ملخص: تُواجه ستاربكس صعوبات عديدة في هذه الفترة، فقد انحرفت الشركة عن استراتيجيتها الناجحة في تقديم تجارب استثنائية للعملاء واتجهت لتسليع خدماتها (أي أفقدتها بعدها الإنساني وحولتها إلى مجرد سلع استهلاكية). يحلل هذا المقال الأخطاء التي وقعت فيها ستاربكس ويقدم بعض الأفكار حول طرق استعادة الشركة توازنها، ويقدم هذا المقال دروساً للشركات الأخرى التي تعتمد في منافستها على تقديم تجارب مميزة للعملاء.
تواجه ستاربكس (Starbucks) أزمة جديدة، إذ أعلنت الشركة في قائمة دخلها الربع سنوي الأخيرة عن نتائج مخيبة للآمال، تشمل انخفاضاً بنسبة 4% في إيرادات منافذ البيع وانخفاضاً بلغ 11% في الصين، ثاني أكبر أسواقها. انخفض سعر سهم الشركة بعد هذا الإعلان، وما تزال قيمته أدنى بكثير من أعلى مستوى له خلال 12 شهراً. نشر مؤسس ستاربكس ورئيسها التنفيذي لثلاث فترات، هوارد شولتز، مرة أخرى رسالة على منصة لينكد إن يناشد فيها قادة الشركة الحاليين إعادة إحياء الغاية الأساسية للشركة، التي تمثل سبب وجودها.
تمثل رسالة شولتز العلنية التي أعقبت رسالة سابقة نشرها في فبراير/شباط انعكاساً قوياً للمشاعر المتنامية لدى العديد من العملاء القدامى؛ فزيارة متاجر ستاربكس فقدت بهجتها، والعلامة التجارية نفسها لم تعد تعني ما كانت تعنيه. المشكلة الأساسية هي أن ستاربكس اتجهت لتسليع خدماتها.
نناقش في هذا المقال ضرورة أن تعيد ستاربكس توجيه تركيزها نحو تجربة العميل الشخصية من جديد، ونقترح طرق تحقيق ذلك. توضح مشاكل ستاربكس كيف تنجرف الشركات التي نجحت بتقديم تجارب استثنائية لعملائها في السعي وراء أهداف أخرى مثل ضغط التكاليف وتحقيق وفورات الحجم، ما يؤدي بها إلى "تسليع" خدماتها. تدور توصياتنا هنا في هذا المقال حول طريقة إعادة الشركات التي انحرفت عن المسار إلى الطريق الصحيح مرة أخرى.
التسليع الذاتي
يمكن تعريف مصطلح "المكان الثالث" (الذي صاغه عالم الاجتماع راي أولدنبورغ)، والذي استخدمه شولتز فترة طويلة في ستاربكس، بأنه "مكان بعيد عن المنزل والعمل يجتمع الناس فيه ويرتاحون فيه ويتجاذبون أطراف الحديث سوياً". ولكن على مدى العقد الماضي أزالت ستاربكس عدداً كبيراً من الكراسي المريحة ووضعت أخرى خشبية صلبة بهدف تقليص الوقت الذي يقضيه الناس في المتاجر ودفعهم للعودة إلى أعمالهم بسرعة، كما أنها قللت المآخذ (المقابس) الكهربائية اللازمة لتوصيل أجهزة الكمبيوتر والهواتف، فلم يعد استخدامها في المتاجر فترة طويلة ممكناً.
حلت طريقة كتابة الطلبات بالطباعة بدلاً من الكتابة اليدوية على الأكواب -التي كانت في وقت من الأوقات تتضمن مجاملات أو رسائل مشجعة- وهو ما ساعد على تجريد مشروبات ستاربكس الشهيرة المصنوعة يدوياً من اللمسة الإنسانية، ولم تعد المتاجر تعبق برائحة حبوب البن المحمصة والمطحونة الغنية، وأصبحت تستخدم عبوات مغلفة جاهزة للاستخدام. وفي شهر يونيو/حزيران 2024، أعلنت الشركة أنها ستقدم وجبات بأسعار مخفضة، لتزيد الطين بلة.
يسهم برنامج ولاء الزبائن الذي تتباهى به ستاربكس في زيادة حدة تسليع منتجاتها أيضاً؛ فعلى الرغم من ارتفاع المبيعات عموماً، فإن تتبعها للمشتريات يوجه تركيز العملاء إلى سعر ما يشترونه بدلاً من قيمة ما يشربونه ويأكلونه ويجربونه، وبخاصة عندما توقفت الشركة عن تتبع الأصناف التي يشتريها العملاء واتجهت إلى تتبع إجمالي المبالغ التي ينفقونها. كما يحمل عرض "اشترِ المزيد، واحصل على هدية مجانية" رسالة ضمنية مفادها "أنك تدفع أكثر من اللازم على كل كوب، لذا يمكننا أن نقدم لك هدية مجانية بين الحين والآخر".
أضافت ستاربكس منذ فترة طويلة خدمة تقديم الطلبات للسيارات في العديد من مواقعها في الضواحي، فأدت إلى زيادة المبيعات ولكنها قلصت تجارب الزبائن داخل المقهى، كما شتتت انتباه الباريستا (النادل) وزادت مدة تقديم الخدمة وشغلت مساحة يمكن استخدامها لتحسين التجربة الشخصية للعملاء.
كما أن الطلبات عبر الهاتف المحمول التي تصل المتجر تجبر الزبون الذي يود قضاء بعض الوقت في المقهى على انتظار تلبية طلبه فترة طويلة جداً. فيضطر في نهاية المطاف إلى مزاحمة المشترين المستعجلين الداخلين والخارجين، ويعاني جلبتهم وفوضاهم طوال الوقت في حين يريد الاستمتاع بوقته بعيداً عن المنزل والعمل. حتى أن بعض فروع ستاربكس أزالت الكراسي جميعها، المريحة وغير المريحة، للتركيز على طلبات الهاتف.
قد تصف ستاربكس تجربة العميل بأنها "تجربة مريحة"، ولكننا نعتبر ذلك تناقضاً؛ فالراحة تتعلق بتوفير وقت العميل على نحو مرض، وتتعلق التجربة بجودة الوقت الذي يقضيه العميل؛ تمثل هذه التجربة تجسيداً فعلياً لفكرة "التضخم الانكماشي" أو التضخم بتصغير السلع.
وفي الوقت نفسه، شهدت ستاربكس توترات متصاعدة داخل قوتها العاملة ودعوة إلى تشكيل نقابة، لطالما كانت ستاربكس من أفضل الأماكن للعمل، ولكنها اختفت تماماً من قوائم التصنيف منذ عام 2016، وتعالت أصوات الموظفين احتجاجاً على ظروف عملهم، مشيرين إلى الانفصال الظاهر بين مقاييس الأداء التي تستهدف زيادة حجم المبيعات والمقاييس التي تركز على جودة العلاقات مع العملاء.
صحيح أن ستاربكس حققت مكاسب على المدى القصير من حيث الإيرادات والكفاءة، ولكن ما هو الثمن الذي ستدفعه على المدى الطويل حين تسلّع خدماتها وتفقد أصالتها وتضعف تجربة "المكان الثالث"، وينتهي بها المطاف إلى فقدان ما وصفه شولتز في رسالته العلنية في فبراير/شباط بفقدان "روحها"؟ نحن نرى أن ما يحدث في ستاربكس هو صفقة فاوستية تستبدل قيمة بمنفعة مادية، وقد ترضي هذه الصفقة بورصة وول ستريت اليوم ولكنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل الشركة لتصبح هيكلاً دون روح.
تصحيح المسار
بالتأكيد لم يفت الأوان بعد على ستاربكس لتصحيح مسارها وإعادة توجيه تركيزها نحو الاهتمام بتجربة العملاء والخروج من وضع تسليع خدماتها، ونحن نتفق مع تقييم شولتز في كثير من النواحي بأن التقدم يبدأ بالعودة إلى ما جعل الشركة ناجحة جداً في المقام الأول.
استعادة أصالة العلامة التجارية تعني التخلص من عقلية خط التجميع الذي تتسم بها ستاربكس اليوم، والسماح للموظفين مرة أخرى بأن يكونوا أطرافاً رئيسية في تجربة العميل؛ فحيوية المقهى التي يولدها موظفو المقهى الذين ينادون على أصحاب الطلبات والعلاقات الإنسانية التي ينسجونها معهم هي تحديداً ما يجعل ستاربكس "مقهى الحي" فعلاً، حتى إن أدى ذلك إلى ارتكاب خطأ إملائي غريب على فنجانك أو زيادة السكر فيه دون قصد. هذه "الأخطاء" هي التي جعلت تجربة ستاربكس تجربة إنسانية أصيلة، كما أن إعادة إثراء الوظائف التي أصبحت روتينية وتمكين الموظفين من تقديم تجارب ذات قيمة هما عاملان مهمان لتحسين مشاعرهم تجاه الشركة إلى حد كبير.
كما يجب على الشركة أن تعيد تصميم برنامج ولاء الزبائن الذي يُسلع خدماتها، بحيث تتوقف عن تقديم المشروبات والمأكولات المجانية التي سيشتريها الزبائن على أي حال، وعليها أن تحوّل البرنامج إلى منصة تجارب تقدم للضيوف تجارب لن يحصلوا عليها في أي مكان آخر. هذا ما فعلته بالفعل غالبية شركات بطاقات الائتمان وشركات الطيران وشركات السياحة والضيافة؛ إذ يتحدث برنامج سكاي مايلز إكسبيرينسز (SkyMiles Experiences) التابع لشركة طيران دلتا (Delta)، على سبيل المثال، عن "تحويل الأميال إلى ذكريات"، وتقدم منصة ماستركارد (Mastercard) تجارب "لا تُقدّر بثمن"، ويدعو برنامج الولاء التابع لسلسلة فنادق هيلتون "هيلتون أونرز" (Hilton Honors) أعضاءه إلى وضع نقاطهم "حيثما يجدون شغفهم"، ويقدم لهم تجارب "لا يمكن شراؤها بالمال" في جميع أنحاء العالم وفي مدنهم.
يجب أن تجد ستاربكس أيضاً طرقاً لتلبية احتياجات العملاء الذين يتعاملون معها باعتبارها مجرد خدمة دون الإضرار بتجربة العملاء الذين يعتبرونها أكثر من ذلك بكثير، وهذا يعني فصل طلبات الهاتف المحمول وطلبات السيارات عن الطلبات الداخلية لتقليل تزاحم المجموعات المختلفة من الزبائن. وهذا يعني أيضاً إعادة الاستثمار في وسائل الراحة والرفاهية للعملاء الذين يرغبون في قضاء الوقت في المقهى، ونظراً إلى أن العمل عن بُعد ما زال مستمراً وأن العديد من المنازل أثبتت أنها ليست مكاناً مثالياً للعمل منذ الجائحة الأخيرة، فالوقت مثالي لستاربكس لتجعل من نفسها مكاناً مناسباً للعمل.
ولتوضيح الفرق بين الزبائن الذين يأخذون الطلبات داخل المقهى وزبائن الطلبات الخارجية، يجب إدراك أنه مثلما تتقاضى الشركة أجور الخدمات التي يقدمها الموظفون، فهي تتقاضى أجراً مقابل الوقت الذي يقضيه الزبائن في المكان، وقد يعني ذلك فرض رسوم دخول أو رسوم عضوية أو سعر أعلى للمشروبات والأطعمة. فمثلاً، تستخدم سلسلة مطاعم ومقاهي بريت أيه مانجر (Pret A Manger) في المملكة المتحدة نموذجين للتسعير، أحدهما للزبائن ضمن المتجر والآخر لزبائن الطلبات الخارجية.
ثمة العديد من الأماكن حول العالم معروفة باسم "مقهى الإنترنت"(أو اللامقهى) (anticafes)، وهي تتقاضى رسوماً مقابل الوقت الذي تقضيه فيها للتواصل الاجتماعي وممارسة الألعاب وإنجاز الأعمال وما إلى ذلك، وتقدم القهوة المصنوعة آلياً مجاناً في الغالب؛ لكنها لا تفرض رسوماً على كل مكان داخل المقهى، بل تفرض رسوماً على أماكن محددة وعلى التجارب التي تحدث فيه. في الواقع، تفرض ستاربكس رسوم دخول لتجربة التذوق وحضور دروس حول تاريخ صناعة القهوة في مقاهي ريزيرف روستي (Reserve Roastery) حيث لا تزال التجربة هي الأهم.
لا شك في أن تبنّي هذه الأفكار يتطلب استراتيجية صحيحة وقيادة قوية؛ هل يمكن لأحد أن يفعل ذلك سوى هوارد شولتز؟ قد تكون رسالته العلنية الأخيرة مناشدة لحث ستاربكس على دعوته للعودة كما حدث في السابق عدة مرات، ولكن نظراً إلى أنه لم يعد عضواً في مجلس الإدارة فهذا أمر مستبعد جداً. وإذا لم يكن شولتز هو المرشح لقيادة الشركة، فإن فستاربكس تحتاج إلى قائد يتمتع بالشغف والدافع والتقدير لقيمة التجارب بالقدر نفسه، شخص يعشق القهوة والروابط الإنسانية وليس المال فحسب.