد الكبير في شعبية الشطرنج مؤخراً، أصبح الملايين يتابعون هذه اللعبة. لدى كل شخص وجهة نظره الخاصة (اطلع على التعليقات على مقاطع فيدو البث المباشر في يوتيوب). لكن الخبراء المحترفين يعرفون أنه من الأفضل ألا يعيروا أي اهتمام لآراء من لا يستطيعون مساعدتهم على تحسين مهاراتهم.

تأثير هذه الآراء في مجال الأعمال أكبر. فمن إحدى النواحي، يعظ أسطورة الأعمال، وارن بافيت، بالصبر والانضباط والثقة في رسائله السنوية المطولة للمساهمين، بينما ينشر إيلون ماسك رسائل استفزازية يومية قصيرة بسرعة. هناك أشخاص يتبعون نهجاً هجيناً، مثل النقاد التلفزيونيين والمستشارين الذي يقدمون عروضاً تقديمية والمحللين الذين ينشرون التقارير والأشخاص الذين يكتبون المنشورات على مواقع مثل لينكد إن وأولئك الذين يتحدثون في غرف الدردشة لموقع ريديت (Reddit)، بالإضافة إلى محركات الذكاء الاصطناعي التوليدية وما إلى ذلك. من هم إذاً الأشخاص الذين يجب أن تستمع إليهم؟ يعتمد ذلك على نوع اللعبة التي تمارسها. السر هو تجاهل الآراء غير المهمة في سياق تلك اللعبة. كما قال العديد من المفكرين مثل جلال الدين الرومي وويليام جيمس ونسيم نقولا طالب: تنطوي الحكمة على اختيار ما تتجاهله.

حدد مواضع جهلك.

بالعودة إلى فيديو الشطرنج الذي ذكرته في البداية، استوقفني أمر آخر: كان الخبراء المعروفون على استعداد لقول "لا أعرف" علناً في مواقف معينة. في عالم الأعمال، ينظر الكثيرون إلى القوة والثقة واليقين على أنها سمات مميزة للقيادة الفعالة، وهم محقون في ذلك. لكن كلاً من الاعتراف بأنك تجهل أمراً مهماً وتحديد الحالات التي لا يمكنك فيها معالجة هذا الجهل هو علامة على الحكمة المتعقّلة، وليس على الضعف المترافق بالاضطراب. عندها فقط يمكن للمرء أن يفكر في الأسئلة مثل: إذا كانت المعلومات ستنقصنا لا محالة، فماذا يجب أن نفعل حيال ذلك؟ أو ما هي المعلومات الإضافية التي نحتاج إليها؟ من المرجح أن تكون طرق التفكير هذه أكثر إنتاجية بكثير من إبراز الثقة الزائفة، ومن ثم التعثر في أخطاء غير مقصودة يمكن تجنبها.

في مجال الأعمال، كما في الشطرنج، هناك بالفعل حركات عبقرية، وهناك أيضاً أخطاء حمقاء. لكن هناك الكثير من الفوارق الدقيقة والعوامل السياقية التي يجب أخذها في الاعتبار لتقييم هذه الحركات والمدراء التنفيذيين الذين يجرونها. لسوء الحظ، قد تكون هذه الفوارق والعوامل غائبة في بيئة الأعمال الصاخبة السائدة اليوم؛ إذ يسارع الكثيرون بإطلاق أحكام يثبت الزمن أنها خاطئة. قد يساعد اتباع نهج مستوحى من خبراء الشطرنج يتسم بمستوى أعمق من التفكير خبراء الأعمال على الحد من هذه الأخطاء، خاصة الذين يتولون المهمة الصعبة للغاية المتمثلة في "تقييم مهارات" أصحاب المواهب من المدراء التنفيذيين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي