لا تخلط بين الاستراتيجية والأهداف النبيلة

5 دقائق
الإعلان عن الاستراتيجية

ملخص: تُعلن أغلبية الشركات عن استراتيجياتها في صورة مجموعة من الطموحات والعبارات المبتذلة. لكن الطموحات تختلف كلياً وجزئياً عن الاستراتيجية، ولن يؤدي هذا الأسلوب في التواصل مع الموظفين سوى إلى إرباكهم وتخبطهم هنا وهناك في الظلام الدامس. فالاستراتيجية عبارة عن مجموعة من الخيارات التي لا يمكن التراجع عنها، ويستوجب الإعلان عن الاستراتيجية شرح ماهية هذه الخيارات وأسباب اعتمادها دون غيرها.

 

تُعلن أغلبية الشركات عن استراتيجياتها في صورة مجموعة من الطموحات والعبارات المبتذلة التي قد تبدو رائعة من الناحية الشكلية. على سبيل المثال، قالت إحدى كبرى الشركات الأوروبية المتعددة الجنسيات في تقريرها السنوي: "تتمثل العناصر الرئيسية لاستراتيجيتنا في مواصلة تركيزنا على تحقيق التميز التشغيلي والاستفادة من مزايا نموذجنا المتكامل وتعزيز ريادتنا التكنولوجية وتنفيذ استثمارات ذكية ومنضبطة". وعلى المنوال نفسه، أعلنت شركة أميركية عالمية أن: "استراتيجيتنا تستند إلى 4 ركائز: تحقيق الفوز مع عملائنا وتحقيق الريادة من خلال ثقافتنا وتوسيع شبكة علاقاتنا ورفع مستوى أدائنا".

لكن هذه الدعاوى النبيلة لا تقدم أي إرشادات للموظفين بشأن توجهات شركتهم. ولا عجب أن يدّعي الموظفون في الكثير من الشركات أنهم لا يعرفون استراتيجية مؤسساتهم أو لا يفهمونها. وقد كشفت إحدى الدراسات الأكاديمية الحديثة عن تردي الأوضاع في كل الشركات فيما يخص هذه الجزئية، حتى إن هذه الدراسة توصّلت إلى أن 29% فقط من موظفي الشركات العالية الأداء التي لديها استراتيجيات واضحة المعالم يعرفون استراتيجية شركاتهم. وبالمثل، فقد توصل استقصاء أجريتُه في 5 شركات أوروبية عام 2019 إلى أن 35% فقط من الموظفين يدّعون أنهم يعرفون استراتيجية شركاتهم وقال أقل من 20% إنهم يفهمون سبب اتباعهم للاستراتيجية التي تم إبلاغهم بها.

وتختلف الاستراتيجية كلياً وجزئياً عن الطموحات أو الأهداف النهائية أو الأمنيات. فالاستراتيجية هي مجموعة من الخيارات التي لا يمكن التراجع عنها، ويستوجب الإعلان عن الاستراتيجية شرح ماهية هذه الخيارات وأسباب اعتمادها دون غيرها. وخير مثال على ذلك الاستراتيجية الجديدة التي تم اعتمادها استجابةً للزعزعة الرقمية مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة من قبل شركة دي بي جي ميديا غروب (DPG Media Group)، وهي شركة إعلامية رائدة في بلجيكا وهولندا. كانت سوق الصحف الورقية وغيرها من وسائل الإعلام التقليدية المطبوعة والمسموعة تتعرّض لخسائر فادحة جرّاء ظهور المنصات الرقمية العملاقة، مثل جوجل وفيسبوك، وتفضيل كلٍّ من العملاء والمعلنين للعروض الرقمية واتجاههم إليها بأعداد كبيرة. وكانت قصة غلاف مجلة ذي إيكونومست في أغسطس/آب 2006 بعنوان "مَنْ قتل الصحف الورقية؟" (Who killed the newspaper?) تمثل المزاج السائد في ذلك الحين.

خطّط الرئيس التنفيذي السابق للشركة ورئيس مجلس إدارتها حالياً، كريستيان فان ثيلو، لتنفيذ عملية إنقاذ بالتعاون مع أفضل 10 مدراء ومحررين لتطوير استراتيجية الشركة الجديدة. ووفقاً لفان ثيلو، فإن نقطة الانطلاق للاستراتيجية هي تحديد النشاط التجاري الذي تنخرط فيه الشركة أو الذي يجب أن تنخرط فيه، وهي نقطة أثارها أيضاً الأستاذ ديريك أبيل منذ أكثر من 40 عاماً. لذلك، كان من الضروري أن تقرر شركة دي بي جي ميديا ما إذا كانت تريد البقاء في مجال الصحافة الاحترافية أو الخروج من مجال العمل تماماً.

ووفقاً لفان ثيلو، كان هذا يعني الإجابة عن السؤال الآتي: "هل هناك مستقبل للصحافة الاحترافية العالية الجودة؟ وهل نعتقد أن القرّاء في العصر الرقمي سيرغبون في الحصول على المعلومات والترفيه والإلهام من وسائل الإعلام الاحترافية، أو أن السوق تتجه إلى صحافة الهواة والمدونات والمؤثرين؟". أجاب الفريق عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو ما أدى على الفور إلى تركيز شركة دي بي جي ميديا على الصحافة الاحترافية واستثمار مواردها فيه وإعادة ابتكار العصر الرقمي بدلاً من الخروج منه، كما فعل الكثير من منافسيها في ذلك الحين.

ووفقاً لفان ثيلو، فقد كان هذا أهم قرار اتخذته الشركة في تاريخها كله. وكان يمثل في ذلك الحين مغامرة شديدة الخطورة. ويستخدم هذا القرار منذ ذلك الحين دائماً كنقطة انطلاق لشرح سبب وجود الشركة وأسباب اتخاذها القرارات الاستراتيجية التي يشهدها الموظفون كل يوم.

وبمجرد اتخاذ القرار بالتركيز على الصحافة الاحترافية، كان السؤال الذي يطرح نفسه هو: "ما الذي يتعين علينا فعله للنجاح في الصحافة الاحترافية في العصر الرقمي؟". وكانت الإجابة هي أن الحجم سيشكّل عنصراً شديد الأهمية. ووفقاً لفان ثيلو:

"لم نتحدث قطّ عن الحجم من قبل لأننا كنا نتنافس مع منافسين محليين. أما الآن فقد أصبح علينا فجأة أن نتنافس مع جوجل وفيسبوك. لذلك كنا بحاجة إلى أن نتوسّع بالقدر الكافي حتى يضعنا المعلنون والمستهلكون في اعتبارهم على غرار ما يفعلون مع جوجل وفيسبوك. وهذا يعني أنه كان علينا أن نكون مؤسسة رائدة على المستوى المحلي للوسائط المتعدّدة من دون منازع حتى يفكر الناس في التعامل مع جوجل وفيسبوك ثم يفكرون في التعامل معنا نحن".

أدت الحاجة إلى الحجم إلى ظهور خيارين رئيسيين آخرين أمام شركة دي بي جي ميديا. أولاً: ما الدول التي تتنافس فيها؟ لا يمكنها أن تتوسّع في الكثير من الأسواق بسبب محدودية مواردها. وبالنظر إلى صِغَر حجمها نسبياً، كان عليها أن تتجنب الأسواق الكبيرة التي ستعمل فيها شركات عملاقة، مثل جوجل. ومن ثم قرروا التركيز على منطقتين جغرافيتين فقط، بلجيكا وهولندا. ثانياً: قرروا الدخول في عمليات استحواذ للنمو بسرعة والوصول إلى الكتلة الحرجة من حيث الحجم. وكان هذا شيئاً جديداً على الشركة. فلطالما نمت اعتماداً على نفسها في الأيام الخوالي، ولكنها أصبحت الآن مضطرة للجوء إلى عمليات الاستحواذ لتحقيق النمو. ولكن نظراً لتأكيدهم على جودة الصحافة، حيث يُتوقع من المستهلكين دفع اشتراكات معينة للوصول إلى هذه الصحافة، فإن عمليات الاستحواذ كانت تستهدف شركات إعلامية تعتمد عائداتها على الاشتراكات أكثر من اعتمادها على الإعلانات. ووفقاً لفان ثيلو: "إذا كانت عملية الاستحواذ المحتملة تستهدف شركة تعتمد على الإعلانات لتحقيق الأرباح، فسأرفضها بكل تأكيد".

أدت الحاجة إلى الحجم والتركيز على إيرادات الاشتراكات إلى تفكير الشركة في خيار آخر يتمثل في التركيز على العلامات التجارية الرائدة في السوق (أو العلامات التجارية القوية كما يسمونها) واستبعاد الاستثمار في العلامات التجارية المتدهورة أو بيعها. وتمت إعادة ابتكار العلامات التجارية التي بقيت في المحفظة الاستثمارية بما يناسب العصر الرقمي، فتم تحويل الصحف والمجلات إلى وسائط إخبارية إلكترونية وخدمات بث مباشر متطورة عبر الإنترنت للقنوات التلفزيونية ومدونات صوتية لشبكات المحطات الإذاعية، بالإضافة إلى الخدمات الجديدة عبر الإنترنت المكملة للأعمال الإعلامية التي تم بناؤها، مثل منصات الوظائف والسيارات. وكلما اضطررت إلى اتخاذ قرار بشأن تقديم منتج جديد من عدمه، كنتُ أحدد قراري من خلال التساؤل حول ما إذا كانت إضافة المُنتَج الجديد ستدعم رسالة الشركة الجديدة التي أصبحت فيما بعد أفضل شركات الوسائط المتعدّدة على المستوى المحلي في الدول التي اختارت المنافسة فيها.

كان الاختيار الأخير الذي يتعين القيام به يتمثّل في كيفية تنفيذ كل هذا. وقد اختارت الشركة الالتزام بتنفيذ نموذجي عمل. وبالنسبة لعلاماتهم التجارية المتميزة، فقد استهدفوا العملاء الأثرياء وقدموا لهم محتوى خالياً من الإعلانات من خلال النموذج القائم على الاشتراكات. وبالنسبة لعلاماتهم التجارية في السوق العامة، فقد اختاروا نموذجاً مجانياً يعتمد في الغالب على عائدات الإعلانات. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اختاروا اعتماد استراتيجية تحوّل مزدوجة: الاستمرار في زيادة حجم الشركة من خلال الاكتفاء بتنفيذ عمليات الاستحواذ التي تمتلك القدرة على التأثير في القوة السوقية للشركة في السوق المحلية مع إعادة ابتكار جوهر العصر الرقمي وتطوير خدمات رقمية جديدة.

تدور الخيارات التي لا يمكن التراجع عنها التي كان على شركة دي بي جي ميديا مراعاتها حول 3 قضايا: لماذا نحن موجودون، وماذا نفعل، وكيف نفعل ذلك؟ قد لا تكون هذه قائمة شاملة من الخيارات التي يجب اتخاذها، ولكن اتخاذ هذه الخيارات الثلاثة سيقطع شوطاً طويلاً نحو تحديد استراتيجية المؤسسة. ولا تتمثل المشكلة الحقيقية التي تواجهها أغلبية المؤسسات فيما إذا كانت بحاجة إلى اتخاذ 3 أو 4 أو 5 خيارات، ولكن في كيفية جعل كبار مدرائها يتخذون أي خيارات في الأساس! ولا يتمثّل أكبر خطأ استراتيجي ترتكبه المؤسسات في إغفالها خياراً أو خيارين عند صناعة القرار، بل في أنها لا تتخذ خيارات على الإطلاق، وهو الشيء الذي ألمح إليه مايكل بورتر منذ زمن طويل.

ولكي تنجح أي مؤسسة، يجب عليها أولاً اتخاذ الخيارات الصعبة التي تتطلبها الاستراتيجية ثم إبلاغ الموظفين بهذه الخيارات بطريقة فاعلة. وللأسف، فإننا إذا ألقينا نظرة على ما تنشره الشركات في تقاريرها السنوية أو استشهدنا بما يقوله الرؤساء التنفيذيون في المؤتمرات التي تعقدها الشركات، فسنجد أن الجزء الأكبر من عملية التواصل يركّز على أهداف المؤسسة وتطلعاتها بدلاً من خياراتها. ويؤدي هذا الأسلوب في التواصل مع الموظفين إلى إرباكهم وتخبطهم هنا وهناك في الظلام الدامس، ويحد من ارتباطهم العاطفي بمؤسستهم. وقد يؤدي بذل المزيد من الجهد لتحسين أسلوبنا في الإعلان عن الاستراتيجية إلى فوائد كبيرة في كيفية تنفيذ الموظفين لاستراتيجيتنا.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي