فلنفرض أنك تحضر اجتماعاً يشهد طرح فكرة جديدة تخالف الممارسات المعيارية المألوفة في شركتك إلى حدٍّ بعيد. يبدو صاحب الفكرة واثقاً من جدواها، لكن سرعان ما يخبو صوته وسط حالة الصخب الناجمة عن الآراء المتضاربة التي تتراوح بين رفض الفكرة رفضاً قاطعاً والحماس الشديد لدعمها. فكيف تخرج من هذه الضوضاء بنتيجة مُرضية؟ وما هي الأهمية التي يجب أن توليها لكلٍّ من هذه الآراء؟ وما الذي يوحي به هذا الخلاف حول جدوى الفكرة؟
استعرضنا في تقرير بحثي نشرته مؤخراً مجلة نيتشر هيومان بيهيفيور (Nature Human Behavior)، أسباب اختلاف الناس حول قيمة الأفكار. ولاحظنا من خلال مجموعة من الدراسات القائمة على التجارب وتحليل بيانات الأرشيفات والسجلات أن حداثة الفكرة تزيد الخلاف على قيمتها المتصورة.
لاحظنا أيضاً أن الناس غالباً ما يفسرون الاختلاف في الرأي بحد ذاته على أنه علامة على أن الفكرة محفوفة بالمخاطر، ما يحد من إيمانهم بقيمتها ويقلّل من رغبتهم في دعمها. المشكلة أن هذه العلاقة بين حداثة الفكرة والخلاف على قيمتها تمثّل عائقاً أمام الابتكار، إذ تجعل الأفكار الإبداعية تبدو أقل جاذبية. لكن فهم سبب هذه المشكلة يتيح فرصاً حقيقية لمعالجتها. ونعمل على تقييم النتائج التي توصلنا إليها لاقتراح استراتيجيات مدعومة بالأبحاث من أجل مساعدة فريقك على التوصل إلى إجماع عند تقييم الأفكار الجديدة.
أثر المعايير في تصوُّر قيمة الأفكار
عرَّفت الأبحاث السابقة الإبداع بأنه "كل جديد مفيد"، وعرَّفت الجديد بأنه الفارق بين العروض أو الممارسات الحديثة والحالية. وكلما كانت الفكرة أحدث، ازدادت صعوبة مقارنتها بالوضع القائم فعلياً. بعبارة أخرى، كلّما كانت الفكرة أحدث، قلت احتمالات وجود نقطة مرجعية أو معايير مألوفة لتقييمها.
وفي غياب نماذج التقييم أو المعايير الواضحة، سيضطر كل شخص إلى وضع نموذجه أو معياره الخاص والتفكير في مخاطر أو فوائد محتملة تختلف عن تلك التي يفكر بها الآخرون. قد يؤدي هذا إلى التوصل لاستنتاجات متباينة حول قيمة فكرة واحدة. وأشرنا في بحثنا إلى أن ازدياد حداثة الفكرة يؤدي إلى ازدياد عدد المعايير المختلفة المستخدمة في تقييمها، ما يسفر بدوره عن ازدياد تباين الآراء حول قيمتها.
المقارنة بين الحداثة والقيمة
أجرينا 5 دراسات لاختبار فرضياتنا. استخدمنا في الدراسة الأولى 1,088 خطاباً ترويجياً من البرنامج التلفزيوني الواقعي، شارك تانك (Shark Tank)، لعرض أفكار مشاريع تجارية، وطلبنا من 1,927 مشاركاً أميركياً تصنيف حداثة الأفكار التي تنطوي عليها هذه الخطابات الترويجية. وبعد اختيار أكثر الأفكار حداثة، والبالغ عددها 250 فكرة، وأقلها حداثة، والبالغ عددها أيضاً 250 فكرة، طلبنا من 1,000 مشارك أميركي جديد تصنيف قيم الأفكار المعروضة. ومثلما توقعنا، فقد وجدنا أن ازدياد حداثة الفكرة المعروضة أدى إلى ازدياد مساحة الاختلاف حول قيمتها المتوقعة.
ثم درسنا الدرجات التقييمية التي منحها الجمهور للأفلام المعروضة في مهرجان صن دانس السينمائي (Sundance Film Festival) من عام 2015 إلى عام 2022. يضم المهرجان العديد من فئات الأفلام، منها الأفلام الكلاسيكية مثل الأفلام الوثائقية الأميركية والعالمية، والأفلام التجريبية مثل قسم "نكست" (NEXT) للأفلام التي تستخدم أساليب السرد القصصي المبتكر، وقسم "ميدنايت" (Midnight) الذي يضم أفلاماً "خارج التصنيف". راجعنا تصنيفات الجمهور لـ 523 فيلماً حظي كلٌ منها بأكثر من تقييم شخص واحد من الجمهور، وأكدت نتيجة هذه المراجعة مجدداً صحة فرضيتنا؛ إذ وجدنا أن مجموعات الأفلام الأكثر حداثة شهدت تبايناً أكبر في القيمة المُدرَكة للأفلام أو تقييمها.
مشكلة تباين النماذج المستخدمة في تقييم الأفكار
عملنا بعد ذلك على تقييم أثر نماذج التقييم المشتركة أو المتباينة على آراء الناس في قيمة الأفكار. قسّمنا في دراستنا الثالثة 200 مشارك أميركي إلى مجموعتين، وطلبنا من أفراد كلٍّ منهما تقييم لوحات رسمها فنانان من مجتمع مختلف تماماً عن المجتمع الأميركي ويتمتع بقيم ثقافية وجمالية مختلفة. شاهدت المجموعة الأولى لوحات فنية نالت شهرة واسعة في هذا المجتمع للفنان "أ"، في حين شاهدت المجموعة الثانية لوحات للفنان "ب"، ثم شاهدت كل مجموعة 20 لوحة فنية تحتوي على مزيج من أعمال الفنانَين. طلبنا بعد ذلك من أفراد المجموعتين تقدير القيمة الفنية للوحات التي شاهدوها. وجدنا أن كل مجموعة رأت أن اللوحات التي رسمها فنانها النموذجي هي الأعلى قيمة وأن اللوحات التي رسمها الفنان الآخر أقلها قيمة، ما يؤكد صحة نظريتنا التي تقول إن اختلاف النقاط المرجعية عند التقييم يؤدي إلى تباين تقديرات القيمة، حتى عند تقييم الأعمال الفنية نفسها.
أجرينا دراسة أيضاً لمعرفة أثر ربط القيمة بالحداثة على تباين تقييم الأفكار؛ ففي تجربتنا الرابعة، طلبنا من 200 مشارك أميركي لديهم خبرة في العمل بمجال الضيافة تقييم 19 فكرة شطيرة جديدة للغاية و19 فكرة شطيرة جديدة بعض الشيء، وكنا قد حددنا مدى حداثتها استناداً إلى استقصاء سابق. قسّمنا المشاركين إلى مجموعتين: مجموعة الضبط ومجموعة القيمة المستندة إلى الحداثة، وطلبنا من كلتا المجموعتين تقدير قيمة الشطائر، ولكننا طرحنا على أفراد مجموعة القيمة المستندة إلى الحداثة السؤال الآتي: "ما هو مدى نجاح هذه الشطيرة ضمن قائمة المأكولات بمطعم متخصص في أفكار الشطائر المبتكرة التي لم يجربها أحد من قبل؟".
لاحظنا وجود تباين كبير في تقدير قيمة أفكار الشطائر في مجموعة الضبط، وهو ما يتفق مع نتائج دراساتنا الأخرى، لكننا لاحظنا اختفاء هذا الأثر في المجموعة التي طلبنا منها تقييم الشطائر التي يقدمها مطعم يركز على أفكار الشطائر المبتكرة، ما يشير إلى أن تزويد الناس بمعايير واضحة للتقييم يقلص التباين في تقديرهم لقيمة الأفكار الجديدة. وانخفض تباين التقييمات بدرجة أكبر عندما تضمنت مجموعة الضبط أشخاصاً يعملون في المطاعم على وجه التحديد، ما يقدّم دليلاً إضافياً على أن وجود سياق مشترك ونقاط مرجعية يسهم في الحد من الخلاف حول القيمة المدركة.
أثر اختلاف الرأي على التقييم
أخيراً، اخترنا 401 مشارك أميركي لديهم خبرة في الاستثمار لاختبار أثر اختلاف الرأي أو تباين التقييمات في حد ذاته على القيمة المدركة. أخبرناهم بأننا سنطلب منهم تقييم استعدادهم للاستثمار في مُنتَج إلكتروني مبتكر، لكنهم سيتلقون أولاً تقييمات للمنتج من أصدقائهم المقربين ومستشاريهم. وكانت التقييمات المقدمة لإحدى المجموعات شديدة التباين، حيث أعطى بعض المستشارين درجة عالية جداً للمنتج، في المقابل أعطاه البعض الآخر درجة منخفضة، في حين كان التباين في تقييمات المجموعة الأخرى محدوداً؛ إذ وجد معظمهم أن المنتج ذو قيمة متوسطة. طلبنا من المشاركين بعد ذلك تقييم جدوى هذا الاستثمار واحتمالات تنفيذهم له فيه ومخاطره من وجهة نظرهم، ومدى حداثة المنتج أو تفرده.
كان المشاركون في المجموعة التي حصلت على تقييمات متباينة جداً للمنتج أقل استعداداً للاستثمار فيه واعتبروا أن مخاطره كبيرة، على الرغم من أن كلتا المجموعتين اعتبرت الفكرة جديدة بالقدر نفسه، وهو ما يؤكد صحة فرضيتنا، كما يؤكد أيضاً صحة نظريتنا التي تقول إن تباين التقييمات أو اختلاف الرأي بحد ذاته، لا حداثة الفكرة فقط، يقلّل استعداد الناس للاستثمار فيها.
يدعم بحثنا فكرة أن اختلاف نماذج التقييم يؤدي إلى اختلافات كبيرة في تصور القيمة المحتملة للفكرة الواحدة، وأن الخلاف الناجم عن اختلاف الآراء حول القيمة يؤدي أيضاً إلى تقييمات سلبية للأفكار الجديدة. إذاً، كيف يتعامل المدراء مع هذا الاختلاف في الرأي ويحفزون مَن يقيّمون الأفكار الجديدة على توحيد معاييرهم؟ إليك المقترحات الآتية:
كيف تصل إلى الإجماع؟
قد يكون من المغري أن تفسر تضارب تقييمات جدوى فكرة معينة بأنه إشارة إلى أن الفكرة سيئة ويجب رفضها؛ ولك أن تتخيل الخلاف الذي دار في قاعة اجتماعات شركة ثري إم (3M) عندما اقترح سبنسر سيلفر صناعة منتج بمادة لاصقة ضعيفة للغاية (أصر سيلفر على تنفيذ فكرته، ما أدى إلى اختراع أوراق الملاحظات اللاصقة).
بيد أن النظر إلى اختلاف الرأي باعتباره علامة على الغموض، لا السلبية، قد يساعدك أيضاً على رؤية كلٍّ من الفرص والمخاطر الخفية. ونقترح استخدام تضارب التقييمات باعتبارها إشارة إلى أنك بحاجة إلى استكشاف المعايير التي يعتمد عليها من يقيّمون الأفكار.
اجمع المعلومات عن النقاط المرجعية للمُقيِّمين
اطرح على المُقيِّمين أسئلة، مثل: ما هي الأفكار التي تقارنون على أساسها هذه الفكرة الجديدة؟ ما هي الأسس التي استندتم إليها لاعتبار هذه النقاط المرجعية ناجحة أو غير ناجحة؟ ما هي معايير نجاح هذه الفكرة؟ وما هي معايير فشلها؟
وبمعرفة المعايير التي يستند إليها المقيِّمون، يمكنك تكوين رؤية أفضل حول مدى توافقها مع المقترح الجديد. هل بعض الأحكام متحيزة، مثل الحالة المزاجية للمقيّمين أو غيرها من العوامل التي لا علاقة لها بتقدير قيمة الفكرة؟ بمناقشة كيفية تقييم الفرد لشيء ما، بدلاً من الاكتفاء بتقييم رأيه، يمكن فتح المجال أمام إجراء محادثات بنّاءة ومساعدة الفرق على تحديد أهم المعايير أو أكثرها ارتباطاً بموضوع الفكرة المطروحة للنقاش.
أثبتت أبحاث سابقة أن الأفراد يفترضون أن الآخرين يفكرون مثلهم، لكن هذه الفرضية يجانبها الصواب غالباً. وبتحديد مواطن القوة والضعف في مختلف الرؤى والتصورات، يمكن للمقيّمين استخدام أسلوب المناقشة للوصول إلى إجماع على أهم العوامل ذات الصلة للاستفادة منها في تقييم الأفكار الجديدة.
ضع معايير محدَّدة لخوض مناقشات مركَّزة
ثمة طريقة أخرى للوصول إلى إجماع، وهي وضع معايير محدَّدة وتعميمها مسبّقاً. اطلب من الموظفين تقييم الفكرة استناداً إلى عوامل محددة، مثل مواطن القوة والضعف اللوجستية أو المزايا مقارنة بالعروض الحالية. هل ثمة دراسات حالة يمكنك تعميمها مسبّقاً فيما يتعلق بمواطن قوة هذه الفكرة الجديدة أو ضعفها؟ من المؤكد أن طرح نقاط مرجعية مشتركة يساعد على خوض مناقشات مركَّزة.
يمكنك أيضاً عقد اجتماعات منفصلة بهدف تركيز المحادثات على جوانب محدَّدة؛ إذ يمكنك، مثلاً، تخصيص اجتماع لمناقشة الجدوى اللوجستية أو التكاليف المحتملة للفكرة الجديدة، في حين يمكنك تخصيص اجتماع آخر لمناقشة أثر الفكرة الجديدة على كفاءة الأداء أو تحسين العلاقات مع العملاء. يسهم إجراء تقييمات مركَّزة من خلال وضع معايير محدَّدة، بدلاً من تركها مفتوحة أمام مناقشات واسعة النطاق، في زيادة تركيز التقييمات وتعظيم الفوائد المرجوَّة منها.
الأفكار الإبداعية مهمة للحفاظ على القدرة التنافسية للشركات ومساعدتها على النمو والتكيف مع المتغيرات، كما أن تنوع الآراء لا يقل عنها أهمية. ولمّا كانت دراستنا تركز على أثر تباين المعايير في قتل الأفكار الجديدة، فإن أحد قيود دراستنا هو أنها لا تتناول الطرف الآخر من معادلة التفكير الجماعي الذي قد يشهد عرقلة الأفكار الجديدة بسبب توافق رؤى المقيّمين أكثر من اللازم؛ فقد تؤدي المناقشات الجماعية إلى تحفيز الأفراد على التقارب أكثر من اللازم، لكن موضوع هذا البحث يتناول الأحكام التي يصدرها الأفراد على قيمة الأفكار بمعزل عن تأثير الآخرين. ويقدم بحثنا نتائج مفيدة للمدراء الذين يعانون تباين الآراء الشديد حول الأفكار الجديدة والاختلاف الواسع النطاق على جدواها، كما يوفر حلولاً لكيفية تحفيز الموظفين على توحيد معاييرهم، ما يتيح المجال أمام تقديم تقييمات هادفة للأفكار الجديدة.
وبفهم أسباب اختلاف الأفراد حول قيمة الأفكار الإبداعية، يمكن توقُّع المواقف التي يعجز فيها الفريق عن الوصول إلى إجماع. وحينما يدرك المسؤول عجز فريقه عن الوصول إلى إجماع، عليه أن يعلم أن هذه إشارة لضرورة استكشاف الأسباب التي يستند إليها مختلف المقيّمين وتقييمها وتقدير فعاليتها، ما سيساعد على تسهيل صناعة قرارات مدروسة تسهم في التغلب على ما يمكن أن يكون عائقاً حقيقياً أمام الابتكار.