عندما أعلن حاكم مدينة نيويورك أندرو كومو عن ضرورة بقاء جميع الموظفين غير الأساسيين في منازلهم من أجل إبطاء انتشار فيروس كورونا المستجد، سأله أحد الصحفيين عن سبب اتخاذه لقرار تطبيق نظام "الاحتماء في المكان". فصحح له كومو قائلاً في حديثه عن اختيار الكلمات المناسبة خلال الأزمات:
"هذا ليس احتماءً في المكان، انتبه لكلماتك، فالناس خائفون، وقد يصيبهم الذعر. فقانون الاحتماء في المكان يطبق عندما تقع حوادث إطلاق الرصاص في المدارس وغيرها. ونحن نخوض حرباً على جبهتين، نحارب الفيروس من جهة، والخوف من جهة أخرى. وإذا تصرفنا بدافع الخوف فسيصبح الوضع خطيراً".
اعتمد القادة على مدى التاريخ البشري على اختيار الكلمات المناسبة خلال الأزمات لتحفيز التحرك. واليوم، يؤمن كثير من علماء الاقتصاد والرؤساء التنفيذيين أن الكلمات هي أهم أداة يستخدمها القادة الذين يتبعون أسلوب "القيادة والسيطرة" لاكتساب سلطتهم عن طريق الإقناع.
كيف يتم اختيار الكلمات المناسبة في الأزمات المتكررة؟
كومو يجيد هذه المهارة. إذ تبين تصريحاته للصحافة أهمية الكلمات في الأزمات لجذب انتباه الجمهور وثقتهم. وبالنسبة لقادة الشركات الذين يرغبون في أن يكونوا قدوة في الوضوح وبث الأمل في الأوقات التي يخيم عليها الغموض، يمكنهم اتباع خطاه عن طريق تطبيق بعض من أفضل الأساليب في خطاباتهم.
استبدل الكلمات الطويلة بالقصيرة:
في كتابه الرائد "التفكير السريع والبطيء" (Thinking, Fast and Slow)، كتب عالم النفس دانيال كانيمان الحاصل على جائزة نوبل: "إذا كنت مهتماً أن تبدو ذكياً وذا مصداقية، فلا تستخدم لغة معقدة حين تكون البساطة كافية". فالقائد الكفؤ يستخدم لغة بسيطة، والبساطة تكمن في الإيجاز.
وهذا الأمر ينطبق تماماً على الأزمات، إذ يضعف الانتباه ويزداد الضجيج، ويُمطَر الناس بوابل من المعلومات التي يكون جزء منها مضللاً أو خاطئاً. وكلما ازددت وضوحاً ودقة، ازدادت احتمالات وصول رسالتك إلى الناس واقتناعهم بالتحرك وفقاً لها.
في منتصف شهر مارس/آذار، أصدر كومو أمراً قد يقلب حياة ملايين السكان في نيويورك رأساً على عقب ويوقف نشاط المركز المالي العالمي، وكان عليه أن يعلن الخبر بصورة مفهومة وبالغة الوضوح. لذا نشر تغريدة تضم هذه الرسالة: "ابقوا في منازلكم. وأوقفوا انتشار المرض. وأنقذوا الأرواح". دوى المنشور بقوة، على الرغم من أنه مؤلف من ثماني كلمات فقط.
ولو أنه حاول أن يخاطب الناس بالأسلوب الذي يقول عنه كثيرون أنه "مهني"، لكانت رسالته على الشكل التالي: "من أجل الحفاظ على صحة الشعب وسلامته، أُصدر أمراً موجهاً لجميع السكان غير العاملين في النشاطات الأساسية التي تؤثر في البنية التحتية الحيوية بالبقاء في منازلهم من أجل الحد من انتشار فيروس كورونا وتقليص عدد الإصابات والوفيات".
قارن بين الرسالتين، تجد أن النسخة "المهنية" مربكة ومعقدة، تملؤها المصطلحات البيروقراطية التي يتفاداها المتحدثون ذوي الكفاءة. أما رسالة تويتر فتحمل كلمات بسيطة، مثل "ابقوا" و"منازلكم" و"الأرواح"، وهي كلمات بسيطة وسلسة وسهلة الفهم.
عندما تفكر بصياغة رسالتك التالية، تذكر أن عظماء القادة كانوا يستخدمون اللغة البسيطة في خطاباتهم. قال وينستون تشرشل مرة: "الكلمات الأقصر في أي لغة هي الأعرق عادة، وتكون معانيها راسخة أكثر في طابعها القومي، وهي قادرة على جذب قوة أكبر". وفي مذكرته بعنوان "الإيجاز" (Brevity)، حث الإداريين الحكوميين على استبدال الجمل الطويلة المنمقة بكلمات مفردة بسيطة متداولة، منوهاً إلى أن الإيجاز يعني الوضوح، وأن الأسلوب المباشر يساعد على فهم الأمور بسهولة أكبر.
ابحث عن التشبيهات المناسبة لتتمكن من اختيار الكلمات المناسبة خلال الأزمات:
توصل علماء الأعصاب إلى أن أدمغتنا تفهم العالم عن طريق ربط الأشياء الجديدة أو غير المعروفة بالأشياء المألوفة. وعندما نواجه فكرة جديدة، لا يسأل الدماغ: "ما هذه؟" بل: "ماذا تشبه؟"
تجيب التشبيهات عن هذا السؤال، وتشكل اختصارات ذهنية تساعدنا على فهم الأحداث المعقدة. والقادة الذين يتمتعون بقدرة كبيرة على التحدث في الأزمات يبرعون في استخدام التشبيهات، لأن عليهم إقناع الناس على التحرك بسرعة.
اتبع كومو هذا الأسلوب في الرابع من أبريل/نيسان، عندما استعان بتشبيه "خرطوم إطفاء الحريق" الذي استخدمه فرانكلين روزفلت فيما مضى، من أجل توضيح مصلحة مدينة أوريغون في إرسال 140 جهاز تنفس إلى نيويورك. إذ قال: "نخوض جميعنا المعركة ذاتها، ويجب علينا محاصرة العدو. قد تواجه مدينة أوريغون مشكلة كبيرة بحلول شهر مايو/أيار، لكننا نواجهها هنا اليوم، وتصرف حكام مدينة أوريغون ذكي وينبع من اهتمامهم بمصالحها. فقد رأوا النار تنتشر، ويسعون لإطفائها حيثما وجدت قبل أن تصل إليهم".
اقرأ أيضاً: لماذا لن تؤثر أزمة هاتف نوت 7 في سامسونغ على قوة علامتها التجارية على المدى الطويل؟
فلننظر إلى السياق الأصلي. في عام 1940، عندما كانت ألمانيا النازية تضع عينها على إنكلترا بعد إلحاق الهزيمة بفرنسا، ناشد تشرتشل روزفلت طالباً منه الأسلحة والإمدادات. فما كان من روزفلت إلا أن اقترح برنامج "الإعارة والتأجير". ووفقاً لهذا البرنامج، تقوم دولة أميركا بإعارة معدات الحرب لحلفائها في حين تحتفظ هي بموقفها الحيادي. وأقنع الشعب بهذا البرنامج بالكلمات التالية: "فلنفرض أن منزل جاري اشتعلت فيه النيران، وأنا أملك خرطوماً في الحديقة يصل طوله إلى قرابة 150 متراً، إذا استطاع جاري أن يأخذ خرطوم حديقتي ويصله بصنبور المياه عنده، أكون قد ساعدته في إطفاء حريقه".
أكد روزفلت على أنه لن يطالب بثمن الخرطوم مسبقاً، وأن جاره سيعيده إذا بقي سليماً بعد الحرب، أو سيستبدله بخرطوم جديد إذا تضرر. وبذلك، تكون الرسالة باختصار: على الرغم من أن الطرفين يتحركان كل لأجل مصلحته، فإنهما قادران على العمل معاً لمنع انتشار حالة الفوضى.
وبعد أن بنى كومو رسالته على التشبيه الذي استعان به روزفلت منذ ثمانين عاماً، قال: "كان روزفلت يتمتع بأسلوب جميل لمعالجة القضايا المعقدة وشرحها بلغة منطقية".
أضف طابعاً شخصياً على الأزمة:
الدماغ البشري مرتبط أيضاً برواية القصص. يناقش المؤرخ يوفال هراري في كتابه الأفضل مبيعاً، "العاقل" (Sapiens) أن الجنس البشري لم يتمكن من الاستيلاء على العالم إلا من خلال رواية القصص. فقد استطعنا عن طريق مهاراتنا اللغوية المتقدمة، وقدرتنا على التواصل فيما بيننا من خلال رواية القصص تحديداً، أن نتعاون بطرق لم تقدر عليها المخلوقات الأخرى.
فالتعاون أساسي في الأزمات، لذا يجب على القائد الكفؤ أن يتمتع بمهارة كبيرة في رواية القصص.
اقرأ أيضاً: ضرورة تجربة الأزمة
خير مثال على ذلك، الدكتورة ديبورا بيركس، منسقة فريق الاستجابة لفيروس كورونا في البيت الأبيض، التي تُعرف باستخدام القصص الشخصية للتواصل مع جمهورها. ففي 25 مارس/آذار، روت قصة محزنة كي تسلط الضوء على أهمية التباعد الاجتماعي.
كانت القصة عن جدتها ليا، التي كانت تبلغ من العمر أحد عشر عاماً فقط عندما انتشر وباء الإنفلونزا عام 1918 وقتل 50 مليوناً من البشر. أصيبت ليا بالعدوى ونقلتها لأمها التي كانت تعاني من ضعف في جهاز المناعة، وتوفيت على إثرها. قالت بيركس: "لم تنس ليا أنها كانت الطفلة، التي كانت في المدرسة وأدخلت مرض الإنفلونزا ذاك إلى البيت بكل براءة. عاشت جدتي مع هذه المعاناة 88 عاماً. هذه ليست قصة خيالية، بل هي قصة واقعية".
روت بيركس هذه القصة لتدعم رسالتها الرئيسية، وهي أن جميع الأميركيين يلعبون دوراً في حماية بعضهم البعض، ويبدو أن الرسالة قد وصلت. ففي الثامن من أبريل/نيسان، أعلنت أن الوفيات المتوقعة من مرض كوفيد-19 تراجعت عن التوقعات الأولية لأن "الأميركيين يلتزمون بهذه التغييرات السلوكية".
اقرأ أيضاً: بعد مرور عشر سنوات، ما التكاليف الاجتماعية والسياسية التي ترتبت على الأزمة المالية؟
انتبه لقاعدة الثلاث:
يزعم الباحثون في الخطاب والإقناع أن الإنسان يفضل أن توضع المعلومات في مجموعات مؤلفة من ثلاثة عناصر، لأن الذاكرة قصيرة الأجل لا تحتفظ إلا بعدد قليل من المعلومات. إذا أصدرت ثلاثة توجيهات، فعلى الأرجح أن المتلقي سيتمكن من تذكرها، أما إذا أصدرت خمسة توجيهات أو ستة أو أكثر، فعلى الأرجح أن المتلقي سينسى معظمها، والإنسان غير قادر على تنفيذ ما لا يتذكره.
في الأزمات، ينفذ الناس تعليمات القادة الذين يصدرون توجيهات أقل ولكنها في نفس الوقت عملية أكثر.
وخير مثال على ذلك هو الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في المعاهد الصحية الوطنية، الذي حظي بإعجاب واسع النطاق لحديثه المباشر وسلوكه الثابت. أطلقت عليه قناة "سي إن إن" لقب "قوة عامة"، إذ يترجم المعلومات الطبية المعقدة إلى اللغة المحكية البسيطة. ما هي استراتيجيته؟ يقول فاوتشي: "لست مضطراً لإثارة إعجاب الناس وإبهارهم بمعرفتك، ما عليك إلا أن تجعلهم يفهمون ما تتحدث عنه".
لذا، غالباً ما يحد فاوتشي نفسه بثلاث نقاط أساسية. مثلاً، شارك في الخامس من أبريل/نيسان في برنامج "واجه الأمة" (Face the Nation)، وقال فيه أن البلاد لن تتمكن من تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي إلا عندما يتم تنفيذ ثلاثة أمور، وهي: "القدرة على إجراء التحاليل لمن يخالطون المصابين وعزلهم وتتبعهم".
كما شدد فاوتشي على ضرورة أن يستمر الأميركيون بالتباعد الجسدي فيما بينهم عن طريق القيام بثلاثة أمور: الحفاظ على مسافة مترين بين الشخص والآخر، وعدم السماح بتجمع أكثر من عشرة أشخاص في مكان واحد، وتجنب الأماكن التي تضم تفاعلات جماعية كالمطاعم والمسارح.
الكلمات معدية كالفيروسات تماماً. فإما أن تغرس الخوف والذعر في نفوس الناس أو أن تسهل فهمهم للأمور وتهدئهم، والأهم هو أنها قادرة على تحفيز التحرك. لذا، يجب أن تفهم جيداً أهمية اختيار الكلمات المناسبة خلال الأزمات.
اقرأ أيضاً: عليك تجنب إخفاء الأخبار السيئة في الأزمات