لا يزال اقتصاد العمل الحر، حيث المستشارون المستقلون والموظفون بعقود والموظفون بنظام العمل الحر جميعهم ينجزون أعمالهم خارج نظام عمل الدوام الكامل، يغيّر الطريقة التي نؤدّي أعمالنا بها عن طريق الفصل بين العمل وبين المكتب. فما هو مستقبل العمل الحر؟
يطلب أصحاب العمل، ضمن اقتصاد الوظائف التقليديّة، من الموظفين الحضور إلى المكتب 5 أيام في الأسبوع بواقع 8 ساعات في اليوم. وفي المقابل، ينصبّ تركيز أصحاب العمل كلياً ضمن اقتصاد العمل الحر على الأداء لا على الحضور إلى المكتب. لا يهم إن كانت الفكرة التي ستحل مشكلة ما أو تلك التي ستأتي برؤية لخلق استراتيجية جديدة قد خطرت لصاحبها في منتصف الليل أو أثناء الاستحمام أو خلال جلسة يوغا. يقدّر أصحاب العمل في اقتصاد العمل الحر جودة نتائج عمل الموظف لا الطريقة التي اتبعها للوصول إلى تلك النتائج.
الدرس الأكبر أثراً الذي يمكن للشركات التقليدية تعلّمه من اقتصاد العمل الحر هو الحكم على العمال، بمن فيهم الموظّفون، بناء على نتائج عملهم وليس على الوقت أو المكان الذي أدوا أعمالهم فيه.
اقرأ أيضاً: الجدل القائم حول كيفية تصنيف العمال المستقلين يفتقر إلى الصورة الشاملة
فعالية العمل من المكتب
ليس هناك ولو دراسة واحدة أظهرت أن عمل الموظف في المكتب لثماني ساعات في اليوم وخمسة أيام في الأسبوع سيصل به إلى أقصى حد ممكن من إنتاجيته أو رضاه الوظيفي أو أدائه. فالحقيقة تقول إنّ أي بيانات موجودة متعلّقة بالعمل في المكتب تكشف أن معظم الموظفين غير منخرطين في العمل، ويضيعون الكثير من الوقت في المكتب دون عمل، وأنّ تدنّي أداء الموظف يبقى موجوداً على الرغم من حضور الإدارة. بل أسوأ من ذلك، فالتكاليف المباشرة للإبقاء على مكان العمل التقليدي في المكتب مرتفعة. وتقدّر شركة سي بي آر إي (CBRE) أنّ الشركة الاعتيادية في الولايات المتحدة تنفق أكثر من 12 ألف دولار أميركي سنوياً على كل موظف من أجل الحيز المكتبي. وكذلك فمن الصعب أن نجد حالة متعلقة بعائد الاستثمار المتأتي من الحيز المكتبي، والأصعب إيجاد شركة تمثل حالة مقنعة.
اقرأ أيضاً: هل أنت جاهز للانتقال إلى العمل الحر؟
كان التركيز على وقت وموقع الموظف أمراً منطقياً عندما كانت معظم الوظائف تعتمد على الوقت والمكان. يجب على عمال المصانع وأصحاب العمالة اليدوية والعمال في محال بيع التجزئة والمطاعم أو المستشفيات أن يوجدوا في مكان العمل خلال وقت معين حتى يكونوا منتجين. أما الموظفون من أصحاب المهارات المعرفية فلا يتعيّن عليهم ذلك. فمن غير المحتمل أن يكون المكوث في مكتب مغلق أو غرفة اجتماعات لحضور سلسلة غير منتهية من الاجتماعات عديمة الفائدة/المدارة بشكل سيئ هو الطريقة المثلى التي تتبعها الشركة لحل القضايا الاستراتيجية أو تلك المتعلّقة بالمنتجات. ومن غير المرجح كذلك أن تكون هذه الطريقة هي الأكفأ لبناء رسالتك التسويقية وإدارة شؤون مكتبك أو الحفاظ على أمن أنظمة معلوماتك. إنّ أعظم أفكارنا الخلاقة وأعلى مستويات إنتاجيتنا نصل إليها عادة خارج قيود أيام العمل الأسبوعي في الشركة وداخل المكتب.
برهنت الدراسة تلو الدراسة تلو الدراسة أن الموظفين المستقلين والعاملين عن بعد أكثر إنتاجية ورضا، كما أنهم ينخرطون في العمل أكثر من زملائهم المقيدين في المكتب. وجدت دراسات استقصائية أجراها مركز ماكنزي العالمي (McKinsey’s Global Institute) على 8,000 عامل، وفيوتشر وورك بليس آند فيلد نيشين (Future Workplace and Field Nation) على 900 عامل مستقل، أنّ الموظفين الذين حُرروا من قيود حياة المكاتب أظهروا مستويات أعلى من الرضا وحققوا إنتاجيّة أكبر. هذه النتائج ليست مفاجئة إن أخذنا بعين الاعتبار أن العمل عن بعد يُلغي الوقت الضائع في التنقل والضغط النفسي الذي يتسبب به الالتزام الدائم بسياسات المكتب وإضاعة يوم العمل على إثر آلاف المقاطعات الصغيرة والاجتماعات. ولكن بطريقة ما، وعلى الرغم من الدليل على المنافع الكثيرة للعمل المستقل والمرن، يبقى النهج القائم على العمل في المكتب لخمسة أيام في الأسبوع، والمكوث في المكاتب هو النهج الذي تستمر العديد من الشركات باتباعه.
ما سبب ذلك؟ يجيب المدراء والمسؤولون التنفيذيون في الموارد البشرية على هذا السؤال بسرديات وحكايات عن الثقة والتعاون وبناء الفريق، إلا أنهم لا يقدمون أي دليل على ذلك حتى من تجارب شركاتهم نفسها ليدعموا رواياتهم تلك. الدليل الموجود فعلياً يقول إنّ الثقة وفرق العمل الفعالة تُبنى في الأساس من خلال السلوكيات الشخصية والتواصل، وليس عن طريق المجاورة المستمرة المتأتية من العمل في الحيز المكتبي ذاته.
نظام العمل المكتبي مقابل نظام العمل عن بُعد
هناك سبب واحد، على أقل تقدير، للحفاظ على نهج العمل في المكتب الذي يتطلب أن يكون هناك موظفون يعملون فيه، وهو أن معظم المدراء يستمتعون بالعمل في شركة يدار موظفوها من خلال الوقت والمكان. لأنه من السهل على المدراء، في نهاية المطاف، معرفة من على مكتبه بين التاسعة والخامسة بمجرد النظر. وفي المقابل، فإنّه من الصعب تطوير وقياس وتقييم القيمة المحددة التي ينتجها كل موظف، وبالتالي يتوجب على المدراء أن يبذلوا جهداً أكبر في العمل ضمن نظام يركز على تتبع الأداء بدلاً من التركيز على الوقت الذي يمضيه الموظف على كرسيه في المكتب.
اقرأ أيضاً: لماذا يجب التعامل مع العمال المستقلين على أنهم جزء من الواقع والمستقبل؟
بدأ حل وسط بين نظام العمل المكتبي وبين نظام العمل عن بُعد بالنشوء. فقد أظهرت دراسات جديدة أنّ الموظفين الذين يبحثون عن العمل ضمن هيكلية تنظيمية تحاكي بيئة العمل في المكتب والراغبين بوجود الرفقة في العمل يكونون أسعد في أماكن العمل المشتركة مقارنة بالمكاتب التقليدية أو العمل من المنزل. فأماكن العمل المشتركة تمثّل خياراً يجمع بين أفضل الخصائص في النظامين؛ فقد أخذ هذا الخيار من نظام العمل عن بعد التحكم في الشؤون الخاصة للموظف والاستقلالية والمرونة في تحديد الجدول الزمني، وجمعها مع حرية الدخول الاختيارية إلى النظام الهيكلي للمكتب إن أراد الموظف ذلك ووقتما شاء. أما بالنسبة للشركات فإن أماكن العمل المشتركة تحول العقار التجاري إلى نفقة متغيّرة متاحة بتكلفة أقل.
كبيرة هي المكاسب التي تحصدها الشركات التي تقدم أولوية الأداء على أولوية الحضور إلى المكتب، وتتمثل في ارتفاع مستويات الإنتاجية والكفاءة ورضا الموظفين، وكذلك تجعل تركيز الإدارة ينصب على النتائج والمنجزات بدلاً من التركيز على قضاء الوقت في التفرج على الموظفين، وتبني ثقافة صحية في الشركة ترتكز بشكل أكثر وضوحاً على الجدارة والاستحقاق، وتجعل التكاليف المتعلقة بالعقار متغيرة، كما تقلل من التكاليف المتعلقة بالمرافق.
وفي نهاية الحديث عن مستقبل العمل الحر، العمل هو أغلى موارد الشركات وأعلاها قيمة. واتباع النهج الذي يركز على الوقت والمكان في إدارة هذا المورد هو نهج بدائي وغير كفؤ ومكلف، كما أنّ التجارب أثبتت عدم فعاليته. إن أكبر الدروس التي يمكن للشركات تعلمها من اقتصاد العمل الحر هي فصل العمل عن المكتب، وقياس أداء الموظفين بناء على الإنتاج وتأدية المهام وحل المشكلات، وليس بناء على عدد الساعات التي يمضونها في المكتب. ولنضع الأمر ببساطة، تحتاج الشركات إلى التوقف عن قياس الأمور غير المهمة والبدء بقياس تلك المهمة.
اقرأ أيضاً: كيفية اختيار الموظف المستقل للعمل