خلال سنوات عملي الطويلة أستاذاً في القيادة، طُرح عليّ هذا السؤال مرات لا تُحصى: هل يمكن تعليم القيادة؟ فأرد عادة بالإجابة التي تدربتُ عليها جيداً: يتفاوت الأفراد في قدرتهم الفطرية على القيادة، مثلما يتفاوتون في المهارة الرياضية والموهبة الموسيقية، لكن كما يساعد المدربون والمدرسون البارعون الرياضيين والموسيقيين على تحقيق إمكاناتهم الكاملة، يساعد المعلمون البارعون أيضاً الأفراد ليصبحوا قادة أفضل. لفعل ذلك في كلية هارفارد للأعمال، نعتمد اعتماداً كبيراً على إطار عمل جون كوتر الذي يقسّم عمل القائد إلى 3 مهام رئيسية: صياغة رؤية مُقنِعة، ومواءمة أفراد المؤسسة حولها، وتحفيزهم لتنفيذها.
بعد سماع إجابتي تحدّاني أحد القادة البارزين قائلاً: "نظريتك التي تعلّمها للآخرين مفيدة، لكنك نسيت مسألة حاسمة في نجاح القادة أو فشلهم وتعليمها أصعب بكثير، وهي طريقة استجابتهم الفورية للأحداث المفاجئة". كان يشير إلى قادة مثل رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، إذ لم يكن أحد ليصفه بأنه صاحب رؤية، وبسبب قلة خبرته شكك الكثيرون في قدراته، لكن الطريقة التي استجاب بها للغزو الروسي لبلاده جعلت منه بطلاً. من جهة أخرى، ربما كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر صاحب رؤية، لكن أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في إيران أضعفته في نظر شعبه.
خلص محاوري إلى أن قدرة القائد على الاستجابة للأحداث الجارية لا تقل أهمية عن براعته في قيادة جدول الأعمال، وقال لي: "أنت تعلّم نصف ما على القادة تعلُّمه فقط".
في عام 2018، نشرت أنا وزميلي مايكل بورتر دراسة حول كيفية قضاء الرؤساء التنفيذيين وقتهم، وقد أكدت صحة هذه الحجة. تتبعنا نشاط 27 رئيساً تنفيذياً في شركات كبرى على مدار الساعة بعد تقسيم يومهم إلى فترات مدتها 15 دقيقة، واستمر تتبعنا لهم 13 أسبوعاً، فلاحظنا أن القادة يقضون في المتوسط %36 من وقتهم في الاستجابة للأحداث الجارية. هذا التزام هائل، ولعلهم يفضّلون تخصيص هذه الساعات لتطوير خططهم ومساعدة شركاتهم على تحقيق أهدافها ووضع استراتيجيات لمستقبلها.
يشير تعبير "الأحداث الجارية" إلى مجموعة كبيرة من القضايا التي تستنزف وقت الرؤساء التنفيذيين. يمكن أن تكون هذه الأحداث خارجية مثل تقلبات أسعار الأسهم أو التحركات المفاجئة للمنافسين والمورّدين والجهات الرقابية، أو تطورات في الاقتصاد الكلي مثل ارتفاع أسعار الفائدة أو التغيرات الجيوسياسية الكبرى. كما يواجه الرؤساء التنفيذيون باستمرار أحداثاً داخلية مفاجئة مثل حوادث مكان العمل، واضطرابات الموظفين والاستقالات المفاجئة، وعيوب المنتج المكتشفة للتو وردود فعل أصحاب المصلحة المفاجئة تجاه ما يسمعونه أو يرونه، بدءاً من مجلس الإدارة وفريق القيادة وصولاً إلى العاملين في الخطوط الأمامية.
على القادة إيلاء اهتمام شديد لعلامات السخط البسيطة التي يمكن أن تتفاقم وتتطور.
يواجه العديد من الرؤساء التنفيذيين الذين أقدّم لهم المشورة مشكلة تتمثل في أن الأحداث المفاجئة تستهلك جزءاً كبيراً من كل أسبوع عمل، ويخشون أنهم يقضون الكثير من الوقت في الاستجابة لها وأن أيامهم تستهلكها جهود عبثية، ومع ذلك فهم عاجزون عن الخروج من هذا النمط، وقد واجهتُ هذا التحدي حينما كنت أدير المؤسسات بنفسي.
ولمساعدة القادة على تحديد المشكلات التي تستحق اهتمامهم بالفعل، أنشأتُ مصفوفة 2x2 تصنّف الأحداث وفقاً لبعدين: كيف تظهر هذه المشكلات في البداية (سواء كانت صغيرة أو كبيرة) والأهمية التي ستكتسبها بمرور الوقت. تشبه هذه المصفوفة إلى حد ما مصفوفة آيزنهاور التي تصنف الأحداث بحسب إلحاحها وأهميتها في الوقت الحالي، لكن المصفوفة التي أنشأتها تأخذ في الاعتبار كيفية تطور الأحداث. سأوضح في هذه المقالة كيف يمكن للرؤساء التنفيذيين تحديد فئات المشكلات، وصياغة الاستجابات المناسبة لها، وتحديد أولويتها بالنسبة إلى بقية أقسام المؤسسة.
إطار عمل لإدارة الاستجابة للأحداث المفاجئة
تنقسم مصفوفتي إلى 4 مربعات: أحداث عادية، والأحداث التي تتضمن تحذيرات صريحة، والأحداث التي تتضمن تحذيرات ضمنية، وأخيراً الأحداث التي تتضمن تحذيرات مخادعة. وفيما يلي نلقي نظرة على أنواع الأحداث التي تندرج تحت كل منها وكيف يجب على القادة أن يتعاملوا معها.
الأحداث العادية
المشكلات البسيطة التي من غير المرجح أن تتفاقم.
مهمة القائد: لا تنجرف.
من الطبيعي أن يكون هناك مستوى من عدم اليقين والتقلب في البيئتين الداخلية والخارجية لأي مؤسسة، ويتضمن ذلك الكثير من القضايا الإيجابية والسلبية التي تسترعي الانتباه، وهي ما نسميها الأحداث العادية. تقع ضمن هذه الفئة حوادث ثانوية، مثل الانحرافات الطفيفة في الميزانية ومكاسب العملاء وخسائرهم الدورية وعثرات التنفيذ والتقلبات الروتينية في أسعار الأسهم والآراء المتضاربة لأصحاب المصلحة وثوران المشاعر الإنسانية. غالبية هذه الأمور لا تستدعي تدخل القائد أو تعطيل الممارسات الجارية.
على الرؤساء التنفيذيين ألا يشتتوا انتباههم بالأحداث العادية أو ينجرفوا وراءها، وعليهم أن يثقوا بمؤسساتهم لإدارة هذه الأحداث وأن يحاولوا التوصل إلى حلول للمشكلات الناجمة عنها والتعامل معها بوصفها أحداثاً روتينية. على الرغم من أنه من الأفضل للقائد تجنب المشاركة في هذه المسائل بنفسه، فمن المفيد له التحقق من الخطوات التي يتخذها موظفوه إلى جانب منحهم ثقته. وعليه التأكد من متابعة أوجه الخلل حتى في المسائل البسيطة، وإذا تحقق بين الحين والآخر من أن المؤسسة تستجيب للأحداث بطريقة مناسبة، فسيضمن عدم إهمال المشكلات وتحولها إلى مصاعب أكبر. وقد يتضمن الأمر متابعة تعليقات العملاء دورياً، أو مراجعة آراء الموظفين على منصات مثل غلاس دور (Glassdoor) أو التوصل إلى سبل أخرى لمعرفة آخر التطورات في المؤسسة.
الأحداث التي تتضمن تحذيرات صريحة
المشكلات الكبيرة التي من غير المرجح أن تتضاءل.
مهمة القائد: يجب المشاركة الكاملة في التعامل مع هذه الأحداث.
في بعض الأحيان، يكون من الواضح تماماً أن أحداثاً ومشكلات معينة ستؤثر تأثيراً كبيراً في عمليات المؤسسة وسمعتها ووضعها المالي. ومن بين ما يقع ضمن هذه الفئة دون أدنى شك الأزمات، مثل فشل المنتجات الكارثي أو الحوادث المميتة. ومن الأمثلة الأخرى أحداث الاقتصاد الكلي الكبرى، مثل التوترات الجيوسياسية الناشئة عن حرب أوكرانيا أو التحركات التنظيمية مثل دعاوى مكافحة الاحتكار أو حظر المنتجات المباعة للصين.
نقدّم في كلية هارفارد للأعمال العديد من دراسات الحالة حول الأحداث التي تتضمن تحذيرات واضحة. كانت هناك تداعيات كبيرة لفضيحة انبعاثات شركة فولكس فاغن (Volkswagen) نتيجة التلاعب المتعمد في الاختبارات على وضع الشركة المالي وسمعتها تطلبت من الرئيس التنفيذي اتخاذ إجراءات مركزة. ومن الأمثلة على الأحداث التي تتضمن تحذيرات صريحة أيضاً، حادثة التسرب النفطي من منصة ديب ووتر هورايزن (Deepwater Horizon) التابعة لشركة بريتيش بتروليوم (British Petroleum) واستجابة الرئيس التنفيذي الفاشلة لها، وإساءة استخدام شركة كامبريدج أناليتيكا (Cambridge Analytica) لبيانات شركة فيسبوك (ميتا الآن)، وحوادث طائرات بوينغ 737 ماكس القاتلة؛ حيث أعطت فرق القيادة في هذه الشركات الأولوية لإدارة الموقف الحالي، وألغيت أولوية معظم المهام الأخرى مؤقتاً. الدروس المستفادة من هذه الحالات: من المهم جداً أن يشارك القائد شخصياً ويعمل على استنفار جهود الجميع، وألا يستسلم لرغبته في التعامل مع الأمر بمفرده، فهو بحاجة إلى معلومات الآخرين وأفكارهم ومهاراتهم، لكنه يجب أن يعي أيضاً أن لكل قسم جدول أعماله الخاص (تركز فرق التسويق على صورة الشركة، في حين تهدف الفرق القانونية إلى تخفيف المسؤولية، وما إلى ذلك). في المواقف التي تتضمن تحذيرات صريحة يجب على القائد أن يحافظ على السيطرة ويضع يده على عجلة القيادة ويحفز المؤسسة، وأن يُظهر تعاطفاً مع الأفراد المتأثرين بالأحداث وأن يتغلب أيضاً على قلقه وتوتره ومشاعره الأخرى. الأهم من ذلك هو أن عليه التركيز خلال العملية على اتخاذ القرارات الصحيحة التي تتواءم مع قيمه المؤسسية والشخصية، لا أن يستسلم لضغط اتخاذ القرارات التي تشعره بالأمان.
على الرغم من الأمر قد لا يبدو بديهياً، فالقيادة في المواقف التي تثير تحذيرات صريحة أسهل في بعض جوانبها من القيادة في أنواع الأحداث الأخرى. فهذه الأحداث هي الأسهل من ناحية تمييزها، ولأن خطورتها واضحة فالجهد اللازم لاستنفار المؤسسة استجابة لها أقل بكثير. وقد تزول القيود الاعتيادية في ظل مثل هذه الأزمات الوجودية (مثل محدودية الميزانية)، كما أن الرئيس التنفيذي لن ينشغل بشأن جدارة المسألة بالوقت الذي يقضيه في إدارتها.
الأحداث التي تتضمن تحذيرات ضمنية
المشكلات البسيطة التي قد تتحول إلى مشكلات كبيرة.
مهمة القائد: القضاء على هذه المشكلات في مهدها.
ثمة فئة فريدة من المشكلات المؤسسية المفاجئة، وهي التي تبدو ثانوية في بدايتها لكن يحتمل أن تتحول إلى مشكلات كبيرة، وهي أخطر أنواع الأحداث التي يواجهها القادة. قد يتجاهل القائد الأحداث التي تتضمن تحذيرات ضمنية أو يخلط بينها وبين الأحداث العادية، ولا ينتبه إلى احتمال تصاعدها وتحولها إلى تهديد كبير. ولعل المثال الأشهر على ذلك ما حدث في الأشهر التي سبقت أحداث 11 سبتمبر/أيلول، عندما تلقت وكالات الاستخبارات الأميركية معلومات مختلفة حول إرهابيين مشتبه فيهم يلتحقون بمدارس الطيران وحول هجوم وشيك بالطائرات. ومع ذلك، عجز المسؤولون عن ربط المعلومات بعضها ببعض ولم يدركوا أنها أكثر من مجرد ثرثرة استخباراتية عادية.
تتخذ الأحداث التي تتضمن تحذيرات ضمنية عدة أشكال، منها مثلاً ظهور المنافسين الذين قد يزعزعون ديناميكيات السوق أو تذمر الموظفين، أو القوانين الجديدة التي من المحتمل أن يتسع نطاقها، أو أوجه القصور التشغيلية التي تبدو غير مهمة ويمكن أن تتفاقم إذا أُهملت. في كثير من الأحيان، تبدأ حالات الفشل الكبيرة التي تتعلق بالمنتج أو السلامة بتحذيرات ضمنية. في منتصف التسعينيات بدأ محامون، بتوكيل من مدّعين، برفع دعاوى قضائية على شركة فايرستون (Firestone) للإطارات، ادعوا فيها أن مداس الإطارات في سيارة الدفع الرباعي فورد إكسبلورر يميل إلى الانفصال عند السرعات العالية، ما يسبب الحوادث. تلقى العديد من تجار السيارات ووكلاء التأمين وغيرهم تقارير منفصلة عن هذه المشكلات خلال تلك السنوات، لكن المشكلة الأكبر ظلت مخفية حتى عام 2000 عندما أوضحت تقارير وسائل الإعلام حجمها بوضوح. بمرور الوقت، تسببت الإطارات المعيبة في وقوع 203 حالات وفاة (حدث معظمها بعد التحذيرات الضمنية الأولى) وسببت ضرراً كبيراً لسمعة شركتَي فورد وفايرستون، وربما لو منح قادة الشركتين التحذيرات الضمنية الأهمية اللازمة لاستجابوا لها في وقت مبكر.
تبدأ الأزمات الثقافية غالباً أيضاً بتحذيرات ضمنية. قُدّمت ادعاءات سرية ضد العديد من القادة الذين طردوا بعد حملة #أنا_أيضاً (#MeToo) بسبب سوء السلوك لسنوات، وكانت هنالك إشارات واضحة على أسلوب شركة أوبر (Uber) المتغطرس، وسلوكها الذي ينتهك القواعد وثقافتها السامة قبل أن تكتب المهندسة التي استقالت من الشركة، سوزان فاولر، مقالاً في عام 2017 لتكشف ذلك كله للجمهور، وروت فيه أن المشرف عليها تحرش بها ولم تتلقَ أي دعم حين أبلغت قسم الموارد البشرية عنه. أدت هذه الضجة إلى إقالة المؤسس المشارك لشركة أوبر ورئيسها التنفيذي، واستغرقت الشركة سنوات لإعادة بناء ثقافتها وسمعتها.
على القادة إيلاء اهتمام شديد لعلامات السخط أو الضيق البسيطة التي يمكن أن تتفاقم وتتطور، خاصة بين أعضاء مجلس الإدارة أو كبار المسؤولين أو الموظفين عموماً. وعندما تظهر هذه المشكلات، فإن أفضل طريقة لمعالجتها هي التصرف بسرعة والقضاء عليها في مهدها. وفي معظم الحالات التي تتضمن تحذيرات ضمنية، يمكن للقائد اتخاذ خطوات للتخفيف من حدة الموقف قبل أن يتفاقم ويتحول إلى أزمة، فالقادة الذين يستجيبون مبكراً، سيكونون أكثر فعالية في الحد من المشكلات المتصاعدة، سواء كان ذلك من خلال الإعلان عن سحب طوعي للمنتج من الأسواق أو طلب إيقاف خط الإنتاج بسبب مشكلة تتعلق بالجودة أو السلامة أو إقالة مسؤول تنفيذي سام أو التواصل مع موظف مستاء. يمكن أن يكون وضع خطط طوارئ لمعالجة التصعيد المحتمل مفيداً أيضاً، لأن الإجراءات الوقائية الأولية لا تنجح دائماً.
لا يتطلب كل تحذير ضمني اهتمام الرئيس التنفيذي الكامل، ولكن تحديد المشكلات البسيطة التي يمكن أن تتفاقم هو شكل من أشكال المحاكمة العقلية التي تميز القادة الفعّالين.
التحذيرات المخادعة
المشكلات الكبيرة التي من المرجح أن تتضاءل بمرور الوقت.
مهمة القائد: لا تبالغ في رد فعلك، راقب وانتظر.
في أسطورة الأوديسة، تغوي كائنات "السايرن" الخرافية البحارة بغنائها الساحر للإبحار باتجاهها في المياه الضحلة، فتتحطم سفنهم ويهلكون. اليوم، تجذب أمور كثيرة خادعة ومدمرة الناس بالطريقة نفسها، ومن ثم تجب مقاومتها. ثمة أحداث تنطوي على تحذيرات تبدو جدية وتدفع الرؤساء التنفيذيين غالباً إلى تأجيل أعمالهم كلها لأجلها، وعلى الرغم من ذلك فإلحاح هذه التحذيرات يتضاءل بمرور الوقت، ويرى القادة أن الجهد الذي بذلوه للتعامل معها لم يعد بنفع يذكر. والأسوأ من ذلك أن استجابة القائد في بعض هذه المواقف تكون مثل صب الزيت على النار، فتتحول المشكلة الصغيرة إلى كارثة.
تعد قضية "أنتينا غيت" (Antennagate) التي واجهتها شركة آبل مثالاً نموذجياً على الأحداث التي تثير تحذيرات مخادعة؛ فبعد فترة وجيزة من إطلاق هاتف آيفون 4 في عام 2010، بدأ العملاء يبلغون عن انقطاع المكالمات عندما يمسكون الجهاز بطريقة معينة، فانتهزت وسائل الإعلام المعنية بالتكنولوجيا الفرصة، لكن الرئيس التنفيذي ستيف جوبز أدرك بذكاء أن المشكلة كانت مؤقتة وعمل على معالجتها في حين أوضح أنه ليس قلقاً جداً من تأثيرها في عرض القيمة الأساسي الذي تقدمه الشركة. مثال آخر هو إطلاق شركة مايكروسوفت نظام التشغيل ويندوز فيستا (Vista) الذي انُتقد على نطاق واسع بسبب بطئه وكثرة أخطائه، ومن ثم فإنه لم يكتسب حصة سوقية؛ وبدلاً من أن تصاب الشركة بالإحباط تحوّلت بذكاء إلى تقديم منتجات أنجح دون السماح لمشكلات نظام التشغيل فيستا باستهلاك تركيز فريق القيادة.
في عام 2015، تعرضت شركة ستاربكس (Starbucks) لسخرية واسعة النطاق بسبب حملة أطلقتها تهدف إلى تحفيز حوار وطني حول العلاقات بين الأعراق. وعلى الرغم من هذه الانتقادات، لم يبالغ قادة الشركة في ردود الفعل وسرعان ما تلاشت الضجة.
على الرغم من أن مواقف كهذه قد تولد الإشاعات وتخلق حالة من القلق داخل الشركة، فيجب على القادة أن يدركوا أن التقييم الأولي لأهميتها لا يتوافق دوماً مع تأثيرها على المدى الطويل في أداء الشركة، والهدوء هو سر نجاح التعامل مع المواقف التي تتضمن تحذيرات مخادعة، فمن الضروري أن يتعلم القائد كيف يراقب ما يجري وينتظر. من المفيد مثلاً أن يؤجل بحث المسألة يوماً أو يومين حتى ينفس الناس عن غضبهم ويرى إن كانت الأمور ستهدأ بعد ذلك، كما أن الانتظار يسمح بالحصول على مزيد من المعلومات، ولهذا قيمة كبيرة؛ فالبقاء على اطلاع بما يجري أمر بالغ الأهمية، ولكن المبالغة في رد الفعل يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية بإثارة نزاع غير مقصود.
وضع إطار العمل موضع التنفيذ
ثمة عملية من 3 خطوات: الاستشعار والقياس والاستجابة، تتيح للقادة التفاعل مع الأحداث الجارية على اختلافها بفعالية.
الاستشعار. وقت القادة ضيق، ومن ثم عليهم تحديد المسائل التي يخصصون اهتمامهم لها، لكن من المحتمل أن يستبعدوا مشكلات أكثر مما ينبغي. من الممكن أن يحدّ الرئيس التنفيذي من المعلومات اليومية التي تتدفق إليه من خلال توجيهاته الصريحة أو الإشارات الضمنية التي يرسلها إلى مساعديه، مثل تحديد مَن يحصل على موعد في جدول أعماله ورسائل البريد الإلكتروني التي يقرؤها بعناية والمسائل التي تُعد مهمة بدرجة كافية لعقد اجتماع بشأنها. على الرغم من أن تقليل تدفق المعلومات على هذا النحو هو وسيلة حسنة النية لإزالة عوامل التشتيت ليحافظ الرئيس التنفيذي على تركيزه منصباً على الأولويات القصوى، فقد تكون المبالغة فيه خطأً. فالقائد البارع يبقى على اطلاع دائم بما يحدث في مؤسسته وفي محيطها الخارجي، ويكون في الاجتماعات متيقظاً وحاضراً فينتبه للإشارات الدقيقة، مثل لغة جسد أحد الموظفين التي قد تشير إلى قلق متنامٍ. كما ينشئ شبكة واسعة ومتنوعة من المصادر التي تزوده بالملاحظات في الوقت المناسب، ويتعامل مع هذه الشبكة بطريقة هادفة فيشجع أفرادها على الصراحة وينبذ التملق الذي يسعى إلى تجميل الوضع، والذي يحيط بالقادة الراغبين في سماع الأخبار الإيجابية فقط، ويحرص على توفير الأمان النفسي الضروري للأفراد ليتمكنوا من إبلاغه بالأخبار السلبية.
تتدفق المعلومات إلى الرئيس التنفيذي في صورة مزيج من الحقائق والأوهام والآراء والتبسيطات المخلّة وردود الفعل المبالغ فيها، فينخرط في عملية يسميها المنظِّر المؤسسي كارل وايك: صنع الفهم (Sensemaking). وهي تتضمن التعرف على الأنماط وجمع وجهات النظر المختلفة ووضع الأمور في أطر عمل توضح معانيها. تساعد عملية صنع الفهم الأفراد على معالجة المواقف المعقدة والغامضة ذهنياً، وهي تتحسن بالممارسة، لذلك يتحسن معظم القادة فيها بمرور الوقت.
القياس. لتحديد الفئة التي تنتمي إليها مشكلة ما، على القادة تقدير حجم هذه المشكلة الآن وفي المستقبل. للتفريق بين المشكلات التي تتضمن تحذيرات ضمنية والتي تتضمن تحذيرات مخادعة (الاختيار بين أصعب فئتين)، على القائد أن يتمتع بالحدس والقدرة على تحديد أوجه التشابه أو الاختلاف بين الأحداث الحالية والماضية. لا يتطلب القياس التعرف على الأنماط فحسب، بل يتطلب أيضاً مهارة في التنبؤ والتوقع، وهي قدرات تنمو مع اكتساب الخبرة. على القائد أيضاً أن يعتمد بدرجة كبيرة على ذكائه العاطفي لقياس أهمية القضايا الداخلية وعلى ذكائه السياقي لتقييم الأحداث الخارجية. ينبغي للرئيس التنفيذي أن يطلب المساعدة عند تحديد أهمية القضايا، لكن ينبغي له أيضاً أن يدرك تحيزات الأفراد الذين يلجأ إليهم، التي تنشأ تبعاً لطبيعة مهامهم أو جداول أعمالهم الفردية. على سبيل المثال، من المحتمل أن يبالغ فريق وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم حادث يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، وقد يبالغ فريق المبيعات في رد فعله تجاه ملاحظات العملاء.
في نهاية المطاف، تقع على عاتق الرئيس التنفيذي مسؤولية تحديد إن كانت المشكلة تمثل حدثاً عادياً، أو تحذيراً صريحاً أو تحذيراً ضمنياً أو تحذيراً مخادعاً، وهذا يتطلب صفة قيادية لا تحظى بالتقدير الكافي، أطلق عليها ماكس فيبر "حس التناسب" (Sense of Proportion). يتضمن حس التناسب القدرة على فصل القضايا المهمة عن القضايا غير المهمة والانتباه إلى كيفية ترابط الأمور عبر مستويات التحليل المختلفة، والانتقال بين التفاصيل والصورة الأشمل وتقييم أهمية جوانبها. يمثل التمتع بحس التناسب ميزة رئيسية للقائد، وحتى لو فوّض بعض القضايا للآخرين فعليه في نهاية المطاف التعايش مع أحكامه.
بعد تحديد حجم المشكلة، يجب على القائد تأطيرها بطريقة صحيحة وتوضيح هذا الإطار للمؤسسة. وفي بعض الأحيان، يتعين عليه التعامل مع حقيقة أن المؤسسة قد تميل إلى المبالغة في رد الفعل تجاه التحذيرات المخادعة أو تقلل من أهمية التحذيرات الضمنية، ومن ثم يجب عليه أن يوضح السبب في احتمال أن تكون المشكلة أكبر أو أصغر مما يراه الأفراد للوهلة الأولى.
الاستجابة. قد تبدو تصرفات القائد عند الاستجابة للمشكلات روتينية لأن وضع خطة وتفويض المسؤولية والإشراف على التنفيذ هو ما يفعله يومياً. ومع ذلك، فإحدى الركائز الرئيسية للتعامل مع الأحداث الجارية إدراك أنها بطبيعتها تتطور وتتطلب استجابة تكيفية، ومن ثم فإنه من غير المناسب وضع خطط ثابتة لها تمتد 6 أسابيع. في كثير من الأحيان قد يطلب القائد تحديثات يومية سريعة للتأكد من أن الاستجابة التي صاغها بالأمس لا تزال منطقية اليوم وأن التصنيف الأولي للمشكلة لا يزال مناسباً، فالحادث الذي يصنف في البداية على أنه تحذير ضمني قد يصبح في نهاية المطاف حدثاً عادياً والعكس صحيح.
كتبتُ سابقاً عن نهج "الإجراءات المرنة" (Robust Action)، وهو نهج قيادي يعالج الغموض ويؤكد القدرة على التكيف في عملية صنع القرار، ويُعد وسيلة فعالة لإدارة الطبيعة المتغيرة للأحداث المفاجئة. فبدلاً من اتباع مسار ثابت، يتبنى القائد تفسيرات وحلولاً متعددة، بل متعارضة أحياناً، فكما يفعل لاعبو الشطرنج الكبار، يتخيل سيناريوهات مختلفة ويبذل قصارى جهده للاحتفاظ بالعديد من الخيارات الاستراتيجية لأطول فترة ممكنة. المبدأ الأساسي لنهج الإجراءات المرنة هو أنه في عالم لا يمكن التنبؤ به، يحدّ الإفراط في الالتزام باستراتيجية واحدة من الفرص والمسارات المحتملة، في حين أن الغموض الاستراتيجي والمرونة يعززان القدرة على التكيف مع التحديات الناشئة.
ومع وضع هذا الإطار في الاعتبار، كيف ينبغي للقادة أن ينظروا إلى الوقت الذي يقضونه في الاستجابة للأحداث الجارية؟ تذكّر أن دراستنا للرؤساء التنفيذيين أظهرت أن القائد يقضي %36 من ساعات العمل في ذلك، ولكن الحديث عن متوسط الوقت، ويختلف هذا النطاق اختلافاً كبيراً بين القادة على المستوى الفردي. أحد الرؤساء التنفيذيين الذين درسنا سلوكهم قضى %14 فقط من وقته في الاستجابة للأحداث الجارية، في حين قضى آخر %81 من وقته في ذلك. لا شك في أن القائد الثاني كانت حالات استجابته أكثر مما ينبغي بكثير، ولكن في مناقشتنا مع القائد الأول تحدثنا عن احتمال أنه لم يبذل جهداً كافياً في هذه الناحية.
هاتان الحالتان المتناقضتان تظهران حقيقية أن هدف القائد ليس تقليل الوقت الذي يقضيه في الاستجابة للأحداث المفاجئة، بل تخصيص القدر المناسب من وقته لها. على الرغم من أن إدارة هذه الأحداث قد يبدو أحياناً أنها تشتت القائد عن الجهود اللازمة للأهداف الطويلة الأمد، فهي تظل جزءاً أساسياً من دوره ويمكن أن يؤدي الإخفاق فيها إلى تكاليف باهظة. ينجم العديد من حالات إقالة الرؤساء التنفيذيين عن أخطاء في الاستجابة للأحداث الجارية، ومهما كانت خطط القائد رائعة، فلا بد من المشكلات المفاجئة، وقد يكون التعامل معها بنجاح عاملاً مهماً لتحقيق الخطط.
غالباً ما تستلزم القيادة إتقان الثنائيات: وضع الاستراتيجية والتنفيذ، والأداء على المدى القصير والمدى الطويل، وتحقيق الأرباح وتحقيق النمو، والاستمرارية والتغيير، ويمكن أن نضيف إلى القائمة أيضاً القدرة على استباق الأحداث والاستجابة لها. بقدر أهمية أن يعمل القائد على صياغة رؤيته ومواءمة المؤسسة معها وتحفيزها لتحقيقها، من المهم أيضاً أن يستشعر الأحداث الجارية ويقدّر حجمها ويستجيب لها، وأنا أحثّ القادة على إدارة استجاباتهم للأحداث بطريقة مدروسة واستخدام إطار العمل الذي وضعته لفعل ذلك بفعالية أكبر.