الحوافز أدوات فعالة في تشكيل السلوك البشري، ولكنها تشتهر بصعوبة فهمها وتفسيرها. كشف بحثٌ جديد حول استجابة أصحاب السلطة للحوافز بشكل مستمر، نُشر في "مجلة علم النفس الاجتماعي النظري والتطبيقي" (Basic and Applied Social Psychology) عن أمر مُقلق يُضفي مزيداً من التعقيد على الحوافز، ألا وهو أنها قد تجعل أصحاب السلطة أقل اهتماماً بالأمور الأخلاقية.
اقرأ أيضاً: لماذا تُعد أماكن العمل التي تتسم بالمصداقية أكثر تمسكاً بالقيم الأخلاقية؟
الدراسة، التي أُجريت بقيادة كل من جيسيكا سوانر من "جامعة آيوا" (Iowa State University)، ودينيس بايك من "جامعة أركنساس" (University of Arkansas)، شملت 250 طالباً في "جامعة تكساس" في مدينة إلباسو. وقد أعد الباحثون سيناريو يُطلب فيه من الطلاب أن يبلغوا عن أحد زملائهم من الطلاب الذين وثقوا بهم.
استجابة أصحاب السلطة للحوافز
قيل للطلاب إنهم سوف يُمنحون وحدات دراسية نظير المشاركة في اختبارات عبر الكمبيوتر حول الذاكرة اللاشعورية. ولكن عندما وصل الطلاب لإجراء الدراسة، أخبرهم أحد الباحثين أن أحد الطلاب السابقين تسبب في حدوث عطل في الكمبيوتر، وبذلك كبديل سوف يشاركون في دراسة حول التعاملات بين الأفراد وعمليات صنع القرار. وُضع كل طالب بصحبة مشارك آخر متحالف سراً مع الباحثين. فيتبادل الثنائي النقاش حول مجموعة من الأسئلة الشخصية حتى أن يصل الأمر إلى أن يعترف المشارك المتحالف بأنه تسبب في حدوث عطل بالكمبيوتر أو أن ينفي ذلك بقوة.
اقرأ أيضاً: أخلاقيات الأجهزة الذكية التي تحلل طريقة كلامنا
وبعد ذلك أسند الباحثون لكل طالب إما دور مدير (ذو سلطة عالية) أو موظف (محدود السلطة) لإنجاز المهمة التالية. ولكن قبل بدء المهمة، طلب أحد الباحثين بشكل منفرد من كل طالب أن يساعده في اكتشاف الشخص الذي عطّل الكمبيوتر. وعرض على نصف عدد الطلاب الحصول على وحدات دراسية إضافية نظير مساعدتهم له. (ولم يُعرض على النصف الآخر، الذي يتألف من مجموعة ضبط، أي شيء). ثم سأل الباحث كل طالب عما إذا كان زميله قد ذكر له أنه عطّل الكمبيوتر، محفزاً إياه للإبلاغ عن زميله ما يصل إلى 8 مرات.
إذا أجاب الطالب بنعم، بغض النظر عما صرّح به المشارك المتحالف فعلياً، كان يُطلب من الطالب أن يوقّع إفادة يدلي فيها بشهادته أن زميله عطّل الكمبيوتر. ولاحظ الباحث عدد مرات التحفيز التي استخدمها حتى وافق الطالب على توقيع الإفادة، وأيضاً ما إذا كان الطالب حاول تغيير شروط الاتفاق أو صياغة الإفادة. ولاحقاً، سُئل الطلاب عما قاله المشارك المتحالف بالضبط، وعن الحافز الذي عرضه عليهم الباحث، وعن مدى الثقة التي شعروا بها عند تذكُّر تفاصيل الواقعتين.
فيما يتعلق بمعظم مجموعات العوامل (دور ذو سلطة عالية أو دور محدود السلطة، واعتراف المشارك أو إنكاره، وتقديم حافز أو عدم تقديم)، وجد الباحثون أن تقديم حافز لم يكن له أي تأثير تقريباً على ما إذا كان الطالب قد أبلغ عن زميله. فالطلاب الذين يشغلون أدواراً ذات سلطة عالية أو سلطة محدودة على حد سواء، كانوا أكثر قابلية لتوقيع إفادة تجريمية حقيقية أكثر من توقيع إفادة زائفة. بمعنى آخر، كان من المرجح بدرجة أكبر أن يُصرح الطلاب جميعاً أن زميلهم المتحالف مع الباحثين قد اعترف أنه عطّل الكمبيوتر عندما اعترف هو بذلك بالفعل. ولكن الطلاب أصحاب السلطة العالية كانوا أكثر قابلية بثلاث مرات لأنْ يوقعوا بياناً تجريمياً زائفاً عندما قُدِّم لهم حافز ليفعلوا ذلك.
الطلاب أصحاب أدوار السلطة العالية الذين قُدمت لهم حوافز برزوا أيضاً فيما يتعلق بعدد مرات التحفيز. فقد تم تحفيز الطلاب جميعاً لما يصل إلى 8 مرات لكي يبلّغوا عن زملائهم (كان يُقال لهم على سبيل المثال: هل أنت متأكد أنه لم يذكر أي شيء حول تعطيل الكمبيوتر؟). وعندما اعترف الزميل المحالف للباحثين أنه عطّل الكمبيوتر، أصبح الطلاب جميعاً أكثر احتمالية لأنْ يُبلّغوا عن زميلهم خلال المرات الخمس الأولى من التحفيز التي لم يُجد أي تحفيز بعدها نفعاً. ولكن عندما نفى المشارك المتحالف أنه عطّل الكمبيوتر، أصبح الطلاب المحفَّزون أصحاب السلطة العالية أكثر احتمالاً أن ينقلبوا على زميلهم كلما زاد عدد مرات تحفيزهم على فعل ذلك، فقد اعترف الجميع بعد أربع مرات من التحفيز.
لم تكن هذه الدراسة الأولى التي تُظهر أن السلطة تجعل الأشخاص يركزون بقدر أكبر على المكافآت التي تُمنح إليهم أكثر من تركيزهم على سلامة الآخرين. قد يُقصد بالحافز التشجيع على السلوك السليم، إلا أنه قد يؤدي بدلاً من ذلك إلى حث الأشخاص أصحاب السلطة أن يفعلوا كل ما يلزم لضمان الحصول على مكافأتهم.
اقرأ أيضاً: المعضلة الأخلاقية في قلب شركات التقنية الكبرى
استنتاجات هذه الدراسة ذات أهمية لعالم الأعمال حيثما يمكن أن يكون للأشخاص ذوي السلطة تأثير كبير على المسارات المهنية والأعمال اليومية لمَن هم تحت إدارتهم، إلا أنّ الآثار المترتبة تتجاوز ذلك بكثير. فقد ذكرت الدراسة مثالين لم يسر فيهما تقديم الحوافز حسب الخطة: الأول، عام 1944، أُدين كينيث وينيمكو ظلماً بسوء السلوك الأخلاقي والاقتحام عنوة والسطو المسلح. وحُكم عليه بـ 40-60 عاماً في السجن، رغم أن الضحية قالت إنها لم تتمكن جيداً من رؤية المعتدي. ومن بين الأدلة التي أدانته كانت الشهادة التي أدلى بها زميله في السجن مقابل تفادي عقوبة السجن مدى الحياة. والمثال الثاني، عام 2014، عندما أخبر عمدة مدينة إدموندسون في ولاية ميزوري الأميركية الشرطة المحلية أن رواتبهم سوف تزيد حسب عدد المخالفات المرورية التي يحررونها. ولاحقاً اتُّهم قسم الشرطة بتحرير مخالفات زائفة بأعداد غير مسبوقة، خصوصاً ضد المواطنين الأميركيين من أصل أفريقي.
يُشير الباحثون في حديثهم عن استجابة أصحاب السلطة للحوافز إلى أنّ استجابة أصحاب السلطة للحوافز غير مؤذية في الأصل، ولكن يَغلب أن تظهر المشكلات المتعلقة بها عندما تتسبب السلوكيات، التي تم تحفيزها، في أن ينقلب الأشخاص أصحاب السلطة على هؤلاء ذوي السلطة الأضعف. ولعدم تحوُّل الحوافز إلى مصدر أذى، يمكن تحفيز السلوكيات التعاونية مثل زيادة رضا الموظفين أو استبقائهم. إذا أخذنا في الاعتبار كم يُمكن أن تؤثر الحوافز على سلوك الأفراد، إيجاباً وسلباً، فمن شأن ذلك أن يساعدنا في استخدام الحوافز على نحو أكثر فاعلية وإنصافاً.