ملخص: مع انتشار جائحة "كوفيد-19"، ازداد استخدام تقنيات الرعاية الصحية عن بعد بدرجة كبيرة، ما يحمّل الأطباء أعباء أكبر من طاقاتهم بسبب متطلبات تقنية المعلومات الصحية وأنظمة السجلات الصحية الإلكترونية تحديداً. لذا، يجب تصميم قدرات التقنيات المستقبلية للرعاية الصحية عن بعد مع مراعاة احتياجات الأطباء، وذلك من أجل زيادة تفاعل الأطباء مع تقنيات الرعاية الصحية، ما يضمن تحسين الرعاية التي يحصل عليها المرضى من دون المساهمة في زيادة الاحتراق الوظيفي لدى الأطباء.
يشهد القطاع الطبي عملية تحول كبيرة قوامها مزيج من التشريعات ومحاولات التكيف السريع مع المستجدات. وبدا هذا التوجه أكثر وضوحاً من خلال عملية التوسع السريع الذي شهدته خدمات الرعاية الصحية عن بعد. ففي مراجعة لنحو 16.7 مليون زيارة طبية أجريت ما بين شهري يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران من عام 2020، تم الكشف عن زيادة كبيرة بنسبة 2,000% في زيارات المرضى لتلقي خدمات الرعاية الصحية عن بعد، وبالنسبة لبعض مرضاي، كانت إمكانية إجراء زيارة للطبيب عبر جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الذكي ذات أثر مفصلي في حياتهم. وعلى الرغم من أن جائحة "كوفيد-19" تسببت بظهور بعض أقسى التحديات، فمن الواضح أنها جلبت أيضاً بعض أفضل الميزات إلى مؤسسات الرعاية الصحية، المتمثلة في المرونة والقدرة على التكيف والابتكار.
ومع ذلك، لا نعرف بعد الأثر الكامل لتقديم خدمات الرعاية الصحية عن بعد. هل ستكون مفيدة للمرضى؟ بالنسبة للبعض، ستعني الحصول على الرعاية التي كانت مستحيلة لأسباب تتمثل في القيود المفروضة على التنقل والمسافات البعيدة وغيرها من التكاليف الباهظة. لكنها تنطوي على مخاطر تشمل احتمال عدم التوصل إلى نتائج التشخيص والفحص السريري التقليدية. هل ستكون مفيدة للأطباء المنوط بهم تقديم خدمات الرعاية الصحية؟ بالنسبة للبعض، ستعني الراحة من عناء التنقل في المواصلات إلى مكان العمل والطمأنينة التي يمنحها العمل عن بعد في أثناء الجائحة. لكن الدراسة التي أجريت على أكثر من مليون زائر عبر الإنترنت كشفت أن تبني نهج الرعاية الصحي عن بعد يجعل عدد ساعات العمل الأسبوعية أكبر بحوالي الضعف، مع اضطرار الأطباء إلى أداء الجزء الأكبر من العمل ليلاً وفي أثناء عطل نهاية الأسبوع، في حين تستمر التساؤلات حول عواقب تقديم خدمات الرعاية الصحية عن بعد فيما يخص دعاوى سوء الممارسات الطبية. بالطبع، يعتبر التبني واسع النطاق لخدمات الرعاية الصحية عن بعد هو وليد الحاجة الماسّة، لكن إذا كانت الحاجة أم الاختراع، فهل جميع الاختراعات مفيدة؟ قد يعتمد الجواب على تصورنا للنجاح.
المسار الأقل مقاومة
يمكن ملاحظة هذا التوتر في تطور السجلات الصحية الإلكترونية (EHR). فعلى الرغم مما تعد به، كان تبنّي السجلات الصحية الإلكترونية محدوداً في مراحله الأولى نظراً لتكاليف التقنية الباهظة وانخفاض نسبة استخدامها. لذا، سعى قانون تكنولوجيا المعلومات الصحية للصحة الاقتصادية والسريرية، والتي يرمز إليه اختصاراً بكلمة (هايتك HITECH)، لحل مشكلة انخفاض استخدام هذه التكنولوجيا من خلال التشريعات. ونجح القانون في ذلك، فبحلول عام 2017 كانت نسبة 96% من المستشفيات في الولايات المتحدة تتبنى أنظمة معتمدة للسجلات الصحية الإلكترونية. لكن إحدى العواقب غير المقصودة لهذا التبني السريع هي أن السجلات الصحية الإلكترونية، التي أنشئت أساساً كمحفز لتحسين الرعاية الصحية المقدمة للمرضى ورفاهة الأطباء، أصبحت مصدراً أساسياً لكآبة الأطباء. وصفت هذه الظاهرة في دراسة أجريت مؤخراً لتقييم إمكانية استخدام السجلات الصحية الإلكترونية بواسطة مقياس إمكانية استخدام النظام الذي يشار إليه بالاختصار (SUS)، وهو أداة معتمدة مصممة لقياس كفاءة النظم الإلكترونية وفاعليتها ودرجة الرضا عنها، حيث حصل محرك البحث من "جوجل" على درجة (A)، أي جيد جداً، في حين حصل فرن (المايكروويف) وجهاز الصراف الآلي (ATM) على درجة (B)، أي جيد. لكن بعد مرور 10 أعوام على تمرير قانون تكنولوجيا المعلومات الصحية للصحة الاقتصادية والسريرية، لا يزال المستخدمون النهائيون الرئيسيون لتقنيات السجلات الصحية الإلكترونية، أي الأطباء، يمنحونها تقييماً بدرجة (F)، أي سيئ.
الأهم هو أن استخدام تقنيات السجلات الصحية الإلكترونية مرتبط بدرجة كبيرة بالاحتراق الوظيفي الذي يعاني منه الأطباء. يقول الدكتور تيد ميلنيك، الطبيب الرئيسي في البحث ومدير برنامج زمالة نظم المعلومات السريرية بجامعة ييل: "من غير المفاجئ أننا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، فقانون تكنولوجيا المعلومات الصحية للصحة الاقتصادية والسريرية حفّز التبني السريع لتقنيات السجلات الصحية الإلكترونية. فسارع بائعو هذه التقنيات في طرح منتجاتهم في السوق طمعاً بالتأهل للحصول على الحوافز الفيدرالية. وبذلك، لم يكن لدى قطاع تقنية المعلومات الصحية الوقت الكافي لمعالجة مشكلة الاستخدام وتجربة المستخدم بصورة تلقائية. واليوم، نجد أمامنا أنظمة قوية لكن عتيقة وقد نقلت الرعاية الصحية إلى التشغيل الرقمي على حساب العلاقة بين الطبيب والمريض".
ومع مرور الوقت، أصبحت السجلات الصحية الإلكترونية أيضاً معقدة بصورة متزايدة. فمع ظهور كل مطلب إضافي، كالامتثال لمستلزمات إصدار الفواتير وزيادة أعداد المرضى، توسعت تقنيات السجلات الصحية الإلكترونية لتشمل قدرات جديدة. لكن لطالما افتقر تصميم هذه الأداة إلى مكون أساسي يتمثل في فهم كامل لطريقة تأثيرها على مقدمي الرعاية الصحية. وفي ظل غياب هذا التركيز، اتبع تطور هذه الأنظمة المسار الأقل مقاومة، وتحولت مسؤولياتها الإضافية إلى أعباء تثقل كاهل الأطباء. وبهذه الطريقة، لم تكن المشكلة هي أن السجلات الصحية الإلكترونية ليست مثالية، بل مواطن القصور فيها تؤثر على الأطباء بدرجة كبيرة.
وبعد 10 أعوام من تمرير قانون تكنولوجيا المعلومات الصحية للصحة الاقتصادية والسريرية، أصبح العمل من المنزل وفي عطلات نهاية الأسبوع، والذي يطلق عليه اسم "وقت ارتداء ملابس النوم"، معيارياً على نطاق القطاع الطبي، وأصبحت معاناة الأطباء من الاحتراق الوظيفي المترافق مع استخدام تقنيات السجلات الصحية الإلكترونية تمثل أسوأ أسرار قطاع الرعاية الصحية. وفي الحقيقة، 70% من الأطباء الذين يستخدمون تقنيات السجلات الصحية الإلكترونية يبلغون عن معاناتهم من الكآبة المرتبطة بتقنية المعلومات الصحية. وإذا كان القصد هو تحسين الرضا عن التفاعلات بين الطبيب والمريض، فهذه النتائج لم تتبلور بعد. في الحقيقة، تكشف دراسات الحركة والوقت أن الوقت الذي يقضيه الأطباء أمام شاشاتهم يعادل ضعف الوقت الذي يقضونه مع المرضى. وفي الأساس، فجر قطاع الرعاية الصحية بركاناً من المشكلات التقنية بسبب التعجيل بتطبيق حلّ تقني، ليقضي العقد التالي في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها.
ثورة الاتصالات الرقمية
مؤخراً، ازدادت سرعة ثورة الاتصالات الرقمية في قطاع الرعاية الصحية بدرجة كبيرة بفعل محاولات زيادة إمكانية حصول المرضى على خدمات أطبائهم ومعلوماتهم الطبية. وأكثر الأمثلة الشائعة هي بوابة المريض وخدمة سلة الرسائل الواردة "إن باسكت" (in-basket)، وهي أداة يمكن للمريض استخدامها لإرسال رسائل تصل مباشرة إلى صندوق البريد الوارد الخاص بالطبيب. أدى ظهور البوابات الرقمية للمرضى (patient portals) والمراسلة المباشرة مع الأطباء إلى رفع التوقعات بإتاحة الخدمة الفورية إلى درجة كبيرة، ما زاد من صعوبة توقف الأطباء عن العمل أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر. ليس من المفاجئ أن استلام عدد أكبر من المتوسط من رسائل المرضى المباشرة قد ترافق مع ارتفاع بنسبة 40% في احتمال إصابة الأطباء بالاحتراق الوظيفي. توضح الدكتورة كريستين سينسكي، نائبة رئيس قسم الرضا المهني في "الجمعية الطبية الأميركية"، أن خدمة الرسائل المباشرة "إن باسكت" تفرض قيدين على الأطباء يتمثلان بخلق "توقعات بأن يكونوا متاحين على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع للرد على مرضاهم، واضطرارهم للعمل بعد ساعات العمل المحددة من أجل إنهاء الأعمال المتراكمة عليهم".
وتقترح الدكتورة إجراء عملية إعادة تصميم جذرية للعمليات الحالية عن طريق التركيز على عدد من العوامل الأساسية، وهي وضع توقعات واضحة بشأن الأوقات التي يكون الأطباء متاحين فيها وطريقة استجابتهم؛ وإدارة الفريق لصندوق الرسائل الواردة. تعتبر تقنيات السجلات الصحية الإلكترونية أداة قوية وجديدة أيضاً، كما أن تطوير القواعد الثقافية فيما يخص استخدامها هو أمر أساسي في إدارة التوقعات. في هذه الأثناء قد يكون إشراك الممرضين والمساعدين الطبيين في إدارة صندوق الوارد أمراً حاسماً في المساعدة على فرز الحالات التي تحتاج إلى تدخل الطبيب وتمييزها عن الحالات التي يمكن إدارتها من دونه (مثلاً، تحويل الرسائل التي تضم وصفة طبية من صيدلية إلى أخرى). تتطلب هذه الخطوة فريقاً ثابتاً يملك الموارد الكافية، وتدريباً مستمراً. لكن، كما كان الحال من قبل، نجد أننا في سعي دائم لحل المشكلات ومحاولة تصحيح عيوب التصميم النظري المتأصلة في التشريعات وأنظمة السجلات الصحية الإلكترونية نفسها.
بدءاً من روبوتات الدردشة (شات بوت) وصولاً إلى أنظمة السجلات الصحية الإلكترونية الذكية، يمكن أن تساعد التقنيات الجديدة الواعدة في تخفيف أعباء العمل عن الأطباء. لكن، ومع عملنا لتخفيض حجم الرسائل التي تصل إلى صندوق الوارد، لاح لنا سؤال محوري، وهو: هل يجب علينا الاستمرار بالمسارعة بتنفيذ منتجات وتشريعات من دون اتباع مقاييس تحمي أكبر أصولنا قيمة وأكثرها هشاشة، أي العاملين في الرعاية الصحية أنفسهم؟ يرى الدكتور راتواني، مدير "مركز ميدستار هيلث الوطني" (MedStar Health National Center) للعوامل البشرية، أن هذا السؤال هو أحد أهم الأسئلة المحورية فيما يخص الابتكار في الرعاية الصحية. يقول: "تقدم التقنيات الجديدة في الرعاية الصحية إمكانات هائلة. لكن، كي تتمكن هذه التقنيات من توليد نتائج المرضى التي يرغب الجميع فيها، يجب أن تكون مصممة ومطورة ومطبقة مع مراعاة احتياجات المرضى والأطباء على حد سواء".
إعادة النظر في الابتكار
ستتميز الأعوام المقبلة في قطاع الرعاية الصحية بنظم للسجلات الصحية الإلكترونية أكثر تعقيداً، وتوفر إمكانية وصول رقمي متزايد للمرضى، وزيادة كبيرة في الطب الشخصي (personalized medicine)، وتبن واسع النطاق للذكاء الاصطناعي. وستكون جميعها أدوات لا يمكن الاستغناء عنها في العصر الجديد، وستنطوي جميعها على أمور مجهولة دائماً. ويستدعي الحرص على أن تؤدي هذه الأدوات الغرض المطلوب منها الخروج بتفكيرنا عن نطاق المسار الأقل مقاومة. إذ يجب أن تضمّ التدخلات الجديدة تصميماً مدروساً يأخذ في حسبانه تأثير الابتكار على جميع أصحاب المصلحة الأساسيين، ومنهم الأطباء. ينوه تيد ميلنيك إلى 6 مبادئ جوهرية لتصميم تقنية المعلومات الصحية تساعد على ضمان نجاحها، وهي:
ضع رعاية المرضى أولاً:
يمكن أن يساعد تذكر هذا الهدف الأساسي لتقنية المعلومات الصحية على ضمان بقائها آمنة وفعالة وتتمتع بالكفاءة.
اجمع فريقاً يتمتع أفراده بالمواهب الملائمة:
سيتطلب التصميم الناجح مساهمة مجموعة متنوعة من وجهات النظر والمهارات. وسوف يتطلب الأمر تفاعلاً حذراً بين الخبراء في نواحي العوامل البشرية والتمويل وصحة السكان ورفاهة الأطباء وغيرها من أجل ضمان فاعلية عملية الابتكار واستدامتها ودعمها لمختلف أصحاب المصلحة.
سل عن الأسباب بلا توقف:
السؤال عن سبب القيام بالأمور بطريقة معينة يساعد على ضمان ألا تُحتجز تقنية المعلومات الصحية في حلقة مفرغة يولدها العمل بالطريقة المعتادة.
التزم البساطة:
يمكن أن يساعد اتباع مبادئ العوامل البشرية في التوصل إلى تصميم تلقائي وسهل الاستخدام.
تبنّ العقلية الداروينية:
اختبر الابتكارات ولا تُبق إلا على أفضل الميزات في كل مرحلة.
لا تنشغل عن الكل بالجزء:
قيّم العواقب المحتملة غير المقصودة للتفاعلات البشرية والتقنية مع كل تعديل على التصميم.
وأضيف على هذه أمراً آخر.
استكشف المشكلات، لا الحلول:
عادة يركز تصميم الرعاية الصحية على تعزيز الحلول قبل التعرف على المشكلات الحقيقية. لذا، من الضروري في كل مرحلة من مراحل عملية التصميم أن تعيد تقييم المشكلات الأساسية التي يهدف الحل المقترح لمعالجتها. سيساعد ذلك في تفادي الوقوع في فخ صنع الحلول لأجل صنع الحلول.
وأخيراً، من الضروري بمكان أن تتذكر أن تقنيات الرعاية الصحية لا توجد في فراغ. لذا، يجب أن تنظر إلى القطاعات الأخرى التي طبقت تصاميم مرتكزة على المستخدم بنجاح. لا تنس أن أكثر من 40% من الأطباء يعانون من الاحتراق الوظيفي، وبذلك يتوقف الكثير من المسائل على نجاحنا في زيادة تفاعل الأطباء مع تقنيات الرعاية الصحية.