الارتجال يستلزم الممارسة العملية

7 دقائق
تطوير مهارات الارتجال
رسومات: ميشيل دوربانو

ملخص: غدت القدرة على الارتجال أكثر أهمية من أي وقت مضى في ظل ما نشهده اليوم من تحوّلات متلاحقة وما يحيط بنا من غموض كثيف، ولكن ما الذي يتطلبه تطوير مهارات الارتجال؟ درس مؤلفو المقالة عدداً من ألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي (LARPs) (وفيها يتقمّص اللاعبون أدوار شخصيات طبيعية ويتفاعلون آنياً مع الأحداث المختلفة سواء كانت معدَّة أو غير معدَّة سلفاً) للتعرف على آليات الارتجال عن كثب. وبعد أكثر من عامين من الملاحظات والمقابلات الشخصية، استطاعوا تحديد 3 أنواع متباينة من الارتجال طوّرها اللاعبون على وجه العموم، وهي على الترتيب: الارتجال بالمحاكاة والارتجال التفاعلي والارتجال التوليدي. وتوصلوا إلى أن اللاعبين الأكثر قدرة على المنافسة طوّروا الارتجال التفاعلي بشكل أسرع، لكنهم لاقوا صعوبة في الوصول إلى الارتجال التوليدي في أغلب الأحوال. في حين أنهم وجدوا أن اللاعبين الأكثر ميلاً إلى التعاون تطوروا بشكل أبطأ في البداية، لكنهم استطاعوا في النهاية تحقيق الارتجال التوليدي بفضل الدعم الاجتماعي والثقة المتبادلة مع غيرهم من اللاعبين. ومن هنا، يقدم المؤلفون 3 نصائح للمؤسسات التي تتطلع إلى تعزيز مهارات الارتجال بين مدرائها وموظفيها، ممثلة فيما يلي: بناء الوعي، وتحقيق التوازن بين التنافس والتعاون، وتعهُّد الهياكل الاجتماعية القوية بالرعاية.

 

كيف يتعامل المرء مع الأزمات؟ ماذا تفعل عندما يؤدي تغيير مفاجئ إلى زعزعة روتينك المعتاد؟ يستلزم الازدهار في الأوقات المشوبة بالغموض أن يكون مدراؤك وموظفوك قادرين على اتخاذ قرارات سريعة والتصرف على وجه السرعة دون دليل إرشادي يحوي تعليمات مسبقة. وهذا يعني أنك بحاجة إلى أشخاص يملكون مهارة الارتجال.

قد يبدو الارتجال منافياً لآليات العمل ذات الأطر المحددة سلفاً التي تحكم ممارسات الأعمال المستقرة، بدليل أن المسؤولين عن التعيينات لا يلتفتون غالباً إلى مهارات الارتجال، وأن معظم برامج تدريب الموظفين تركز على تطوير المهارات القيادية أو التقنية بدلاً من مساعدة الموظفين على أن يصبحوا أكثر قدرة على الارتجال. وعلى الرغم من ذلك، فإن الارتجال يمثل في واقع الأمر حجر الأساس للمرونة التنظيمية. وبوسع المدراء والموظفين القادرين على الارتجال توجيه شركاتهم خلال الأزمات وتحولات النموذج الفكري، بداية من الاختراقات التكنولوجية وتغيير القوانين التجارية، وصولاً إلى الكوارث البيئية والتحديات التي لا تُعد ولا تُحصى المرتبطة بجائحة "كوفيد-19".

ولا داعي للتذكير بأن تطوير مهارات الارتجال ليس بالأمر الهين. وكما يقول جوشوا فونك، المدير الفني لمسرح الارتجال الشهير ومركز "ذا سكند سيتي" (The Second City) للتدريب، فإنك "لن تجيد الارتجال إلا بعد سنوات من العمل الجاد". لكن على الرغم من صعوبة هذا العمل، فإن التحسن في الارتجال ليس ضرباً من المستحيل. وقد سعى بحثنا المنشور مؤخراً إلى فهم كيفية تحسين أي شخص قدرته على الارتجال من خلال التحليل المُفصّل لمختلف أنواع مهارات الارتجال الموجودة، وأساليب تطويرها، والعوامل التي يمكن أن تعيق عملية التطوير أو تسرعها.

كانت محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال مراقبة البيئات المؤسسية التقليدية أمراً صعباً، نظراً لأن الارتجال يفتقر إلى التخطيط بطبيعته، وغالباً ما تقف البروتوكولات التنظيمية في طريقه، ولا يمكن ملاحظته من جانب الأطراف الخارجية في الكثير من المواقف المهنية. وبالمثل، فإن محاولة إجراء تجارب معملية تحاكي الارتجال الذي يُمارس على أرض الواقع ستكون صعبة بكل تأكيد، لأن البيئات المصطنعة ستبدو مختلفة تماماً عن معظم بيئات العمل الحقيقية. ومن ثم، فقد اخترنا دراسة سياق يشيع فيه الارتجال ويمكن ملاحظته فيها بسهولة ويُمارس فيها بطريقة تشبه ممارسته في مكان العمل إلى حد ما، لذا وقع اختيارنا على ألعاب تقمّص الأدوار في إطار طبيعي (LARPs).

وألعاب تقمص الأدوار في إطار طبيعي هي ألعاب تمثيلية يتقمص فيها المشاركون شخصيات محددة ويتفاعلون مع الآخرين في حيز مادي، مثل زوّار منتزه "وست وورلد" (Westworld) في المسلسل التلفزيوني الشهير. إذ يجب على اللاعبين المشاركين في هذه الألعاب الارتجال باستمرار للتعامل مع التغييرات المستمرة والمفاجآت الناتجة عن المؤامرات والأفعال العفوية للاعبين الآخرين، وهو ما يجعل هذه الألعاب أشبه ما يكون بعالم الشركات. علاوة على ذلك، فقد اخترنا دراسة لعبة "فامبير: ذا ريكويم" (Vampire: The Requiem) لأنها تركز على قرارات اللاعبين في مواجهة التحديات الاستراتيجية غير المتوقعة والصراع على مصادر القوة والتفاوض على الموارد والتحالفات السياسية، أي أنها تتمحور باختصار حول عمليات صناعة القرار التي تشبه إلى حدٍّ كبير الحلول السريعة للمشكلات التي يضطر المدراء والموظفون إلى خوضها يومياً.

واستطعنا التواصل مع 3 مجموعات مختلفة تشارك في هذه اللعبة لأكثر من عامين متواصلين لجمع البيانات ذات الصلة، حيث عمل الباحثون مراقبين خارجيين ومشاركين فعليين. وقد أجرينا عشرات المقابلات الشخصية مع اللاعبين، ووثّقنا أكثر من 100 ساعة من الملاحظات، وهو ما سمح لنا بتكوين صورة شاملة حول مدى تطوّر اللاعبين وأساليب ممارستهم للمهارات الارتجالية في سياق لعبة تقمص الأدوار في إطار طبيعي.

3 أنواع من الارتجال

استطعنا في البداية تحديد 3 أنواع من مهارات الارتجال استناداً إلى هذه البيانات، وهي: الارتجال بالمحاكاة والارتجال التفاعلي والارتجال التوليدي، حيث يعتمد اللاعبون الأقل خبرة على أسلوب الارتجال بالمحاكاة، وذلك من خلال مراقبة ما يفعله اللاعبون الأكثر خبرة ومحاكاة سلوكهم بأقصى قدر ممكن من الدقة. وقد لاحظنا في أحد السيناريوهات، على سبيل المثال، أن هناك لاعباً جديداً يستعين بعصبة الساحرات لأول مرة. ولأنه لم يكن متأكداً مما يجب فعله، أخذ يراقب اللاعبين الأكثر خبرة، ومن ثم غيّر زيه ومكياجه على الفور ليكون أكثر انسجاماً مع أسلوبهم. وفي حين أن هذا يعتبر أبسط أنواع الارتجال، فإنه يمثل نقطة انطلاق فاعلة تتيح إمكانية المشاركة من جانب اللاعبين الجدد ذوي الخبرة المحدودة.

أما النوع الثاني من الارتجال الذي لاحظناه فهو الارتجال التفاعلي، وفيه يتم استخدام المعطيات من البيئة المحيطة واللاعبين الآخرين لتطوير استجابة شخصية تجاه موقف غير متوقع، دون الاعتماد على تصرفات الآخرين كمؤشر أوحد. على سبيل المثال: عندما واجه اللاعبون هجوماً من الأعداء واضطروا للدفاع عن حصنهم، استجابوا تلقائياً لهذا الخطر بتحريك قواتهم وإعادة تنظيم دفاعاتهم باستمرار، ما يدل على رد فعل جديد على تصرفات زملائهم وتصرفات أعدائهم. ولاحظنا أن هذا النوع من الارتجال قد تم تطويره بشكل عام بعد أن أتقن اللاعبون الارتجال بالمحاكاة لأنه كان يوجب على اللاعبين البناء على خبرتهم الحالية للتوصل إلى مسارات عمل جديدة ومبتكرة.

وأخيراً، كان الشكل الأكثر تقدماً من الارتجال الذي لاحظناه هو الارتجال التوليدي. ويُعرَّف الارتجال التوليدي بالقدرة على استكشاف المستقبل وتجربة أشياء جديدة بشكل استباقي في محاولة لتوقع ما يمكن أن يحدث، بل وتحفيز حدوثه (بدلاً من الاكتفاء بالاستجابة له كرد فعل). ونظراً لأنه يعتمد على التخمين في الأساس، فإن الارتجال التوليدي أكثر أنواع الارتجال خطورة بطبيعته، ولكنه غالباً ما يكون أيضاً أكثرها فاعلية لتطوير أفكار فريدة ومبتكرة. وقد تجسّد هذا النوع من الارتجال في تلك اللحظة التي قرر فيها لاعبان الشروع على الفور في مهمة خطيرة تهدف إلى استعادة أداة قوية من أجل تجنب المشاكل المحتملة في المستقبل، دون أي حدث خارجي محدد يضطرهم إلى اتخاذ هذا القرار.

الأهم من ذلك أن هذين اللاعبين كانا يحظيان بالاحترام والموثوقية داخل المجموعة، ولذلك دعم اللاعبون الآخرون الفكرة الجديدة ونفذوها بشغف في مخططهم الجماعي (بدلاً من تجاهل الفكرة أو رفضها). وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الارتجال التوليدي يتطلب درجة أعلى من الثقة المتبادلة بين اللاعبين، وذلك لتزويد المُرتجِل بالثقة اللازمة لمتابعة فكرة قد لا تلقى النجاح، ولزيادة فرص تقبل الآخرين للفكرة. قد يكون تحقيق هذا المستوى من الثقة أمراً صعباً، ولكن بمجرد أن يصل المرء إلى حد معين، فيمكن أن تؤدي هذه الثقة إلى بناء دورة محمودة تزداد فيها فرص قبول أفكار الأشخاص الذين يتمتعون بروابط اجتماعية قوية في المجموعة، وبالتالي تزداد ثقتهم في القدرة على اقتراح أفكار جديدة في المستقبل.

يتطلب تطوير مهارات الارتجال كلاً من التعاون والتنافس

بعد أن حددنا هذه الأنواع الثلاثة من الارتجال، شرعنا في استكشاف كيفية تطوّر هذه المهارات المختلفة بمرور الوقت. واستندنا في هذا المضمار إلى بيانات المراقبة والمقابلات الشخصية التي تواصلت على مدار عامين كاملين، ومن ثم رسمنا مسارات تفصيلية لكيفية تقدم كل مشارك في تطوير مهارات الارتجال لديه. وتوصلنا إلى أن العامل الحاسم في تحديد كيفية تطوير هذه المهارات (أو عدم تطويرها) يتمثل في قدرة الفرد على التنافس والتعاون المتبادل.

وخلُص بحثنا على وجه التحديد إلى أن اللاعبين التنافسيين يطورون القدرة على الارتجال التفاعلي بشكل أسرع من غيرهم لأنهم يتصرفون استناداً إلى أكبر عدد ممكن من المعطيات (لدرجة أنهم لا يتركون في الغالب شيئاً للاعبين الآخرين، وذلك من خلال "حرمانهم" في الأساس من أي إشارات قد تعزّز مسارات تطور الشخصيات الأخرى). وعلى الرغم من فوائد هذا النهج على المدى القصير، فإنه يؤدي في الغالب إلى تنفير اللاعبين الآخرين، وهو ما يعيق محاولات تطور مهارات الارتجال التوليدي على المدى المنظور. ومن ناحية أخرى، يميل اللاعبون المتعاونون إلى قضاء وقت أطول لتطوير الارتجال التفاعلي لأنهم غالباً ما يفضلون السماح للاعبين الآخرين بالتفاعل مع الإشارات البيئية الجديدة بدلاً من المسارعة باغتنام كل فرصة على الفور. وهكذا، قد يؤدي التركيز بصورة مكثفة على التعاون مع الآخرين إلى إعاقة النمو في البداية، ولكنه يساعد هؤلاء اللاعبين في النهاية على اكتساب الترابط الاجتماعي وتشكيل بيئة مفعمة بالثقة المتبادلة اللازمة لتطوير القدرة على الارتجال التوليدي.

يشير هذا (ربما بصورة متوقعة) إلى عدم التعارض بين كلّ من التنافسية والتعاون، كما يشير أيضاً إلى أن اتباع النهج الصحيح في الوقت المناسب أمر ضروري لتطوير مهارات الارتجال. فاللاعبون الذين يتبعون المنهج التنافسي في البداية ثم يصبحون أكثر تعاوناً مع اكتسابهم الخبرة ينتقلون بشكل أسرع من الارتجال بالمحاكاة إلى الارتجال التوليدي. الأهم من ذلك أن بحثنا أثبت أن الفرصة متاحة دائماً للتحسين، أياً كان موقعك على سلم تطوير هذه المهارات.

كيف تطبّق، إذاً، كل هذه النتائج في مكان العمل؟ يمكن ترجمة النتائج التي توصلنا إليها إلى 3 نصائح رئيسية موجهة إلى كلٍّ من المدراء والموظفين الذين يودون تعزيز مهارات الارتجال:

1. بناء الوعي حول كيفية تطوير مهارات الارتجال بمختلف أنواعها

تتمثل الخطوة الأولى والمهمة في الوقت ذاته في تعرُّفك أنت وفريقك بكل بساطة على مختلف أنواع مهارات الارتجال وإلى أي مدى يتأثر تطويرها بالتركيز على أيّ من التنافس أو التعاون. إذ تسهم زيادة الوعي بهذه المهارات في توجيه قراراتك الماسة بطريقة تشكيل فريق العمل، بحيث تضمن التنويع ما بين الموظفين الجدد والموظفين الأكثر خبرة والأقدر على الارتجال حتى يتعلموا منهم مهارات الارتجال بالمحاكاة. كما أن بوسعها أيضاً توجيه قراراتك الماسة بتوزيع مهمات العمل على أعضاء الفريق الواحد، بحيث تستطيع المؤسسات تحديد الفرق أو الأفراد الأكثر إتقاناً لمهارات الارتجال وتكليفهم بالمشاريع غير المنظمة والمحاطة بالكثير من الغموض.

2. تحقيق التوازن بين التعاون والتنافس

توصّل بحثنا إلى أن هناك طريقة أخرى يمكن من خلالها إثبات أن كلاً من التعاون والتنافس ضروريان لإنشاء مؤسسة صحية. ويجب على المدراء التعامل مع هذه التجاذبات بحرص، وتشجيع موظفيهم على تطوير المهارات التعاونية دون قتل الغرائز التنافسية للموظفين الجدد الطموحين. فالتركيز على التعاون ضروري في نهاية المطاف لتعزيز الارتجال التوليدي، ولكن دون دافع تنافسي قوي، ربما يواجه الموظفون صعوبة في تطوير مهارات الارتجال التفاعلي التي سيحتاجونها كأساس لمزيد من النمو.

3. تعهد الهياكل الاجتماعية بالرعاية اللازمة، خاصة عند العمل عن بُعد

أخيراً، فإن أهمية الهياكل الاجتماعية القوية غنية عن التعريف. فإذا أراد المدراء تعزيز مهارات الارتجال التوليدية الحقيقية بين موظفيهم، فيجب عليهم إنشاء بيئة آمنة نفسياً للتفاعلات الاجتماعية الغنية التي تولد الثقة المتبادلة والرغبة في التعاون مع الآخرين، إلى جانب تمكين الموظفين من اكتساب الإلهام من الإشارات الدقيقة التي يرسلونها إلى بعضهم والعمل معاً للتوصل إلى أفكار جديدة دون خوف مفرط من الرفض. وقد يكون الحفاظ على بيئة كهذه أمراً صعباً بطبيعة الحال في الأحوال العادية، ولكنه يصير أكثر صعوبة في البيئات الافتراضية. لذا، يجب على المدراء توجيه قدر أكبر من الاهتمام إلى دعم الآليات الرسمية وغير الرسمية لبناء روابط اجتماعية قوية بين أعضاء الفريق، لاسيما في ظل التفاعلات الشخصية المحدودة.

تحتاج كل مؤسسة الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى مدراء وموظفين قادرين على اتخاذ قرارات سريعة والتفكير خارج المسارات المحددة سلفاً. إذ لم يعد بإمكان القادة ترك تطوير مهارات الارتجال للمصادفة، أو حتى افتراض أن القدرة على الارتجال صفة فطرية وليست مهارة مكتسبة يمكن تعلمها بالممارسة. لذا، يجب عليهم استباق الأحداث وتعزيز بيئة تشجع جميع أعضاء الفريق على تطوير هذه المهارات الأساسية، وتشجيع التوازن الصحي بين كل من التعاون والتنافس، وتوفير الهياكل الاجتماعية القوية اللازمة للارتجال، سواء كان ذلك في المقرات المكتبية أو في ساحة العمل الافتراضي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي