يمثّل التوقف الصادم نفسياً عن مزاولة أي نشاط كما حصل خلال جائحة "كوفيد–19" فرصة لإعادة وصل ما انقطع بحلّة جديدة، سواء مع أفراد العائلة أو الأصدقاء أو زملاء العمل أو حتى مع ذواتنا. وبالنسبة للشركات، تعتبرُ هذه اللحظة مناسَبة لإعادة تخيّل الدور الذي يمكن أن يؤديه الموظفون في مجال خدمة الزبائن. فحتى قبل الجائحة، كانت التكنولوجيا تزيد من إمكانية لجوء أصحاب العمل إلى أتمتة التفاعلات مع الزبائن؛ لذلك فإن العديد من المدراء سوف يبحثون غريزياً عن طرق للتخلص من الوظائف. وكانت آخر صدمة عالمية كبيرة – وتحديداً ركود العام 2008 – قد قادت إلى ما يطلق عليه الاقتصاديون اسم "تعافي البطالة"، بما أن الشركات توصلت إلى أن بمقدورها تدبّر أمورها بأعداد أقل من الموظفين.
سيكون تبنّي هذه المقاربة الآن ضرباً من الخطأ. فمن المؤكد أن تقود بعض عمليات تحسين الكفاءة إلى التخلص من وظائف معيّنة. غير أن معظم المدراء يجب أن يركزوا على ترقية الموظفين والرفع من شأنهم، وليس التخلص منهم، أي يجب عليهم التركيز على تغيير وظائف هؤلاء الموظفين للحصول على قيمة إضافية من خلال السماح لهم بتكوين روابط أعمق وأجدى مع الزبائن في اللحظات الأهم في حياة هؤلاء الزبائن.
في مقال بعنوان "الشفافية التشغيلية" (هارفارد بزنس ريفيو، مارس/ آذار – أبريل/ نيسان 2019)، شرحت كيف أن إظهار العمل الذي يقوم به الموظفون أمام الزبائن يمكن أن يقود إلى درجة أعلى من الرضا، والولاء، والاستعداد للدفع بين صفوف الزبائن. والدافع الأساسي وراء هذا التأثير هو قوة الارتباط والتفاعل. فعندما يرى الزبائن كيف يعمل الموظفون على حل مشاكلهم، فإنهم يُسبِغون على هذا العمل قيمة أكبر.
بناء على هذا الاستنتاج وما يرتبط به من أبحاث، وضعت دليل عمل لأصحاب العمل لمرحلة ما بعد الجائحة يركّز على خمس نصائح أساسية:
- أوجدوا الظروف التي تسمح للموظفين بالتفاعل مع الزبائن في أكثر الأوقات مدعاة لهذا الارتباط.
- ساعدوا الموظفين على زيادة عدد حالات التفاعل المفيدة هذه من خلال تغيير الحدود والقواعد التي يعملون ضمنها وبموجبها.
- وفّروا الطرق التي تسمح للزبائن بتقديم يد العون، وهم سيفعلون ذلك عن طيب خاطر إذا كان الموظفون قد تفاعلوا معهم بطريقة ذات مغزى. وهذا سيقود إلى قدر أكبر من الكفاءة.
- تأكدوا من قدرة الموظفين على رؤية أثر عملهم على حياة زبائنهم، لأن ذلك يعني أن عملهم سيُشعرهم برضا أكبر، وسيزيد من درجة تفاعلهم معه.
- استثمروا بعض القيمة الناتجة عن إعادة تصميم أدوار الموظفين في زيادة تعويضاتهم وتحسين جداول دواماتهم، لأن ذلك يمكن أن يجعل وظائفهم أكثر استدامة وأن يحقق قيمة إضافية.
التطبيق الأوضح لدليل العمل هذا هو في القطاعات التي يُعتبرُ التواصل فيها بين الزبائن والموظفين عملاً روتينياً. لكن التجارب الحديثة تكشف عن أن القدرة الكامنة لدى الموظفين على تعزيز الارتباط والتواصل والتفاعل مع الزبائن أكبر بكثير مما كنا نتخيل من قبل. فعلى سبيل المثال، أصبح الكثير من الناس خلال الجائحة يعرفون سعاة البريد وعمّال التعقيم الذين يخدمون منازلهم، تماماً كما كانوا يعرفون من قبل الحلاق، والنادل في المطعم، والساقي في المقهى، وغيرهم من العمال المعنيين بتقديم الخدمة. في الحقيقة، عندما يتعلق الأمر بالقطاعات التي كان التفاعل فيها سابقاً بين الموظفين والزبائن يقتصر على إنجاز العمليات فحسب، فإن المكاسب التي يمكن للمؤسسات تحقيقها من تمكين موظفيها من التفاعل مع الزبائن في اللحظات الهامة ستكون هائلة جداً.
بمجرد أن يعرف الزبائن ببساطة أن هناك شخصاً مستعداً لمساعدتهم، فإن ذلك سيترك أثراً عميقاً لديهم، ويزيد من درجة ثقتهم، ورضاهم، وولائهم على المدى البعيد.
التفاعل في اللحظات الهامة
عندما يتصور الناس أن تفاعلاً أو تواصلاً معيّناً يحظى بأهمية كبيرة – وأن عافيتهم الجسدية، أو العاطفية، أو الاجتماعية، أو النفسية، أو الاقتصادية قد تكون معرّضة للخطر نوعاً ما – فإن تلك اللحظة هي لحظة لمواجهة الحقيقة بالنسبة للمؤسسة، لأن تجارب الزبائن خلالها ستحدد الطريقة التي ينظرون بها إليها ويتفاعلون بها معها اعتباراً من تلك اللحظة فصاعداً، وهي ستجعلهم يعيدون تحديد تلك الطريقة التي يتفاعلون بها مع المؤسسة أيضاً. كما أن ترك الزبائن يواجهون المشكلة وحدهم يمكن أن يجعلهم أقل ثقة بخياراتهم، وأقل ثقة بالشركة عموماً، وأقل ميلاً إلى المحافظة على ولائهم. وعندما يكون الموظفون في وضع جيّد يسمح لهم بالتجاوب مع الحاجات الناشئة للزبائن، سيكون بمقدورهم المساعدة في تحقيق قيمة كبيرة من خلال إعادة صياغتهم للخدمة التي تقدّمها شركتهم وتمييزها عن منافسيها.
هذا التأثير قوي جداً إلى حد أن الزبائن ليسوا بحاجة بالضرورة إلى التفاعل مع موظف لكي تتحقق المنفعة. فبمجرد أن يعرفوا ببساطة أن هناك شخصاً مستعداً لمساعدتهم فإن ذلك سيترك أثراً عميقاً لديهم، ويزيد من درجة ثقتهم، ورضاهم، وولائهم على المدى البعيد كزبائن. على سبيل المثال، في إحدى التجارب الميدانية التي أجريتها مع ميشيل شيل من جامعة بوسطن، كان الزبائن الذين تقدّموا بطلب للحصول على قرض وتلقوا رسالة نصية من مسؤول القروض المعني بالعمل معهم الذي بادر بالتواصل معهم ودعاهم في الرسالة للاتصال هاتفياً إذا كان لديهم أي أسئلة أكثر ميلاً بنسبة 16% إلى المضي قدماً بالقرض (إذا ما نالوا الموافقة)، مقارنة بالزبائن الذين لم يتلقوا مثل هذه الدعوة – حتى لو لم يقبلوا هذه الدعوة أبداً.
قطاع الخدمات هو المجال الذي يقوم على مساعدة الناس للناس. وعادة ما يُولدُ الناس مزوَّدين بالمهارات التي تمكّنهم من مساعدة بعضهم البعض. يساعدنا التعاطف مع الآخرين على فهم شعورهم وتصميم استجاباتنا بناءً على ذلك. في الحقيقة، ثمة مؤسسات عديدة تراجع طلبات المتقدمين لشغل الوظائف لديها بحثاً عن مؤشرات تدل على قدرتهم على التعاطف، والانتباه إلى التفاصيل، والتركيز على خدمة الآخرين. ومع ذلك، وبعد توظيف الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الصفات، فإن تصميم وظائفهم قد يمنعهم من التصرف بالطريقة العفوية التي يجيدونها. فهم قد يفتقرون إلى الوقت، أو الموارد، أو الدافع، أو السلطة التقديرية للتفاعل مع الآخرين. ويمكن لمعالجة هذه المشاكل أن يسهم في إطلاق العنان لقيمة كبيرة للزبائن، والشركات، بل وحتى للموظفين أنفسهم.
تعديل حدود الوظيفة
كيف بوسع القادة إيجاد الظروف التي تسمح بتحقيق تفاعل ذي مغزى؟ تكمن المفارقة في أن أفضل مكان يمكن البدء فيه هو بالضبط النقطة التي يمكن للتكنولوجيا أو أي إجراء آخر فيها أن يصبح هو من يتولى إنجاز النشاط. فعوضاً عن أن تطرحوا السؤال التالي: "هل بوسعي التخلص من هذا الموظف؟، اطرحوا السؤال التالي: "هل بوسعي تعديل هذه الوظيفة بما يسمح لي بالتخلص من العلاقة الروتينية التي تفضي إلى نهاية مسدودة مع الزبائن، والسماح للموظفين بالتجاوب معهم بطريقة سلسة تساعدهم في تلبية احتياجات هؤلاء الزبائن وإقامة صلة قائمة على الألفة مع الزبائن لفترة مهما كانت وجيزة؟".
على سبيل المثال، افتتحت أمازون أول متجر متكامل لها في سياتل"أمازون غو" (Amazon Go) – بعد ما يقرب من 10 سنوات من احتضان المفهوم وتجريبه ضمن صيغ ومتاجر أصغر حجماً – في وقت كانت الجائحة فيه تترسخ. في هذا المتجر، توجد تكنولوجيا تصوير بصري تتتبّع الأشياء عندما تؤخذ من الرفوف، بحيث يكون بمقدور الزبائن تعبئة البضائع التي يريدونها في عربة التسوق والخروج من المتجر مباشرة بعد الانتهاء من عملية الشراء، بحيث تُخصم الفاتورة من حساباتهم تلقائياً. وبالتالي فإن الجزء الأكثر إرهاقاً في رحلة التسوق – أي الوقوف في الطابور وإنجاز عملية دفع ثمن البضائع – أصبح مؤتمتاً بالكامل ودون تدخّل البشر.
على الرغم من ذلك، يظل اعتماد "أمازون غو" على الموظفين كبيراً. صحيح أن الواحد منهم لا يجلس خلف صندوق الدفع، إلا أنهم موجودون في الصالة، وجاهزون لمساعدة المتسوقين، والتقليل من الألم الذي يعانون منه في العثور على ما يريدونه وهو أكثر شيء يشكّل إزعاجاً لهم عادة. ويعمل الموظفون الذين يرتدون زيّاً موحداً لامعاً برتقالي اللون على إعادة ملء الرفوف، وترتيب المعروضات، ويشرحون للمتسوقين في الوقت ذاته التكنولوجيا المطبّقة في المتجر، ويقدّمون لهم الإرشادات بخصوص المنتجات.
بعد أن يتعلّم الناس كيف يتسوقون في متاجر "أمازون غو"، وبعد أن تكتشف أمازون الطريقة الأنسب لأتمتة عملية إعادة ملء الرفوف بالبضائع، قد تنتقل الشركة إلى نموذج يعتمد على عدد أقل من الموظفين. غير أن ثمة مساراً بديلاً يمكن أن يميّز الشركة عن غيرها ويتمثل في إخضاع الموظفين للتقييم، وتمكين من يعملون في أقسام محددة من تحقيق قيمة أكبر للزبائن عبر مراكمة معرفة متخصصة بالمنتجات، وتزايد التوجّه نحو تبنّي دور يقوم على تقديم المشورة للزبائن وبناء العلاقة معهم. وإذا ما صقل المتخصصون في مجال معيّن خبراتهم عبر التفاعل مع الزبائن، فإنهم قد يكونون قادرين مثلاً على تقديم المشورة بخصوص أنواع معيّنة من المشروبات يمكن شراؤها معاً، أو التوصية بأطعمة مغذية تناسب وجبات الغداء الخاصة بأطفال الصف الخامس في المدارس. ربما يمكن لأمازون دعم هؤلاء الموظفين الذين رقّتهم من خلال ربطهم بمحرك التوصية الخاص بها أو تزويدهم بالتكنولوجيا لمساعدة الزبائن على طلب الأشياء غير الموجودة في المتجر باستعمال خدمة "برايم"، فضلاً عن التجارب التي ستعزز نقاط قوّة الشركة.
إن إعطاء الموظفين الوقت والمجال لمضاعفة جهودهم في المهام التي يُعتبرُ البشر أقدر من يستطيع إنجازها، ولا سيما التفاعل مع البشر الآخرين واستعمال أسلوب التعاطف لفهم المشاكل والطرق الخلاقة لحلها، قد يمكّنهم من خلق قيمة أكبر بكثير مقارنة بالقيمة التي كانوا يحققونها في مناصبهم الأصلية. فإذا ما أصبحت وظائف الموظفين أكثر تركيزاً على العلاقات مع الزبائن، فإنهم سيكونون بحاجة إلى تدريب وأنظمة تدعم تطورّهم، وإلى موارد وسلطة تقديرية لتسهيل عملية تقديم إجابات لائقة للاستفسارات غير المتوقعة من الزبائن، وطريقة لنقل الأفكار والآراء التقييمية إلى القيادة بخصوص كيفية تعزيز أدوارهم وتحسين ما تقدّمه الشركة من عروض.
هناك طرق أخرى لمساعدة الموظفين على التفاعل مع الزبائن في أهم اللحظات بالنسبة لهم. في بعض الحالات، يمكن لتدريب موظفين من أقسام متعددة أن يسهم في زيادة المرونة من خلال تمكين زملاء العمل من أن يحل أحدهم مكان الآخر في المهام الروتينية عندما يحتاج الزبائن إلى انتباه. في حالات أخرى، يمكن نقل العمل إلى الشركاء في سلسلة التوريد، كما هو الحال عندما يضع المصنعون بطاقات الأسعار على المنتجات أو عندما يرتّب الموزعون مخزونات البضائع في صالة البيع. الأكيد هو أن الشركات البارزة كانت ومنذ وقت طويل قد أعطت الأولوية للعلاقات المباشرة التي تحصل مع الزبائن في الميدان. لكن القيود التي فرضتها الجائحة أجبرتنا على التشكيك في الحكمة التقليدية بخصوص كيفية تحديد الطريقة الفضلى لإنجاز الأعمال.
في بعض الأحيان، يمكن التخلص من المهام بأكملها عبر إجراء عملية إعادة تصميم متأنية. فها هي شركة "غيتواي" (Getaway)، التي تؤجّر مقصورات صغيرة في الغابات قد تخلّصت من العديد من الثوابت في قطاع الضيافة التقليدي، فهي ليس لديها مكتب استقبال، ولا عمّال حمل أمتعة، ولا خدمة ترتيب الأسرّة، ولا خدمة غرف، وليس هناك تنظيف للغرف في أثناء إقامة الضيوف فيها. بل يقوم نموذج الشركة على فكرة ترك الناس يشعرون أنهم يدخلون إلى مقصورتهم في غابة. فعندما يصلون، يستعملون رمزاً لدخول مكان شديد النظافة. وستكون هناك رسالة شخصية مكتوبة بخط اليد تركها "خادم المقصورة" إضافة إلى علبة من الشوكولاتة أو أي هدية بسيطة أخرى كنوع من الترحيب بالضيوف.
تهدف "غيتواي" إلى تقليص التفاعل بين الزبائن والموظفين إلى الحد الأدنى لتسمح للضيوف بالتمتع بأوقاتهم معاً والاسترخاء في الطبيعة. غير أن كل مقصورة مزودة بهاتف أرضي للتواصل مع الموظفين على الفور في حال وجود أسئلة أو الحاجة إلى طلب المساعدة. يتعامل نموذج خدمة الزبائن في الشركة مع كل ضيف كما لو أنه صديق عزيز يقيم في منزل خاص. وينادي أعضاء الفريق الضيوف بأسمائهم دون ألقاب، ويستجيبون للطلبات بسرعة، ويضيفون لمستهم الشخصية كلما أمكنهم ذلك. يسمح استبعاد "غيتواي" للمهام غير الضرورية للموظفين بتحقيق نوع من التفاعل العاطفي مع الضيوف في وقت يُعتبرُ فيه ذلك الشيء ضرورياً.
لا يسمح ترك الزبائن يقدّمون يد العون بزيادة مستوى الكفاءة فحسب، وإنما هو غالباً ما يسهم في تحسين تجاربهم. فعندما نكون قادرين على المساهمة بطريقة ما، فإن ذلك يعطينا شعوراً أفضل عن أنفسنا.
إفساح المجال للزبائن لتقديم يد العون
توصّل بحث أجريتُه إلى أن منح الموظفين القدرة على تلبية احتياجات الزبائن بسلاسة يمكن أن يزيد ثقة الزبائن في المؤسسة وأن يعمّق علاقتهم بها. وعندما يكون الجهد المبذول من الموظفين واضحاً، فإن الزبائن يقدّرون الخدمة التي يحصلون عليها أكثر وينتابهم شعور ملح بضرورة المعاملة بالمثل. في الحقيقة، هم مستعدون لإنجاز بعض الأعمال بأنفسهم طالما أن هناك ثلاثة شروط تلبّى ألا وهي: هم يعلمون كيف يستطيعون المساعدة؛ وهم قادرون على المساعدة، وهم يؤمنون أن مساعدتهم هامة.
لا يعني هذا الاستنتاج الإلقاء بكل المهام على كاهل الزبائن. بل هو يشير إلى ضرورة إدراك أن هناك قدرة ورغبة بشريتين بتقديم يد العون والمساهمة في تحقيق الأهداف المشتركة. لا شك أن الابتعاد عن الافتراض الأساسي القائل بضرورة عدم وجود أي تفاعل من الزبون يمكن أن يقود إلى أثر إيجابي هائل. في "غيتواي"، مثلاً، توجد في أسفل البطاقة الشخصية التي يكتبها خادم المقصورة بخط يده جملة تقول: "ستدخلون السعادة إلى قلوبنا إذا ما قمتم بشطف أواني المطبخ أو رتّبتم أسرّتكم قبل أن تغادروا". ينظف غالبية ضيوف "غيتواي" غرفهم، ما يسهّل على خدم المقصورة التميز في أعمالهم.
وثمة مثال آخر. فعندما بدأت بلدية مدينة بوسطن تعرض على السكان صوراً للعمل الذي كان موظفوها ينجزونه استجابة لطلبات الخدمة التي كانت ترسل إليهم (مثل محو الرسوم الجدارية وإصلاح الحفر في الطرقات)، وجدتُ أنا وإيثان بورتر من جامعة جورج واشنطن، ومايكل نورتون من كلية هارفارد للأعمال، أن هؤلاء السكان باتوا أكثر تفاعلاً مع بلدية المدينة، حيث زادت نسبة طلبات الخدمة التي يتقدّمون بها بنسبة 60%. ومع تزايد أعداد السكان الذين يُبْلِغون عن المشاكل، باتت البلدية مضطرة إلى تخصيص أعداد أقل من الموظفين للعثور على هذه المشاكل، ما سمح لها بتوجيه أعداد أكبر من الموظفين لمعالجة هذه المشاكل.
لا يُسْهِم ترك الزبائن يقدّمون يد العون في زيادة مستوى الكفاءة فحسب، وإنما هو غالباً ما يؤدي إلى تحسين تجاربهم. فعندما نكون قادرين على المساهمة بطريقة ما، فإن ذلك يعطينا شعوراً أفضل عن أنفسنا، كما أن مساهماتنا يمكن أن تكون بمثابة طرق رخيصة لجعل نتائج الخدمة متوافقة مع متطلباتنا. فإشراك سكّان بوسطن في تقديم طلبات الخدمة، على سبيل المثال، منحهم الفرصة ليكون صوتهم مسموعاً في تحديد المشاكل التي يجب على البلدية معالجتها أولاً. كما أن امتلاك حصة في النتيجة يمكن أن يزيد من حجم الاستثمار فيها. فقد أثبت بحث لمايكل نورتون ودانيال موكون من جامعة طولون ودان آريلي من جامعة ديوك أنه عندما يقدّم الزبائن يد العون لدعم النتيجة التي تتوصّل إليها خدمة معيّنة، فإن تقديرهم لها يزداد ازدياداً كبيراً. وقد أطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم "تأثير إيكيا"، تيمّناً بمتجر الأثاث الذائع الصيت الذي يترك مهمة تجميع قطع الأثاث للزبون.
على سبيل المثال، تصمم شركة "زمير قسّام فاين جولري" (Zameer Kassam Fine Jewelry) مجوهرات فاخرة ومميزة تشكّل خواتم الخطوبة ثلثيها. وتستعين الشركة بعملية خاصة تقوم على إضفاء لمسة شخصية كبيرة على منتجاتها، حيث يتعرّف موظفوها على تفاصيل قصة الحب التي تجمع كل خطيبين لكي يصمموا خاتمين فريدين من نوعهما خصيصاً لهما. بطبيعة الحال، يحتاج كل منتج متميّز إلى تواصل مكثّف مع الزبون، لكن قسّام وفريقه يطلبان درجة أعلى من المشاركة من العميل مقارنة مع ما هو سائد في عالم الشركات الفاخرة. فبعد إتمام مكالمة هاتفية أولية، وتقديم عرض تجريبي عن الألماس، وإجراء مقابلة معمّقة للتعرف على تفاصيل العلاقة بين الحبيبين، تصبح لدى قسّام وفريقه من "الحكواتية" (ممثلو الشركة الذين يقابلون العملاء) معلومات أكثر من كافية لتصميم قطع المجوهرات. لكنهم يضيفون خطوة أخرى، تتمثل في تكليف العميل بإنجاز "وظيفة منزلية". فعلى سبيل المثال، قد يُطْلَب من العميل العثور على رسالة متبادلة من لحظة حاسمة في العلاقة أو صورة ملعقة تذكّر الخطيب أو الخطيبة بطفولتهما.
عملية إيكال هذه الوظيفة المنزلية هي عملية فريدة من نوعها، وهي مُختارة من "الحكواتي" لمساعدة المصممين على تكوين فهم أفضل لتفاصيل قصة الحب التي تجمع الحبيبين، وغالباً ما يكون العملاء سعداء في إمضاء ساعات طويلة في تنفيذها. تساعد إسهاماتهم في تصميم كل خاتم، كما أنها تعزز التجربة والاستثمار في الخاتم ذاته، لأن العميل كان له دور في تصميمه. يؤمن قسّام أن هذه الوظيفة المنزلية هي عنصر حاسم في العملية التعاونية التي تتبناها الشركة، وهي تساعد في تحفيز أكثر من 90% من العملاء على المضي قدماً في مشاريعهم.
إظهار الأثر الذي يتركه الموظفون
تؤدي ترقية الموظفين بما يسمح لهم بتحقيق قدر أفضل من التواصل والتفاعل مع زبائنهم إلى منحهم صورة أوضح عن الأثر الذي يتركه عملهم. فقد توصّلنا أنا وزملائي في بحثنا إلى أن ذلك يمكن أن يزيد من شعور الموظفين بالتقدير وبفائدة عملهم، الأمر الذي يزيد من درجة رضاهم وتفاعلهم. بيد أن تحقيق هذه الرؤية الواضحة غالباً ما يتطلب اتخاذ إجراءات معيّنة متعمدة. فعلى سبيل المثال، الخطوة النهائية في عملية "زمير قسّام فاين جولري" هي "الاحتفال الخاص". فبعد شراء الخاتم وطلب يد العروس، يدعو قسّام وفريقه العروسين للحضور إلى استديو التصميم معاً. يتوقع كل شريك ببساطة أنه سيلتقي بمصمم الخاتم. "لكن الذي لا يعلمه العروسان"، كما يشرح قسّام، "هو أننا سوف نفاجئهم بتفاصيل العملية، بما في ذلك الملاحظات المتعلقة بقصة حبّهما التي غالباً ما نكون قد أعدنا كتابتها بطريقتنا الخاصة. أستطيع أن أضمن لكم أن معظم الأشخاص لم يسبق لهم أبداً أن سمعوا الكلمات التي سيقولها شريكهم الذي يحبّهم بحقّهم عندما لا يكونون حاضرين. وعندما نشاركهم بهذه الكلمات الخاصة – وغالباً ما يكون ذلك عن طريق تلاوة الاقتباسات – فإنها اللحظة الأجمل والأكثر عاطفية. نحن هنا ندعم حبّهما حتى الثمالة".
يحضر فريق قسّام المتخصص بالتعامل مع الزبائن مباشرة بأكمله هذه الاحتفالات الخاصة. وهي فرصة للموظفين للتواصل من جديد والالتفاف حول غاية المؤسسة والشعور بشكل شخصي ومباشر بأثر العمل الذي ينجزونه. وإضافة إلى أن هذا الحدث الذي يمثّل الذروة يسهم في خلق تجربة فذّة واستثنائية للعملاء، فإن هذا التفاعل من كل زبون يدخل المتعة إلى قلوب الموظفين ويُشعرهم بالغاية من عملهم، ويمدّهم بحماسة أكبر للتفاني في إنجاز المشروع التالي.
إضفاء طابع الاستدامة على العمل
يمكن لدليل العمل هذا والمتحور حول تكوين روابط وعلاقات ذات مغزى أكبر بين الزبائن والموظفين أن يساعد المؤسسات على تحقيق قدر أكبر من الربحية من خلال الأسعار الأعلى، والدعاية الإيجابية التي ينشرها الزبائن عنها، وتزايد الولاء، والمزيد من الشراء، والبيع المتقاطع، ونمو المبيعات. ولا بد أن يخصص جزء من تلك القيمة المتحققة لتحويل أدوار الموظفين الذين يسهمون في تحقيقها إلى أدوار مستدامة.
بوسع القادة الاستفادة من أمرين: الأمر الأول هو زيادة تعويضات الموظفين والأمر الثاني هو تحسين جداول دوامهم. وهذا لا يعني زيادة المصاريف الإدارية، بل هو استثمار سيحقق عائداً إضافياً. (كتبت الأستاذة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا زينب تونو في هذه الصفحات عن الطرق التي تسمح بتحسين تجربة العاملين الميدانيين). فعندما يواجه الموظفون مصاعب مالية، فإن ذلك يعوّق قدرتهم على التركيز على عملهم. وقد توصّل بحث لأناندي ماني من جامعة أكسفورد، وسيندهيل مولايناثان من جامعة شيكاغو، وإلدار شافير من جامعة برينستون، وجياينغ جاو من جامعة بريتيش كولومبيا إلى أن انشغال الإنسان بالهموم المالية يمكن أن يقلل من قدرته الإدراكية أكثر مما يمكن أن يتسبب به إمضاء ليلة كاملة دون نوم. كما توصّل بحث لمولايناثان، وسوبريت كاور من جامعة بيركلي، وسوانا أوه من كلية باريس للاقتصاد، وفرانك شيلباخ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أنه عندما يخلو بال الموظفين من الهموم المالية، فإن إنتاجيتهم تزداد ويقل ارتكابهم للأخطاء في عملهم. وبالتالي فإن إعطاء الموظفين أجوراً كافية، ومطالبتهم بساعات دوام مناسبة يمكن أن يسمح لهم بالتفرغ لإنجاز عملهم.
تُعتبر جداول الدوام غير المتسقة ودائمة التغير عنصراً إضافياً ضاغطاً على الأداء. ففي العديد من الشركات، قد يتقلب جدول الدوام من أسبوع إلى آخر، ويتغير دون إبلاغ الموظفين إلا قبل فترة وجيزة، ما يصعّب على الموظفين وعائلاتهم المحافظة على علاقات صحية، والتفاوض على رعاية الأطفال، والمهام الدراسية، وغير ذلك من الالتزامات التي تقع خارج نطاق منظومة العمل. خلال تجربة ميدانية امتدت على مدار 35 أسبوعاً وأجريت بالشراكة مع "غاب" (Gap) في الولايات المتحدة الأميركية، توصّل فريق من الباحثين مؤلف من كل من سارافانان كيسافان من جامعة كارولينا الشمالية، وسوزان لامبيرت من جامعة شيكاغو، وجوان ويليامز من جامعة كاليفورنيا، وبراديب بينديم من جامعة أوريغون إلى أن المبيعات ارتفعت بنسبة 7% عندما حصل الموظفون على جداول دوام مستقرة ويمكن التنبؤ بها سلفاً. وكشف التحليل أن ما قاد إلى هذه النتيجة هو تحسّن تنفيذ الأداء في المتاجر. فقد بذل الموظفون جهداً أكبر ضمن نظام الدوام الجديد وكانوا قادرين على الالتزام به بسهولة أكبر. بلغت تكلفة المبادرة التي شملت 28 متجراً، ما مجموعه 31.200 دولار أميركي، لكنها أسهمت بزيادة المبيعات بواقع 2.9 مليون دولار أميركي.
بوسع الشركات التي تكشف عن ممارساتها المستدامة في التعامل مع موظفيها أمام زبائنها تحقيق مكاسب إضافية. ففي تجربة ميدانية جرت مؤخراً، تعاونت أنا وباساك كالكانتشي من جامعة جورجيا تيك مع "آلتا غارسيا" (Alta Gracia) – وهي شركة متخصصة بتصنيع الأزياء تدفع أجوراً عادلة للعاملين لديها في جمهورية الدومينيكان – وشركة تجارة تجزئة مقرّها أميركا تبيع منتجات "آلتا غارسيا". وقد استعملنا مقصورات لعرض أفلام فيديو في صالة المبيعات بهدف إبراز رسائل مختلفة عن الشركة أمام الزبائن. تبيّن في نهاية التجربة أن الزبائن الذين تسوّقوا خلال فترات عرض أفلام الفيديو عن الأجور العادلة التي تدفعها "آلتا غارسيا" أكثر ميلاً بنسبة 19% إلى شراء منتجاتها، مقارنة بالزبائن الذين كانوا يتسوقون أثناء عرض فيديو تسويقي تقليدي. وبالتالي فإن جعل العمل مستداماً يمكن أن يحقق قيمة أعلى للزبائن والموظفين مع زيادة جاذبية الشركة في نظر الفئتين على حد سواء.
الإنسان كائن اجتماعي. ولكن بما أن الجائحة دفعتنا إلى العزلة، فهي ذكّرتنا بتعطّشنا إلى التفاعل الإنساني المفيد. وكما يُظهر هذا الدليل بوضوح، فإن استنتاجاً واحداً يتمثل في أن الزبائن والموظفين يجب أن يكونوا قادرين على التفاعل كبشر ينطوي على قيمة هائلة في حقبة ما بعد الجائحة.