استثمار أنواع الإبداع الأربعة: كيف تطلق المؤسسات والموظفون العنان لإبداعاتهم بهدف الابتكار؟

11 دقيقة
المبادرات الإبداعية

الحقيقة المسلّم بها في الحوار حول مستقبل العمل هي فكرة أن وظائفنا ستنطوي على مزيد من المبادرات الإبداعية الخلّاقة. ويبدو أن المنتدى الاقتصادي العالمي وشركة ماكنزي وكل مركز تفكير رئيسي تقريباً متفقون على تلك الحقيقة ويقدمون بيانات هائلة لدعمها بالفعل. ولا ينطوي هذا التوجه الإبداعي على أتمتة المهام الروتينية فحسب، بل يرتبط بالوتيرة المتسارعة للتغيير والتعقيد المتزايد للأعمال، ما يتطلب استجابات مبتكرة ومتواترة للتحديات الجديدة.

ويُدرج العديد من الشركات اليوم الإبداع ضمن الكفاءات الأساسية المطلوبة من الموظفين في جميع المستويات وفي مختلف الوظائف، كالمبيعات والتسويق والمحاسبة والعمليات وخدمة العملاء، لا سيّما الموظفين العاملين في الخطوط الأمامية. لذلك يجب أن يتمتّع الأفراد ومدراء المواهب بالذكاء لتعزيز هذه المهارة وتنميتها. وعلى الرغم من أن علم الإبداع حديث العهد مقارنة بالمجالات الأخرى، كعلم النفس وعلم الأعصاب الإدراكي، يساعدنا فهمه على تحديد توجهات جديدة للتنمية الإبداعية. ونعرض في هذه المقالة تصنيفاً يقسم التفكير الإبداعي إلى أربعة أنواع: الدمج أو إظهار أوجه التشابه بين شيئين مختلفتين؛ والفصل أو إبراز أوجه الاختلاف في أشياء متماثلة أو تقسيمها إلى أجزاء؛ والتمييز بين الشكل والخلفية، بمعنى إدراك وجود فرق بين الفكرة الهدف (الشكل) والأفكار المنافسة (الخلفية)؛ والتفكير البعيد المدى، الذي يعني تخيّل أفكار مختلفة تماماً عن الحاضر.

يميل معظمنا بشكل فطري إلى تبنّي طريقة تفكير واحدة فقط من تلك الطرق الأربع، وإدراك ماهيتها مهم جداً. لكن يمكننا من جهة أخرى تعلّم صقل مهاراتنا الإبداعية في الطرق الأخرى. وعلى المدراء بالتالي تحديد نقاط قوتهم وتعلّم كيفية تحقيق التوازن بين أنواع التفكير التي يتبناها أعضاء فرقهم لتنفيذ المشاريع الإبداعية. ويمكن للمؤسسات استخدام هذا التصنيف لتعزيز قدرة قوى العمل على الابتكار.

يميل معظمنا بشكل فطري إلى تبنّي طريقة تفكير واحدة فقط من طرق الإبداع الأربع، وإدراك ماهيتها مهم جداً.

الدمج

قد يكون الدمج محلياً، كالجمع بين المفاهيم، أو شاملاً، كوضع نظرية شاملة موحدة. كان أشهر عالم رياضيات في القرن السابع عشر، إسحاق نيوتن، عبقرياً في مجال التكامل. فبعد أن ابتكر حساب التفاضل والتكامل، وهو مفهوم تكاملي بحد ذاته، توصل إلى فكرة جعلته أكثر شهرة. وتدور أحداث القصة حول تفاحة أيضاً، لكن ليست تلك التي سقطت على رأسه. فعندما نظر من نافذة بيته في إحدى الليالي، لاحظ أن قطعة فاكهة يبلغ طولها بوصتان وعلى بعد 20 قدماً منه على الأرض تشغل نفس المساحة المرئية كما القمر البعيد. ولم يتساءل عن الوهم الناجم عن المنظور آنذاك، بل عما إذا كانت القوة التي تجذب التفاحة إلى الأرض مماثلة للقوة التي جعلت القمر في مداره، وهي الفكرة التي قادته إلى وضع قانون التربيع العكسي، بمعنى أن الجاذبية بين جسمين تتناسب عكسياً مع مربع المسافة التي تفصل بينهما. وينطوي العديد من الاكتشافات العلمية على مفهوم الدمج أيضاً.

والدمج شكل رئيسي من أشكال الابتكار المؤسسي اليوم. لنتأمل جهاز آيفون الذي طورّته شركة آبل. يعود السبب وراء تحقيق مصمميه النجاح إلى إدراكهم أن رقمنة أدوات مثل الكاميرات والهواتف ومشغلات الموسيقى تستلزم طريقة واحدة لاستخلاص البيانات وتخزينها واسترجاعها ونقلها تتمثّل في أشباه الموصلات وشاشات إل سي دي (LCD)؛ وهو ما يعني إمكانية دمجها في جهاز واحد، ولعله أقوى أداة توصّل إليها العلم اليوم. وبالعودة بالزمن للوراء، وتحديداً قبل أربعة عقود، لم يكن للهاتف المعلّق على حائطك آنذاك أي ارتباط بجهاز التسجيل أو بالكاميرا المليئة بالمشاهد التي تحتاج إلى معالجة قبل طباعتها.

كيف يتجلى الإبداع الاندماجي في العمل اليومي؟ لنفترض وجود شركة تبيع مستلزمات المكاتب بالتجزئة ولنطلق عليها اسم، كابيلا بيبر. ترغب شركة كابيلا في جذب مزيد من الزبائن من جيل الألفية، وتكلّف أحد الخبراء المتخصصين في التسويق برسائل البريد الإلكتروني، جيروم، بالعمل على تلك المهمة، ليجد بدوره العديد من الدراسات التي تظهر أن المهنيين في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم هم من مناصري مواصلة العمل عن بُعد أو العمل الهجين بعد الجائحة. ويفترض أن المجموعتين اللتين تتعامل معهما شركة كابيلا كمجموعتين متميزتين، وهما جيل الألفية والعاملين عن بُعد، هما مجموعة واحدة من مشتريي مستلزمات المكاتب. ويراجع جيروم تحليلاً أجراه فريقه حول الارتفاع الحاد في مشتريات المكاتب المنزلية في ربيع عام 2020 ويشرع في تحديد العروض الترويجية الناجحة التي أُرسلت عبر البريد الإلكتروني والتي استهدفت العاملين عن بُعد آنذاك. ويختار عرضاً ترويجياً قديماً يقدم عبوات حبر مجانية للطابعة عند شراء الورق بالجملة ويجري بعض التعديلات على التركيبة السكانية المستهدفة الجديدة، ما يؤدي إلى زيادة نسبة النقر لتصل إلى 35% مقارنة بمتوسطة الشركة عند استهداف زبائن جيل الألفية.

الفصل

ينطوي النوع العكسي من أنواع التفكير الإبداعي على الفصل، وتاريخ العلم مليء بالأمثلة، حيث يقسّم الجدول الدوري للعناصر الأرض والهواء والنار والماء إلى 118 جزءاً. كما يتوصّل العلماء إلى الابتكارات الطبية غير المسبوقة دائماً من خلال فصل ما كان يُعتقد أنه مرض واحد إلى عدة أمراض تمكّنهم من معالجة كل منها بدقة أكبر. ويعود السر وراء نجاح أحد أعظم ابتكارات التصنيع على الإطلاق المتمثّل في خط التجميع إلى الفصل. فقبل الثورة الصناعية، كان من الطبيعي أن يتولى شخص واحد من الحرفيين عملية إنتاج سلعة من البداية حتى النهاية. فالبنادق على سبيل المثال، صنعها أفراد مهرة في كل من الأعمال الخشبية والمعدنية؛ وينطبق الشيء نفسه على صناديق السفر الخشبية والساعات. ثمّ ابتكر المخترع السويدي كريستوفر بولهيم مفهوم الأجزاء القابلة للتبديل التي يمكن فصلها عن الكل واستخدامها في مجموعة متنوعة من المنتجات. شكّك كثير من الناس بفكرته في بادئ الأمر، لكن عندما أعلن الفرنسي أونوريه بلان عام 1785 قدرته على تجميع مسدس من خلال اختيار مكونات من مجموعة كبيرة من الأجزاء القابلة للتبديل، أصاب الناس حالة من الذهول. وأسفرت تلك الفكرة عن مزيد من الفصل للأعمال البشرية، ما وفّر قدرة تصنيع أسرع وأكثر اتساقاً وقابلية للتوسع لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

ولعلّ التطبيق الأحدث لمفهوم الفصل هو الحوسبة الكمومية، وهو تطبيق مهم لفيزياء الجسيمات يقسّم المادة إلى أصغر مكوناتها. وعلى الرغم من أن البت (bit) في الحوسبة الكلاسيكية يتكون من منزلة واحدة (قيم ثنائية) تكون إما صفر أو واحد، يمكن للبت الكمي أو الكيوبت (qubit) في الحوسبة الكمومية تخزين قيمتي الصفر والواحد في الوقت نفسه، ما يزيد من قوة الحوسبة. على سبيل المثال، في عام 2019، استغرق معالج جوجل الكمي سيكامور (Sycamore) 002 ثانية لإنهاء مهمة كانت لتستغرق 10,000 عام لإكمالها باستخدام جهاز كمبيوتر كلاسيكي.

وقد يكون هذا النوع من الإبداع مفيداً في العديد من السيناريوهات المهنية. وبالعودة إلى مثال شركة كابيلا، لنفترض أن مديرة المنتجات، كارمن، تجري دراسة على عروض الشركة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى جيل الألفية. فتفصل المشترين أولاً إلى مستهلكين أفراد ومشترين تجاريين، أولئك الذين يشترون عادة لشركاتهم الصغيرة، والذين يمكن تقسيمهم أيضاً إلى أشخاص يطلبون مجموعة متنوعة من المستلزمات لتتضاءل مشترياتهم بعد ذلك، وأولئك الذين يشترون منتجاً واحداً أو اثنين فقط بكميات كبيرة ويحافظون على حجم ثابت من الطلبيات أو تزداد طلبياتهم حتى. وبالتركيز على المجموعة الثانية، تصل كارمن إلى استنتاجها من خلال تحديد المنتج الذي يشتريه أغلب المشترين التجاريين في الثلاثينيات من عمرهم، وهو دفتر ملاحظات يحمل علامة كابيلا التجارية بمقاس 15x20 سنتيمتر وغلاف مصنوع من ألياف النسيج. وتدرك من خلال إجراء المقابلات أن الناس يشترون هذا المنتج لسببين اثنين، الأول ليستخدمها الموظفون في تدوين الملاحظات والثاني لتقديمها كهدايا للعملاء. وبما أن شركة كابيلا تبيع دفاتر الملاحظات بكميات كبيرة للشركات فقط، أصبحت تلك المنتجات مرغوبة. وتتمكن كارمن من خلال تلك الرؤية الثاقبة من تقديم مجموعة جديدة من دفاتر الملاحظات الفاخرة بمختلف الأحجام والألوان، وجعلها متاحة للمشترين الأفراد والتجاريين على حد سواء مع خيار نقش الأحرف الأولى من الاسم أو شعار الشركة على الغلاف. وبالتالي يمكن تقسيم منتج واحد إلى عدة خطوط إنتاج لأغراض مميزة.

التمييز بين الشكل والخلفية

يأتي مصطلح "التمييز بين الشكل والخلفية" (Figure-Ground Reversal) من مجال الدراسات البصرية ويشير إلى قدرتنا على تحويل التركيز من الشكل إلى الخلفية لإدراك وجود صورة مختلفة جذرياً. وتوضح الصورة الظلية المشهورة باللونين الأبيض والأسود التي تعرض وجهين في صورة بروفايل، أو تعرض مزهرية في المنتصف، قدرة عقولنا على التمييز بين الشكلين.

ويتمثّل أحد أهم الاكتشافات العلمية العصبية في حياتنا في شبكة الوضع الافتراضي، وهي مجموعة من مناطق الدماغ التي تنشط في حالة التعطل العقلي التي تحدث عند محاولة التمييز بين الشكل والخلفية. وقد حدد الباحثون المتخصصون في مجال التصوير الوظيفي بالفعل شبكات "المهام الإيجابية" في الدماغ، تلك المناطق التي تنشط عندما ننخرط في أنشطة مركزة، مثل لعبة تغيير الحروف والاستماع إلى المحاضرات. وفي معظم تلك التجارب، حصلت حالة التحكم بالعمليات الفكرية في فترات الراحة التي افترضوا أن الدماغ كان فيها ساكناً وهادئاً. ثم وجد العلماء بعد إجراء العديد من الدراسات أن أجزاء الدماغ الوسطى والفص الصدغي الأوسط ينشط باستمرار في أثناء الراحة، ما يشير إلى أن الدماغ لم يكن في حالة ركود، بل في حالة نشاط يقظ. وتعلمنا آنذاك أن الشيء نفسه يحدث خلال أحلام اليقظة، فما نفعله خلال تلك الفترات هو التخيّل والتخطيط. ولم يكن الباحثون يحاولون تحديد الحالة العقلية التي نتوصل فيها إلى أفضل الأفكار حينها، لكنهم توصلوا إلى ذلك الاستنتاج بالفعل.

وفيما يلي مثال آخر على التمييز بين الشكل والخلفية. ففي عام 1957، عندما أطلق برنامج الفضاء السوفيتي أول قمر صناعي يدور حول الأرض، سبوتنيك، استخدم الجيش الأميركي نقطتين متباعدتين على الأرض لتتبع سرعة سبوتنيك وموقعه باستخدام ظاهرة تأثير دوبلر. ثم اتضح عام 1958 أن التطبيق الأكثر جدوى للتكنولوجيا كان لغرض معاكس تماماً تمثّل في استخدام نقاط في الفضاء لتتبع الأجسام على الأرض. وطوّرت وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الأميركية (Advanced Research Projects Agency) في ذلك العام نظام "ترانزيت" (Transit) لحساب موقع أي جسم متحرك وسرعته باستخدام قمرين صناعيين متباعدين في الفضاء. وتُعرف هذه التقنية اليوم باسم نظام تحديد المواقع العالمي جي بي إس (GPS).

ويتجسّد مفهوم التمييز بين الشكل والخلفية في مختلف القطاعات أيضاً. فقد تم تطوير مجموعة خدمات أمازون ويب سيرفيسز (Amazon Web Services) استجابة لحاجة شركة أمازون المتمثّلة في توسيع نطاق بنيتها التحتية. ثم أدرك مطورا الخدمة، كريس بينكهام وبنجامين بلاك، حاجة شركات أخرى إلى الحل الذي طوراه وافترضا إمكانية جعله منتجاً جذاباً يمكن تسويقه. وتُعدّ خدمات أمازون ويب سيرفيسز اليوم أحد الأعمال التجارية الرائدة للشركة مع إيرادات بلغت 45 مليار دولار عام 2020. وبالمثل، بدأت منصة سلاك، وهي منصة التراسل الواسعة الانتشار، بصفتها منتجاً داخلياً لمساعدة شركة تيني سبيك (Tiny Speck) التي يملكها ستيوارت باترفيلد في تطوير لعبة فيديو. وعلى الرغم من توقف ذلك العمل، واصل الفريق تطوير المنصة وتحويلها إلى تطبيق للتراسل، وتم طرح أسهم منصة سلاك للاكتتاب العام عام 2019. وفي عام 2021، اشترتها شركة سيلز فورس (Salesforce) مقابل ما يقرب من 28 مليار دولار.

لنتخيّل أن روبرت، وهو مدير في متجر كابيلا في شيكاغو، عاد لتوه من اجتماع القيادة الذي دار حول استراتيجية الشركة الرامية إلى جذب زبائن من جيل الألفية. ويقضي وقته خلال الأسابيع التالية في مراقبة عادات التسوق لدى الزبائن في المتجر. حيث يركز على الزبائن الذين يرتدون ملابس توحي أنهم أشخاص مهنيون والذين يبدو أنهم في أواخر العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات من أعمارهم، لكنه لا يرى سوى عدد قليل جداً منهم، ويفشل في تحديد أنماط شرائهم. وعلى الرغم من أن روبرت يعمل في أيام الأسبوع العادية، تستدعيه الإدارة أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع للعمل محلّ زميله ويواصل كتابة ملاحظاته. لم يقابل في البداية أي شخص من التركيبة السكانية المستهدفة، لكنه تعرّف بعد ذلك على زبون متكرر زار المتجر في وقت سابق من الأسبوع، لكنه لا يرتدي ملابس العمل الرسمية هذه المرة، بل ملابس غير رسمية ويتسوق مع ابنته التي ما تزال في عمر الدراسة. ليدرك روبرت أنه تغاضى عن نصف فئة جيل الألفية في ذلك اليوم وحده لأن الزبائن لم يتسوقوا كأشخاص مهنيين، بل كآباء، وكانوا يبحثون عن المستلزمات الفنية واللوازم المدرسية. ويقرر لذلك وضع تلك الأصناف في الممرات الوسطى للمتجر، وجعل اللوازم المكتبية على جانبيها، ليحتل متجره في غضون بضعة أشهر الريادة في المنطقة في المبيعات للتركيبة السكانية المستهدفة. ويوضح روبرت لقادة شركة كابيلا أن السر يكمن في التركيز على السياق الأوسع والشامل لحياة أفراد جيل الألفية.

يتضمن التفكير البعيد تخيّل أفكار بعيدة عن الواقع. تصور العديد من العبقريين المبدعين مستقبلاً جديداً جذرياً لم يسعنا تصوره في البداية.

التفكير البعيد المدى

أخيراً، يتضمن التفكير البعيد تخيّل أفكار بعيدة عن الواقع. ولطالما وُصف العديد من العباقرة المبدعين بأنهم أشخاص تصوروا مستقبلاً جديداً جذرياً لم يسعنا تصوره بالفعل. على سبيل المثال، أفاد المخترع نيكولا تيسلا ذات مرة أن عملياته الإبداعية تنطوي على تخيّل عملية بناء العنصر في عقله بالكامل وتحسينه وتشغيله حتى. وكان من بين بنات أفكاره البعيدة الراديو ومصباح النيون وطاقة التيار المتردد والطاقة الكهرومائية.

ويتوصّل المبتكرون أحياناً إلى أفكار بعيدة المدى لا يكون السوق جاهزاً لها. على سبيل المثال، اخترع عالم الكمبيوتر وعالم التشفير ديفيد تشوم النقود الرقمية في بحث أجراه عام 1983، أي في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الكمبيوتر الشخصية في طريقها إلى الرواج، وقبل وقت طويل من انتشار الإنترنت. وفي عام 1994، أرسلت شركته ديجي كاش (DigiCash) أول مدفوعات إلكترونية، لكن غياب بيئة العمل الاقتصادية والتكنولوجية اللازمة لدعم التبنّي الواسع النطاق للعملة الرقمية أدى إلى إغلاق الشركة في عام 1998. وعلى الرغم من أن تشوم مهّد الفكرة للشركات الأخرى، كالعديد من أصحاب السبق الآخرين، فإنه لم يحظ إلا بقدر ضئيل من المنفعة جراء نجاح اختراعه.

ودأب المبتكرون ذوو النظرة البعيدة الأكثر نجاحاً إلى سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل بإحدى طريقتين: الأولى هي تسريع نضج السوق من خلال العروض الترويجية والشراكات وعمليات الطرح المركزة في الأسواق. وكمثال على ذلك شركة المدفوعات الرقمية، باي بال. فعندما تأسست الشركة عام 1999، كان تبنّي المستهلكين لمجموعة خدماتها منخفضاً. لكن بدلاً من أن تحاول الشركة تطوير رؤية طموحة إلى أن يصبح المستهلكون جاهزين لاستخدام خدماتها، ركزت على تطوير قاعدة مستخدميها من خلال منصة إيباي (eBay)، وهي منصة متخصصة في خدمات الدفع الإلكتروني. كان تبنّي المستهلكين لخدمات شركة إيباي مثالياً لدرجة أن شركة إيباي استحوذت على شركة باي بال في عام 2002، ثم انقسم الكيانان في غضون عقد من الزمن نتيجة توسع خدمات باي بال بما يتجاوز خدمات الشركة الأم. وتُستخدم خدمات شركة باي بال اليوم في 200 دولة، وتجاوزت إيراداتها 25 مليار دولار في عام 2021.

وهناك طريقة ثانية لمساعدة المبتكرين ذوي النظرة البعيدة على أن تصبح آراؤهم الجذرية حقيقة واقعة في نهاية المطاف تتمثّل في الابتكار "العكسي"، بمعنى تطوير تكنولوجيا وسيطة قابلة للتسويق على الفور وتجهز أصحاب المصلحة على طول منحنى النضج للابتكار الفعلي. تأمّل مثال السيارات الذاتية القيادة الموجودة بالفعل لكنها لم تنتشر بعد لأسباب عديدة، بما فيها الحواجز التكنولوجية والتنظيمية وحواجز البنية التحتية. وتمثّل عدم ثقة المستهلك عقبة أخرى، فالسائقون ليسوا مستعدين بعد لتسليم عجلة القيادة. ونرى لذلك انتشار منتجات تمهيدية، مثل مثبت السرعة وميزة الركن الأتوماتيكي للسيارات. وهي عروض وابتكارات تدريجية هدفها جعل الناس أكثر تقبّلاً لمستقبل السيارات بلا سائق.

وحققت شركة تيسلا للسيارات الكهربائية فوزاً بعيداً عن طريق بيع المركبات الكهربائية بصفتها مشتريات فاخرة قبل أن يطوّر الاقتصاديات نماذج أكثر شيوعاً. وهي تمهّد الطريق اليوم للمركبات الذاتية القيادة من خلال تقديم ابتكارات تمهيدية كنظام القيادة الآلية التقليدي وخاصية "القدرة الكاملة على القيادة الذاتية" التي تمنح السيارة مزيداً من التحكم. وتساعدنا شركة تيسلا اليوم بالفعل على تقبّل رؤية كانت غير مستساغة سابقاً بقيادة مؤسسها المبدع، إيلون ماسك.

ويمكن للمفكرين ذوي الرؤية البعيدة أن يجدوا تحديات كبيرة توفر لهم فرصاً للتألق حتى في المؤسسات التي يكون الابتكار فيها تدريجياً. على سبيل المثال، تواصل بايبر، وهي مصممة في شركة كابيلا، طرح فكرة على مدرائها منذ عدة سنوات تتمثّل في جعل مكاتب الشركة خالية تماماً من الأوراق. وشجعتها استراتيجية الشركة الجديدة المتمثّلة في جذب جيل الألفية على وصف رؤيتها على هذا النحو: مواطنون رقميون واعون بمنظومة العمل يعملون في بيئة عمل افتراضية سريعة الخطى يتجنبون المستلزمات المكتبية ويستعيضونها بالأدوات الرقمية بالكامل. ومع ذلك، تفترض بايبر المصممة في شركة كابيلا أن الموظفين سيرغبون في الحصول على منتجات مادية ترتبط بالعالم الرقمي لأغراض ترويجية أو تذكارية. وتطوّر لذلك خطاً لإنتاج قطع تذكارية للاحتفاء بالتقدّم في مشاريعهم، مثل "تذكارات الصفقات العقارية التجارية" المزوّدة بشاشات تتغير عند تشييد المباني، أو لوحات تقدير الزبائن مع شاشات العرض التي تعرض مقاييس استخدام محدثة لمجموعة البرمجيات التي اشتراها الزبون. ومكّنت العروض التقديمية التي قدمتها بايبر شركة كابيلا من التفكير بشكل أوسع وأكثر جرأة حول احتياجات التركيبة السكانية ومكّنت بايبر من إثبات قدرتها الفريدة على مساعدة الشركة في مواكبة توجهات القطاع.

الخطوات اللاحقة

ما نوع الإبداع الذي تستخدمه أكثر من غيره؟ ينطوي كل نوع على ميزة فريدة ونقاط مبهمة محتملة. فقد يحاول الأشخاص الذين يتبنون نهج الدمج رؤية أوجه التماثل في المجالات المتناقضة، بينما قد يبالغ الأشخاص الذين يمارسون نهج الفصل في تعقيد حل بسيط.

وفهم نقاط قوتك كفرد هي الخطوة الأولى. ابحث عن مجالات لتطبيقها واحذر من الإفراط في استخدامها. وحثّ نفسك في فرصتك التالية للابتكار على التفكير في الأساليب التي لا تبدو طبيعية بالنسبة لك. واحرص على تحدي نفسك قبل أن تستقر على طريق للتقدم لاختيار نوع واحد على الأقل من الأنماط الأربعة للإبداع.

فإذا كنت تقود فريقاً، كيف تجعل مجموعة مهاراتك متوافقة مع مهارات المفكرين المبدعين الآخرين؟ وعندما تتلقى مقترحات من فريقك، هل تحصل على خيارات تجسّد أنماط الابتكار الأربعة؟ اطلب من أعضاء فريقك التفكير فيها خلاف ذلك.

وفكّر على المستوى التنظيمي في الابتكارات الحديثة لشركتك، على الصعيدين الداخلي والخارجي. هل تظهر أي أنماط؟ هل منتجاتك هي نتاج نهج الفصل عادة، على سبيل المثال؟ أم نتاج أسلوب الدمج؟ متى كانت آخر مرة استفدت فيها من فكرة التمييز بين الشكل والخلفية؟ هل يضم فريقك مفكرين ذوي نظرة بعيدة يحثون الآخرين على توسيع نطاق تفكيرهم؟ هل يأخذ مدراء التوظيف مزيج أنواع الابتكار في الحسبان عند تنمية فرقهم؟ الإبداع أمر حتمي لعالم العمل الجديد. وقد يوفر تعزيز الأنواع الأربعة من التفكير التباعدي على كل مستوى فرصاً أكبر لتحويل كل تحدٍ جديد إلى ابتكار ناجح.

سيمثّل الإبداع السر وراء أداء معظم الوظائف على أكمل وجه في العقود القادمة. ويعرض المؤلفون في هذه المقالة تصنيفاً يقسم التفكير الإبداعي إلى أربعة أنواع: الدمج، أو إظهار أوجه التشابه بين فكرتين مختلفتين؛ والفصل، أو إبراز أوجه الاختلاف في الأفكار المتماثلة أو توضيح فائدة تقسيمها إلى أجزاء؛ والتمييز بين الشكل والخلفية، بمعنى إدراك وجود فرق بين الفكرة الهدف (الشكل) والأفكار المنافسة (الخلفية)؛ والتفكير البعيد المدى، الذي يعني تخيّل أفكار مختلفة تماماً عن الحاضر. يميل معظمنا إلى التفكير بطريقة واحدة فقط من هذه الطرق الأربع، لكن يمكننا في الواقع صقل قدراتنا في طرق الإبداع الأخرى. وعلى المدراء فهم نقاط قوتهم وتعلّم كيفية موازنة أنواع التفكير ضمن فرقهم لتنفيذ المشاريع الإبداعية بنجاح. ويمكن للمؤسسات استخدام هذا التصنيف لتعزيز قدرة قوى العمل على الابتكار.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي