عندما أراد المسوقون في شركة اتصالات كبيرة العمل على تقليل خسارتها للزبائن، قرروا استعمال الذكاء الاصطناعي لتحديد أي الزبائن أكثر ميلاً إلى التخلي عن التعامل مع شركتهم. وبناء على التنبؤات التي وضعها الذكاء الاصطناعي، قصفوا الزبائن المعرضين لخطر ترك الشركة بالعروض الترويجية الهادفة إلى إغرائهم بالبقاء. ومع ذلك فإن العديد منهم تخلّى عن الشركة على الرغم من الحملة التي كانت قد أطلقتها للاحتفاظ بهم. فما هو السبب؟ كان المدراء قد ارتكبوا خطأ جوهرياً؛ أنهم طرحوا على الخوارزمية السؤال الخاطئ. فرغم أن تنبؤات الذكاء الاصطناعي كانت جيدة، إلا أنها لم تعالج المشكلة الحقيقية التي كان المدراء يحاولون التعامل معها.
ما زال هذا النوع من السيناريوهات شائعاً جداً في أوساط الشركات التي تستعمل الذكاء الاصطناعي كأساس للقرارات التجارية التي تتخذها. ففي استبيان أجرته مجلة "سلون مانجمت ريفيو" ومجموعة بوسطن الاستشارية عام 2019 وشمل 2500 تنفيذي، قال 90% من المشاركين إن شركاتهم قد استثمرت في الذكاء الاصطناعي، لكن أقل من 40% ذكروا أنهم كانوا قد حققوا مكاسب تجارية في السنوات الثلاث السابقة.
من مواقعنا كأكاديميين واستشاريين ومدراء غير تنفيذيين، درسنا أكثر من 50 شركة وقدّمنا لها المشورة، ودرسنا التحديات الرئيسة التي تواجهها في مَعْرِض سعيها إلى تسخير الذكاء الاصطناعي ليكون في خدمة عملية التسويق فيها. وقد سمح لنا هذا العمل بالتعرف على أكثر الأخطاء التي يرتكبها المسوقون تكراراً في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وتصنيف هذه الأخطاء ضمن فئات، واقتراح إطار للحيلولة دون الوقوع في شراكها.
دعونا أولاً نراجع هذه الأخطاء.
عندما يكون المدراء في طور تحديد المشكلة، فإنهم يجب أن ينزلوا إلى ما نسميه المستوى الذرّي – أي أدق مستوى يسمح باتخاذ قرار.
التناسق
الفشل في طرح السؤال الصائب
ما كان يجب أن يكون الهم الأساسي بالنسبة للمدراء في شركة الاتصالات التي نذكرها هو تحديد الزبائن الذين من المحتمل أن يتخلوا عن الشركة؛ وإنما كان ينبغي لهم تحديد السبيل الأنجح لاستعمال الدولارات المستخدمة في التسويق في التقليل من معدل خسارة الزبائن. وعوضاً عن أن يسألوا الذكاء الاصطناعي من هم الأشخاص الذين يرجّح أن يتركوا الشركة، كان يجب عليهم أن يسألوا من هم أكثر الأشخاص الذين يمكن إقناعهم بالبقاء. بعبارة أخرى، أي من الزبائن الذين يدرسون فكرة القفز من السفينة سيكونون أكثر ميلاً إلى الاستجابة لعرض ترويجي. وتماماً كما يوجّه السياسيون جهودهم نحو إقناع الناخبين المترديين، فإن المدراء يجب أن يستهدفوا بإجراءاتهم الزبائن المترددين. وبما أن المسوقين في شركة الاتصالات أعطوا الذكاء الاصطناعي الهدف الخاطئ، فإنهم بدّدوا أموالهم على مجموعة واسعة من الزبائن الذين كانوا سينشقّون في جميع الأحوال ولم يستثمروا بما يكفي في الزبائن الذين كانوا يجب أن يضاعفوا جهودهم لاستبقائهم.
في حالة مشابهة، أراد مدراء التسويق في شركة ألعاب إلكترونية تشجيع المستخدمين على إنفاق المزيد من المال في أثناء ممارستهم للعبتها. وقد طلب المسوقون من فريق علماء البيانات تحديد المزايا الجديدة التي ستكون الأقدر على زيادة تفاعل المستخدمين. واستعمل الفريق الخوارزميات لتحديد العلاقة بين المزايا المحتملة وحجم الوقت الذي يمضيه الزبائن في اللعب، وتنبأ أعضاؤه في نهاية المطاف أن تقديم الجوائز ونشر الترتيب العلني للاعبين بشكل أبرز سيبقي الناس في اللعبة لفترة أطول. وأدخلت الشركة التعديلات بناءً على ذلك، لكنها لم تحقق إيرادات جديدة. فلماذا لم يحصل ذلك؟ لأن المدراء طرحوا السؤال الخاطئ مجدداً على الخوارزمية؛ كيف يزيدون تفاعل اللاعبين عوضاً عن أن يسألوا كيف يزيدون من حجم إنفاق اللاعبين وهم في اللعبة. وبما أن معظم اللاعبين لم يكونوا ينفقون المال داخل اللعبة، فإن الاستراتيجية أخفقت إخفاقاً ذريعاً.
في كلتا الشركتين، فشل مدراء التسويق في الدراسة المتأنية للمشكلة التجارية التي كانت بحاجة إلى معالجة وفي تصور التنبؤات المطلوبة للتوصل إلى القرار الأفضل. كان الذكاء الاصطناعي سيحقق أقصى قيمة ممكنة لو كان قد تنّبأ أي الزبائن لدى شركة الاتصالات سيكونون الأكثر قابلية للإقناع، وأي مزايا للعبة ستزيد إنفاق اللاعبين.
عدم التناظر
الفشل في إدراك الفَرْق بين قيمة طرح السؤال الصائب وتكاليف طرح السؤال الخاطئ
يجب أن تتمتع تنبؤات الذكاء الاصطناعي بأكبر قدر ممكن من الدقة، أليس كذلك؟ ليس بالضرورة. التوقع السيء يمكن أن يكون باهظ التكلفة للغاية في بعض الحالات، لكنه قد يكون أقل تكلفة في حالات أخرى. وغالباً ما يسهى المسوقون – والأهم من ذلك فِرَق علوم البيانات التي يعتمدون عليها – عن ذلك.
لنأخذ مثالاً من شركة سلع استهلاكية أعلن علماء البيانات فيها بكل فخر أنهم زادوا من دقة نظام جديد لتوقّع أحجام المبيعات، حيث تمكنوا من تقليل معدل الخطأ من 25% إلى 17%. ولكن لسوء الحظ، وفي مَعْرِض تحسينهم للدقة الإجمالية للنظام، زادوا من دقته بالنسبة للمنتجات ذات هوامش الأرباح المنخفضة، بينما قللوا من دقته بالنسبة للمنتجات ذات هوامش الأرباح العالية. وبما أن تكلفة الاستخفاف بالطلب على البضائع ذات هوامش الأرباح العالية طغت على قيمة التقدير الصائب للطلب على البضائع ذات هوامش الأرباح المنخفضة، فإن الأرباح تراجعت عندما طبقت الشركة النظام "الأكثر دقة".
من المهم الإدراك أن تنبؤات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون خاطئة بطرق عديدة. فإضافة إلى إفراطها في تقدير النتائج أو الاستخفاف بها، فإنها يمكن أن تقدّم معطيات إيجابية زائفة (مثل تصنيف زبائن معيّنين يبقون فعلياً مع الشركة على أنهم منشقون محتملون) أو معطيات سلبية زائفة (مثل تصنيف زبائن يغادرون لاحقاً على أنه من غير المحتمل أن ينشقّوا). وتتمثل وظيفة المسوق في تحليل التكلفة النسبية لهذه الأنواع من الأخطاء، التي يمكن أن تكون شديدة الاختلاف. لكن هذه المسألة غالباً ما تخضع للتجاهل أو لا تبلّغ إلى فِرَق علوم البيانات التي تبني نماذج التنبؤ، وتفترض عندها أن جميع الأخطاء تتساوى بالأهمية، ما يقود إلى أخطاء باهظة الثمن.
التجميع
الفشل في الاستفادة من التنبؤات المتناهية الدقة
تولّد الشركات كميات هائلة من بيانات الزبائن والبيانات المرتبطة بالعمليات التي يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي القياسية استعمالها لوضع تنبؤات مفصّلة وذات تواتر سريع. لكن العديد من المسوقين لا يستغلون هذه القدرة ويواصلون العمل بحسب نماذج صنع القرار القديمة التي اعتادوا عليها. لنأخذ مثلاً سلسلة فنادق يجتمع مدراؤها أسبوعياً لتعديل الأسعار على مستوى الموقع على الرغم من امتلاكهم لبرمجية ذكاء اصطناعي قادرة على تحديث توقعات الطلب في مختلف أنواع الغرف وعلى أساس المعدل في الساعة. ولا تعدو عملية اتخاذ القرار التي يتبنونها أن تكونمن مخلفات نظام الحجز الذي بات من الماضي.
ثمة عائق أساسي آخر يتمثل في فشل المدراء في الوصول إلى المستوى الصائب من التفصيل الدقيق في قراراتهم وتواترها. فإضافة إلى مراجعة وتيرة اتخاذهم للقرار، يجب عليهم أن يسألوا أنفسهم ما إذا كانت القرارات المستندة إلى تنبؤات على المستوى المجمع يجب أن تعتمد اعتماداً أكبر على تنبؤات أكثر تفصيلاً. لنأخذ مثلاً فريق تسويق يريد أن يقرر كيف يوزع أموال إعلاناته على عمليات البحث عن كلمات أساسية في موقعي جوجل وأمازون. بوسع برمجية الذكاء الاصطناعي الحالية التي يستعملها فريق علوم البيانات التنبؤ بالقيمة التي يوفّرها الزبائن المكتسبون عبر هذه القنوات مدى الحياة. بيد أن بوسع المسوقين الحصول على قيمة أعلى في مقابل الدولارات التي ينفقونها على الإعلانات من خلال استعمال تنبؤات أكثر دقة وتفصيلاً للقيمة التي يوفّرها الزبون مدى الحياة لكل كلمة أساسية في كل قناة.
الخلل في التواصل
إضافة إلى سعي مدراء التسويق الدائم إلى تجنب ارتكاب أنواع الأخطاء التي وصفناها، يجب عليهم تحسين عمليات التواصل والتعاون مع فِرَق علوم البيانات لديهم، وتوضيح المشاكل التجارية التي يسعون إلى حلّها. ليست هذه المهمة معقدة وعصيّة على التطبيق، لكننا غالباً ما نرى مدراء التسويق لا يبرعون فيها.
ثمة أشياء عديدة تقف حجر عثرة في طريق التعاون المثمر. فبعض المدراء ينخرطون في مبادرات الذكاء الاصطناعي دون أن يكون لديهم فهم كامل لقدرات التكنولوجيا ونواقصها. فقد تكون لديهم توقعات غير واقعية لذلك فإنهم يسيرون في مشاريع ليس بوسع الذكاء الاصطناعي تحقيق المطلوب منها، أو أنهم يستخفون بالقيمة التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدّمها، لذلك فإن مشاريعهم تفتقر إلى الطموح. قد تحصل أي حالة من الحالتين عندما يتردد كبار المدراء في الإفصاح عن ضعف فهمهم لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
تُعتبرُ فِرَق علوم البيانات شريكة مسؤولة عن إخفاق التواصل أيضاً. فعلماء البيانات غالباً ما يميلون إلى المشاريع ذات متطلبات التنبؤ المألوفة، بغضّ النظر عما إذا كانت هي ما يحتاج قسم التسويق إليه أم لا. ودون وجود توجيه من المسوقين بخصوص كيفية توفير القيمة، فإن فِرَق البيانات غالباً ما تحافظ على الوضع الذي يريحها. وبينما قد يكون مدراء التسويق مترددين في طرح الأسئلة (والكشف عن جهلهم)، فإن علماء البيانات غالباً ما يعانون في شرح ما يستطيعون فعله وما لا يستطيعون فعله للمدراء غير التقنيين.
طوّرنا إطاراً ثلاثي الأجزاء سوف يساعد في فتح خطوط التواصل بين قسم التسويق وفِرَق علوم البيانات. ويسمح الإطار الذي طبقناه في عدة شركات لأعضاء الفِرَق بالجمع بين خبراتهم المختلفة وإنشاء حلقة تغذية استرجاعية بين تنبؤات الذكاء الاصطناعي والقرارات التجارية التي يُفترض بها دعمها.
وضع الإطار موضع التطبيق العملي
لكي نبث الروح في أوصال هذا الإطار، دعونا نعود إلى شركة الاتصالات.
1- ما هي المشكلة التسويقية التي نحاول حلّها؟
يجب أن تكون الإجابة ذات مغزى ودقيقة. فعلى سبيل المثال، فإن سؤال من قبيل "كيف بوسعنا تقليل معدل خسارة الزبائن؟" هو سؤال شديد العمومية ولن يكون مفيداً لمطوري نظام للذكاء الاصطناعي. أما "كيف بوسعنا تخصيص موازنتنا بالشكل الأمثل للعروض الترويجية الهادفة إلى استبقاء الزبائن من أجل تقليل معدّل خسارتهم؟" فهو سؤال أفضل لكنه يظل شديد الغموض. (هل حُدّدت موازنة استبقاء الزبائن، أم أنها شيء يجب علينا أن نقرره؟ ما الذي نعنيه بـ "تخصيص"؟ وهل سنخصص المال لحملات مختلفة لاستبقاء الزبائن؟) أخيراً، نصل إلى بيان أوضح للمشكلة، من قبيل "إذا كانت لدينا موازنة بقيمة كذا دولار، فمن هم الزبائن الذين يجب أن نستهدفهم بحملة استبقاء؟" (نعم، هذا السؤال يمكن أن يُعدّل ليصبح أكثر دقة، لكنكم تفهمون قصدنا بالتأكيد). لاحظوا أن سؤال "كيف نتنبأ بخسارة الزبائن؟" لا يظهر في أي مكان – فالتنبؤ بخسارة الزبائن ليس مشكلة قسم التسويق.
عندما يكون المدراء في طور تحديد المشكلة، فإنهم يجب أن ينزلوا إلى ما نسميه المستوى الذرّي – أي أدق مستوى يسمح باتخاذ قرار أو إجراء معيّن. في هذه الحالة، القرار هو ما إذا كان يجب إرسال عرض ترويجي لاستبقاء الزبائن إلى كل زبون أم لا.
في إطار عملية الاستكشاف، من المفيد جداً توثيق الكيفية التي تُتَّخذ بها القرارات اليوم بالضبط. فعلى سبيل المثال، تستعمل شركةُ الاتصالات الذكاءَ الاصطناعي لترتيب الزبائن (ترتيباً تنازلياً) بحسب احتمال خسارتها لهم خلال الشهر التالي. وهي تستهدف الزبائن من خلال البدء من قمة الترتيب ومن ثم الانتقال نزولاً حتى تُستنفَد الموازنة المخصصة لحملة الاحتفاظ بالزبائن. ورغم أن هذه الخطوة تبدو وصفية مجردة ولا تكشف كيف يمكن إعادة تأطير المشكلة، إلا أننا رأينا حالات عديدة كانت فيها المرة الأولى التي يحصل فريق علوم البيانات عملياً على فرصة لفهم الكيفية التي تُستعْمَل بها تنبؤاته.
من المهم في هذه المرحلة أن يكون فريق التسويق منفتحاً على التكرار للوصول إلى تعريف واضح للمشكلة يشمل الأثر الكامل للقرار على الأرباح والخسائر، ويعترف بأي مقايضات في حال وجودها، ويحدد طبيعة التحسين المفيد. وبحسب خبرتنا، يكون لدى كبار التنفيذيين عادة فهم جيد للمشكلة التي بين أيديهم لكنهم لم يتمكنوا دائماً من تعريفها بدقة أو التعبير بوضوح لبقية أعضاء الفريق كيف سيساعد الذكاء الاصطناعي في حلّها.
2- هل هناك أي هدر أو فرصة ضائعة في مقاربتنا الحالية؟
غالباً ما يدرك المسوقون أن حملاتهم مخيبة للآمال، لكنهم يفشلون في التعمق للوصول إلى جذر المشكلة. وفي أوقات أخرى، لا يكون المدراء واثقين من إمكانية تحسين النتائج. لذلك فإنهم بحاجة إلى العودة خطوة إلى الوراء وتحديد ما إذا كان هناك أي هدر أو فرصة ضائعة في الطريقة التي تتخذ بها القرارات في الوقت الحاضر.
فعلى سبيل المثال، تتتبّع معظم شركات الطيران والفنادق مقاييس خاصة بالمقاعد والغرف الفارغة (غالباً في الحالات التي يكون السبب فيها هو تحديد أسعار زائدة عن اللزوم)، ومقاييس خاصة بالرحلات والفنادق التي تمتلئ بسرعة زائدة (نتيجة تحديد أسعار شديدة الانخفاض). وتعتبر هذه الأنواع من المقاييس بارعة في تحديد الفرص الفائتة لأنها تعطي صورة مختلفة عن الصورة التي ترسمها المقاييس المجمعة للإشغال والإنفاق الوسطي. وإذا ما أراد قادة أقسام التسويق تحقيق أكبر استفادة ممكنة من استثماراتهم في مجال الذكاء الاصطناعي، فإنهم بحاجة إلى وضع مقاييس مشابهة لتلك المقاييس المستعملة في قطاعي الطيران والفنادق – ليس على المستوى المجمّع وإنما على المستوى الذرّي.
تتمثل الخطوة الأولى في التأمل قليلاً لتحديد ما الذي يشكّل نجاحاً وما الذي يشكّل فشلاً. في شركة الاتصالات، كان تعريف النجاح المتوقع سلفاً هو "هل جدّد الزبائن المستهدفون عقودهم؟" لكن ذلك طرح تبسيطي جداً ويفتقر إلى الدقة؛ فربما يكون هؤلاء الزبائن قد جددوا عقودهم دون تلقّي أي عروض ترويجية، ما يجعل العرض الترويجي هدراً لدولارات قيّمة كان يمكن أن تستعمل في استبقاء زبائن آخرين. وعلى المنوال ذاته، هل يعتبر انشقاق زبونة لم تُستهدف بعرض ترويجي نجاحاً؟ ليس بالضرورة. فإذا كانت تلك الزبونة ستغادر الشركة في جميع الأحوال، فإن عدم استهدافها كان في الحقيقة خطوة ناجحة، لأنه لم يكن بالإمكان إقناعها بالبقاء. ولكن لو كانت الزبونة قد بقيت لأنها تلقت عرضاً ترويجياً، فإننا في تلك الحالة أمام فرصة ضائعة. وبالتالي ما الذي يُعتبر نجاحاً على المستوى الذرّي؟ الاكتفاء باستهداف الزبائن المعرضين لخطر كبير بترك الشركة والذين كان يمكن إقناعهم بالبقاء، وعدم استهداف الذين لم يكن بالإمكان إقناعهم بالبقاء.
بعد الانتهاء من تحديد مصادر الهدر والفرص الضائعة، تتمثل الخطوة التالية في تحديدها كمياً بمساعدة البيانات. ويمكن أن تكون هذه المهمة سهلة أو شديدة الصعوبة. فإذا ما كان فريق البيانات قادراً بسرعة على تحديد ما هو النجاح أو الفشل على المستوى الذرّي بالنظر إلى البيانات، فإن ذلك سيكون أمراً عظيماً. عندها يمكن للفريق النظر في توزّع النجاح في مقابل توزّع الفشل لتحديد الهدر والفرصة الضائعة كمياً.
بيد أن هناك حالات يكون من الصعب فيها تحديد ما الذي يعنيه الفشل على المستوى الذرّي. ففي شركة الاتصالات، لم يكن فريق البيانات يدرس أي من الزبائن قابل للإقناع، ما صعّب عليه تصنيف حالات الفشل. في مثل هذه الظروف، بوسع الفِرَق تحديد الهدر والفرصة الضائعة كمياً باستعمال بيانات أكثر تجميعاً، حتى لو كانت النتائج أقل دقة. إحدى المقاربات التي يمكن لشركة الاتصالات استعمالها هي النظر إلى تكلفة الحافز الذي يقدّمه العرض الترويجي مقارنة بتزايد القيمة التي يقدّمها الزبون الذي تلقاها على مدى حياته. وعلى المنوال ذاته، وفي حالة الزبائن الذين لا يحصلون على العرض الترويجي، بمقدور الفريق مراجعة الأرباح المفقودة بسبب عدم تجديد عقودهم.
ساعدت أمثال هذه التكتيكات شركة الاتصالات في تحديد الزبائن الذين كانت الشركة تحتفظ بهم وإنما بتكلفة تفوق القيمة المستقبلية المتزايدة التي يقدّمونها، والزبائن الذين يقدّمون قيمة عالية وانشقوا على الرغم من تلقّيهم عروضاً ترويجية لاستبقائهم، والزبائن الذين يقدّمون قيمة عالية ولم يُستهدفوا وتركوا الشركة بعد الحملة. كان ذلك التوصيف ممكناً لأن فريق علوم البيانات كانت لديه مجموعة ضبط من الزبائن – الذين تُركوا وشأنهم لتحديد خط الأساس – لمقارنة النتائج بهم.
3- ما الذي يسبب الهدر والفرص الضائعة؟
هذا عادة هو السؤال الأصعب، لأنه يتطلب إعادة دراسة الافتراضات الضمنية التي تقوم عليها المقاربة الحالية للشركة. فإذا ما أرادت الشركة العثور على الإجابة، فإنها يجب أن تستكشف بياناتها وأن تشجع الخبراء في المواضيع المطروحة وعلماء البيانات لديها على التعاون. ويجب أن ينصبّ التركيز على حل مشاكل التناسق، وعدم التناظر، والتجميع التي حددناها سابقاً.
معالجة التناسق. يتمثل الهدف هنا في رسم خارطة تبيّن الارتباطات القائمة بين تنبؤات الذكاء الاصطناعي، والقرارات، والمحصلات التي تسعى الشركة إلى تحقيقها. ويتطلب ذلك التفكير في السيناريوهات الافتراضية. ونحن نوصي الفِرَق أن تجيب عن الأسئلة التالية:
"في عالم مثالي، ما هي المعارف التي ستكون لديكم وتمكّنكم من التخلص بالكامل من الهدر والفرص الضائعة؟ هل تنبؤاتكم الحالية هي مؤشر جيّد على ذلك؟
البشر مترددون إلى حد كبير في تبنّي التغيير. فالعديد من المدراء لم يتأقلموا بعد مع الوتيرة السريعة التي يمكن بها للتكنولوجيا الجديدة أن تتخذ القرارات القديمة ومستوى التفصيل في هذه القرارات.
لو كان أعضاء فريق الاتصالات قد أجابوا عن السؤال الأول، لكانوا قد أدركوا أنه لو تمكنت خوارزمية الذكاء الاصطناعي لديهم من التنبؤ بشكل مثالي بهوية الزبون الذي كانوا سيستميلونه بعرضهم الترويجي (عوضاً عن الزبون الذي كان على وشك المغادرة)، لكان بوسعهم التخلص من كل من الهدر (لأنهم لن يضيعوا وقتهم في تقديم العروض إلى الزبائن غير القابلين للإقناع) والفرص الضائعة (لأنهم كانوا سيصلون إلى كل زبون قابل للإقناع). صحيح أن وضع التنبؤات المثالية في عالم الواقع هو ضرب من المستحيل، إلا أن التركيز على قابلية الإقناع كان سيظل يقود إلى تحسينات عظيمة.
بعد تحديد المعلومات المثالية، يصبح السؤال هو ما إذا كان فريق علوم البيانات قادراً على وضع التنبؤات المطلوبة بالقدر الكافي من الدقة. من الضروري بمكان أن يجيب فريقا التسويق وعلوم البيانات عن هذا السؤال معاً؛ فالمسوقون لا يعرفون غالباً ما الذي يمكن فعله. وعلى المنوال ذاته، من الصعب على علماء البيانات ربط تنبؤاتهم بالقرارات إذا لم تكن لديهم خبرة في الموضوع المعني.
"هل تتوافق نواتج برمجية الذكاء الاصطناعي لديكم بالكامل مع هدف الشركة؟"
هل تتذكرون شركة الألعاب الإلكترونية التي استعملت الذكاء الاصطناعي لتحديد المزايا التي ستزيد تفاعل المستخدمين؟ تخيلوا المكاسب المتوقعة لو كانت الشركة قد صنعت برمجية ذكاء اصطناعي قادرة على التنبؤ بالربحية التي يمكن تحقيقها من الزبون عوضاً عن ذلك.
أحد الأخطاء الشائعة هنا هو تبنّي الاعتقاد الزائف القائل إن وجود ارتباط بين التنبؤ وهدف الشركة يكفي. هذه الفكرة تعاني من خلل لأن الارتباط لا يعني السببية، لذلك فإنكم قد تتنبؤون بحصول تغيّرات في شيء يرتبط بالربحية لكنه لا يحسنها في واقع الأمر. وحتى عندما توجد سببية، إلا أنها قد لا تتوافق مع الهدف بنسبة 100%، لذلك فإن جهدكم قد لا يحقق النتيجة النهائية التي ترجونها ما يقود إلى تفويت الفرص.
في شركة الاتصالات، قد يقود طرح السؤال الثالث الفريق إلى عدم الاكتفاء بالتفكير في المستخدمين القابلين للإقناع، وإنما أيضاً التفكير في الزيادة أو النقصان في الربحية المحققة منهم. هذا يعني أن المستخدم القابل للإقناع الذي تعتبر الربحية المتوقعة منه منخفضة يجب أن يحظى بأولوية أدنى مقارنة بالمستخدم القابل للإقناع الذي من المتوقع أن تتحقق منه ربحية عالية.
معالجة عدم التناظر. بعد أن تصبح لديكم خارطة واضحة تربط تنبؤات الذكاء الاصطناعي بالقرار والمحصلات التي تسعى الشركة إلى تحقيقها، أنتم بحاجة إلى أن تحددوا كمياً التكاليف والأخطاء المحتملة في النظام. وهذا ينطوي على طرح السؤال التالي: إلى أي مدى نحن منحرفون عن النتائج التجارية التي نريد تحقيقها، نظراً إلى أن نتائج برمجية الذكاء الاصطناعي ليست دقيقة بالكامل؟
في شركة الاتصالات، تكلفة إرسال عرض ترويجي إلى زبون غير قابل للإقناع لاستبقائه (هدر) أقل من تكلفة خسارة زبون ينطوي على قيمة عالية كان بالإمكان إقناعه بواسطة العرض (فرصة ضائعة). لذلك، فإن الشركة ستحقق أرباحاً أعلى إذا ركّز نظام الذكاء الاصطناعي فيها على عدم تضييع الزبائن القابلين للإقناع، حتى لو زاد ذلك من خطر التحديد الزائف لبعض الزبائن على أنهم سيرحبون بالعرض الترويجي المقدّم لهم لاستبقائهم.
من الصعب تحديد الفَرْق بين الهدر والفرصة الضائعة كمياً أحياناً. ومع ذلك، فإن حساب التكلفة غير المتناظرة ولو بشكل تقريبي هو أمر جدير أن يُنجز. وإلا فإن القرارات قد تتخذ بالاستناد إلى تنبؤات الذكاء الاصطناعي الدقيقة بحسب بعض المعايير، لكنها غير الدقيقة فيما يخص المحصلات التجارية ولها تأثير غير متناسب على هدف الشركة.
معالجة التجميع. معظم أنظمة التسويق المبني على الذكاء الاصطناعي لا تتخذ قرارات جديدة؛ وإنما هي تتعامل مع قرارات قديمة مثل تقسيم الزبائن إلى شرائح، والاستهداف، وتخصيص الموازنات. لكن الجديد هو أن القرارات تستند إلى كمية أغنى من المعلومات التي يجمعها نظام الذكاء الاصطناعي ويعالجها. ويكمن الخطر هنا في أن البشر وإلى حد كبير مترددون في تبنّي التغيير. فالعديد من المدراء لم يتأقلموا بعد مع الوتيرة السريعة التي يمكن بها للتكنولوجيا الجديدة أن تتخذ القرارات القديمة ومستوى التفصيل في هذه القرارات. ولكن لماذا يجب عليهم الاستمرار في اتخاذ هذه القرارات بالوتيرة ذاتها؟ وضمن القيود ذاتها؟ كما رأينا سابقاً، هذا الأمر يقود أحياناً إلى الفشل.
تتمثل طريقة حل هذه المشكلة في إجراء تحليلين. في التحليل الأول، يجب على الفريق أن يدرس كيف بوسعه التخلص من الهدر والفرص الضائعة عبر إجراءات تسويقية أخرى قد تنتج عن التنبؤات الموضوعة. كان الإجراء الذي اختاره الفريق في شركة الاتصالات هو منح خصم بهدف استبقاء الزبون. فماذا لو أدخل الفريق حوافز أخرى إلى القرار؟ هل كان بمقدوره التنبؤ بهوية من سيرحبون بهذه الحوافز؟ هل كان بوسعه استعمال الذكاء الاصطناعي لتحديد أي نوع من الحوافز كانت ستحقق النجاح الأفضل مع كل نوع من أنواع الزبائن؟
أما النوع الثاني من التحليل فيجب أن يحدد كمياً المكاسب المحتملة من تنبؤات التسويق المبني على الذكاء الاصطناعي التي تتم بوتيرة أكثر تكراراً أو بقدر أعلى من الدقة أو بالاثنين معاً. في إحدى شركات التجزئة، مثلاً، كان فريق علوم البيانات قد طوّر برمجية للذكاء الاصطناعي بوسعها وضع تنبؤات يومية عن الاستجابات للإجراءات التسويقية على مستوى كل زبون، ومع ذلك فإن فريق التسويق في سلسلة المتاجر تلك كان يتخذ القرارات يومياً وضمن شرائح الزبائن البالغ عددها 16 شريحة. صحيح أن تغيير الطريقة التي تُتخذ بها القرارات ستترتب عليه تكلفة معيّنة، لكن هل ستكتشف شركة التجزئة هذه أن المكاسب تفوق تلك التكاليف؟
يحتاج التسويق إلى الذكاء الاصطناعي. لكن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى أن تتطور طريقة التفكير في عالم التسويق بحيث تأخذ القدرات الكامنة الكاملة لهذا الذكاء بالحسبان. ويستدعي ذلك وجود حوار دائم بين فريقي التسويق وعلوم البيانات بحيث يكون بوسعهما أن يفهما كيف ينتقلان من حل نظري إلى شيء قابل للتطبيق.
أثبت الإطار الذي عرضناه هنا نجاحه في جعل المجموعتين تعملان معاً، وتعزيز الثمار التي تجنيها الشركات من استثماراتها في مجال الذكاء الاصطناعي. ويجب أن تسهم المقاربة التي وصفناها في إيجاد فرص لتحسين حالة التناسق بين تنبؤات الذكاء الاصطناعي والمحصلات التي ترغب الشركات في تحقيقها، وتحديد التكاليف غير المتناظرة للتنبؤات السيئة، وتغيير نطاق القرارات من خلال السماح للفريق بإعادة النظر في وتيرة الإجراءات ومدى دقتها وتركيزها على التفاصيل.
عندما يستعمل المسوقون وعلماء البيانات هذا الإطار، يجب عليهم إيجاد بيئة تسمح بإجراء مراجعة شفافة للأداء وتكرار المقاربة بانتظام، على أن يدركوا على الدوام أن الهدف ليس الوصول إلى الحالة المثالية، وإنما مواصلة التحسين.