تُعد سلسلة التوريد في الولايات المتحدة بشكل عام جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الأميركي. وابتداء من أشباه الموصلات التي تنتجها شركة إنتل حتى برمجيات شركة مايكروسوفت المصممة للمؤسسات، فإنّ سلسلة التوريد تُقدم السلع والخدمات التي تحتاجها مؤسسات الأعمال. ولكن على الرغم من أهميتها، لم يُحدد أحد الصناعات التي تشكّل اقتصاد سلسلة التوريد في الولايات المتحدة أو يحدد عدد الوظائف التي تضمها ونوعيتها، أو يقيّم مدى أهميتها في مجال الابتكار. لقد حاولنا الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال إنشاء تصنيف جديد للاقتصاد الأميركي يكشف عن طرق جديدة للدفع بعجلة النمو والابتكار في أميركا.
يتميز اقتصاد سلسلة التوريد في الولايات المتحدة بأنه اقتصاد ضخم ومختلف. ويمثل هذا الاقتصاد الصناعات التي تقوم ببيع المنتجات والخدمات إلى مؤسسات الأعمال وإلى الحكومة، وذلك خلافاً للمجالات الصناعية التي تتم فيها عمليات البيع بين الشركات التجارية والمستهلكين (وهو ما يعرف بـ B2C)، أي التي تبيع منتجات وخدمات لأغراض الاستهلاك الشخصي. وتشمل سلسلة التوريد الأميركية 37% من جميع الوظائف، ويعمل بها 44 مليون شخص. ونسب الأجور في هذه الوظائف أعلى من المتوسط بشكل ملحوظ، وهي مسؤولة عن معظم الأنشطة الإبداعية في الاقتصاد. وتمثل الوظائف في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والتي يُرمز لها بـ (STEM)، وتُعد مؤشراً على القدرات الابتكارية وهي أعلى بنسبة خمس مرات تقريباً في اقتصاد سلسلة التوريد عن نظيراتها في الاقتصاد القائم على عمليات البيع بين الشركات التجارية والمستهلكين. كما يتركز تسجيل براءات الاختراع بشكل كبير في المجالات الصناعية التي تقع ضمن سلسلة التوريد.
لماذا تُعتبر صناعات سلسلة التوريد مصدراً للعديد من الوظائف ذات الأجور المرتفعة وللكثير من الابتكارات؟ يكمن أحد الأسباب في الروابط التي تجمع صناعات سلسلة التوريد بصناعات متعددة في مراحل الإنتاج الأولية والنهائية، ما يسمح للابتكارات المستجدة أن تتوزع وتنتشر عبر الاقتصاد ما يرجح زيادة قيمتها.
خذ أشباه الموصلات كمثال، وهي تكنولوجيا لها أغراض عامة وقد انتقلت من اختراع طورته إنتل ضمن سلسلة التوريدات إلى كافة الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية التي يمكن تخيلها تقريباً. ففي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، حددت اتفاقية الشراكة التي عُقدت بين الحكومة والقطاعات الصناعية تحت اسم سيماتيك (SEMATECH) الحواجز التقنية وطورت خارطة طريق لنشر تكنولوجيا أشباه الموصلات، فيما يعتبر من أكثر تدخلات السياسات الصناعية نجاحاً في السنوات الأخيرة. وفي الواقع، يُظهر تحليلنا أنّ أشباه الموصلات تُباع إلى أكثر من 60% من القطاعات الصناعية الأميركية.
إنّ النظائر الحديثة لأشباه الموصلات لا توجد في السلع فحسب، ولكن أيضاً في الخدمات وبشكل متزايد، مثل الحوسبة السحابية والبرمجيات المؤسساتية التي غيرت من طبيعة العديد من الصناعات. تُباع خدمات الحوسبة السحابية على سبيل المثال لأكثر من 90% من القطاعات الصناعية الأميركية، إذ تعتبر هذه الخدمات ضرورية للاقتصاد، إذ إنها تسمح لمؤسسات الأعمال بتخزين البيانات المهمة ومعالجتها والوصول إليها.
أهمية خدمات سلسلة التوريدات
بالنظر إلى مساهمة اقتصاد سلسلة التوريد في خلق الوظائف الابتكارية ذات الأجور الجيدة، من المهم أن نفهم بالتحديد ما هي الصناعات التي تشكل هذا القطاع الاقتصادي. إنّ الأمثلة التقليدية للموردين تشمل موردي أختام الصفائح المعدنية أو قوالب الحقن البلاستيكية – أي المنشآت التي تصنّع أجزاء لاستخدامها في الشكل النهائي للسلع. وكما نعلم جميعاً، فقد انخفضت نسبة العمالة الصناعية بشكل ملحوظ سواء في مجملها أو في سلسلة التوريد، ما تسبب في ضيق الكثيرين من الأميركيين وأدى إلى تكوّن نظرة تشاؤمية تجاه الاقتصاد. وقد ركزت استجابة واضعي السياسات على محاولة تقديم الحلول "لاسترجاع عمليات التصنيع".
غير أنّ هذا التصنيف التقليدي الذي يركز على التصنيع بدلاً من الخدمات ما يزال قاصراً، حيث يعمل 10% فقط من حجم العمالة في مجال التصنيع في حين يتركز 90% منها في مجال الخدمات. وهناك اعتقاد شائع بأنّ معظم الوظائف الخدمية هي مهن منخفضة الأجور مثل وظائف المطاعم أو متاجر التجزئة، في حين أنّ الوظائف الصناعية تكون عادة أجورها مرتفعة. لكن ليست كل الخدمات متشابهة، ففي تصنيفنا الجديد يمكننا فصل الوظائف الخدمية في سلسلة التوريد – ذات الأجور الأعلى - عن الوظائف الخدمية "الاعتيادية" التي تميل إلى أن تكون نسب الأجور فيها متدنية بشكل أكبر. وتشمل الوظائف الخدمية في سلسلة التوريد هذه العديد من مهن العمل المختلفة، بداية من مدراء العمليات إلى مبرمجي الكمبيوتر وصولاً إلى سائقي الشاحنات، وتشكل حوالي 80% من العمالة في سلسلة التوريد بمتوسط أجر سنوي قدره 63,000 دولار وتنمو بشكل سريع.
مع مواصلة عملنا ومحاولة التقدم خطوة للأمام، وضمن فئة خدمات سلسلة التوريد، قمنا بتحديد الفئة الفرعية للخدمات "التجارية" في سلسلة التوريد - أي تلك التي تُباع في شتى المناطق مثل الخدمات الهندسية والتصميم ونشر البرمجيات والحوسبة السحابية والخدمات اللوجستية وخدمات أخرى كثيرة. العاملون في هذه الفئة الفرعية يتقاضون أعلى الأجور وتبلغ كثافة تلك الوظائف في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ضمن اقتصاد سلسلة التوريد (80,800 دولار و19%)، بمتوسط أجور أعلى ثلاث مرات وبكثافة وظائف أعلى بنسبة 18 مرة من الوظائف الخدمية الاعتيادية، كما أنّ هذه الوظائف تنمو بسرعة أيضاً. ويعكس هذا النمو تطور العديد من الشركات الكبرى سواء في مجال التصنيع أو الخدمات على مدى العقود الماضية، ومن أمثلتها شركة آي بي إم وإنتل وديل وجنرال موتورز (جي إي) وغيرها.
تجعل بنية اقتصاد سلسلة التوريد لدينا نظرة تفاؤلية أكثر نحو الاقتصاد. وإذا ركزنا على دعم خدمات سلسلة التوريد، لاسيما في الشركات الصناعية المطروحة للتداول في البورصة، فقد تكون النتيجة هي خلق المزيد من الوظائف الابتكارية ذات الأجور المرتفعة في الولايات المتحدة.
الآثار المترتبة على السياسات
ماذا يعني هذا التصنيف الجديد بالنسبة للسياسات الاقتصادية؟ نورد فيما يلي ثلاث أفكار تركز على تحسين عملية وصول الموردين إلى العمالة الماهرة والمشترين ورأس المال.
أولاً، نحن بحاجة إلى الاستثمار في العمالة الماهرة. يقع غالبية العمال ضمن سلسلة التوريد في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وهي المجالات التي تعاني أميركا من نقص فيها. وفي حين أنّ العديد من الشركات تواجه صعوبات في العثور على العمالة الماهرة، فإنّ موردي الخدمات هم الأكثر عرضة للخطر لأنّ ابتكاراتهم تعتمد بشكل كبير على الوصول إلى المواهب والاحتفاظ بهم. ويمكن أن تكون سياسات الهجرة التي تتيح الوصول بصورة أكبر إلى هذه القاعدة العمالية ذات أهمية في هذا الصدد.
ثانياً، يجب علينا دعم التجمعات الصناعية الإقليمية. يقدم الموردون مدخلات للمنشآت، وبالتالي فهم يستفيدون بشكل كبير من الوجود مع المشترين ضمن تجمعات صناعية. ويُعتبر تحفيز دور المنشآت التي تدعم التجمعات الإقليمية وتعزيزه أحد طرق الارتقاء بالتعاون بين المشترين والموردين.
وأخيراً، يجب أن نضمن وصول الموردين إلى رأس المال. ففي الغالب يقدم موردو الخدمات التي تعتمد على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ابتكارات لا يمكن منحها براءات الاختراع، ما يجعل من الصعب رفع نسبة التمويل الخارجي. ووجود سياسات حكومية استباقية - من خلال منح ضمانات قروض أو دعم ائتماني للموردين - يُمكن أن يساعد في ضمان الوصول إلى رأس المال المستقر والناجع لهؤلاء الموردين ليتمكنوا من البدء والنمو.
لقد كشف التصنيف الجديد للمجالات الصناعية الأميركية عن وجود اقتصاد ضخم وديناميكي في سلسلة التوريد. وبشكل خاص، فإنّ لموردي الخدمات التأثير الأكبر في دفع عجلة الابتكار وخلق الوظائف ذات الأجور المرتفعة. وبدلاً من اتباع النهج الذي يعتمد فقط على "إعادة التصنيع"، يجب علينا أن نحوّل حلولنا المتصلة بالسياسات إلى التركيز على تنمية الوظائف الخدمية في سلسلة التوريد التي تدفع الاقتصاد الأميركي إلى الأمام.