لقد كان العقدان الأوليان من القرن الحادي والعشرين فترة للفرص والرخاء على أكثر من مقياس، رغم الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، فقد شهد عالمنا تحولاً بسبب شبكة الإنترنت والهواتف الذكية، وخرج مليار نسمة من دائرة الفقر، وبلغت نسبة التوظيف إلى عدد السكان في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الآن أكثر من 70%، ما يُعد رقماً قياسياً. وراحت غالبية الاقتصادات تتوسع مجدداً بوتيرة ثابتة، إن لم تكن مذهلة.
ولكن، رغم أن المكاسب الاقتصادية التي حصل عليها الكثيرون في الاقتصادات المتقدمة كبيرة من بعض الأوجه، فقد تفتتت تلك المكاسب من أوجه أخرى بفعل تحديات غير متوقعة. لقد فحصنا مجموعة من المؤشرات الاقتصادية، كالتوظيف ونمو الأجور والمزايا وأسعار السلع والخدمات الأساسية والاختيارية، والمدخرات استعداداً للتقاعد واكتشفنا أنّ النتائج المتعلقة بالأفراد الذين يؤدون ثلاثة أدوار - عاملين ومستهلكين ومدخرين - تقدم لنا صورة أدق مما قد توحي به البيانات الإجمالية.
بالنسبة للأفراد العاملين، تُعتبر معدلات التوظيف أعلى مما كانت عليه بكثير في نهاية القرن الماضي. ففي الاثنتين وعشرين دولة التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية موضوع الدراسة، زاد عدد الوظائف المتاحة عام 2018 بواقع 45 مليون وظيفة مقارنةً بعام 2000، وشغلت النساء 31 مليون وظيفة منها. وكانت هناك أيضاً مجموعة أوسع نطاقاً من الأنشطة البديلة واتفاقات العمل المدرّة للدخل، ما أعطى ملايين الناس مرونةً جديدة.
غير أن هناك اتفاقات عمل أقل استقراراً - بدايةً من العمل بلا عقود (لا يضمن العاملون عملاً محدداً، ومع ذلك يتحتم عليهم الحضور نزولاً على طلب أصحاب العمل) وصولاً إلى تشتيت العمل (لا توظّف الشركة العاملين الذين تستفيد من عملهم) - قد اكتسبت زخماً هي الأخرى، فقوضت الأمان الاقتصادي لكثير من الناس. علاوة على ذلك، شهدت الأجور ركوداً لغالبية الناس في العديد من هذه الدول، فقد استقر متوسط نمو الأجور منذ عام 2000 عند 0.7%.
وبالنسبة للمستهلكين، قلصت التقنية والعولمة، وكذلك إلغاء الضوابط التنظيمية، إلى حد كبير، تكلفة الكثير من السلع والخدمات الاختيارية، بدايةً من الاتصالات وحتى الملابس. وتراجعتْ تكاليف البيانات بنسبة 90% تقريباً، بينما تصاعد استخدامها عشرة أمثال ما كان عليه.
إلا أنّ أسعار إيجارات المنازل، والتي غالباً ما تُعد أكبر بند ضمن ميزانية الأسرة، والتي تعادل حوالي ربع النفقات في المتوسط، قد ارتفعت بسرعة الصاروخ. وارتفعت أيضاً تكاليف الرعاية الصحية والتعليم في العديد من البلدان. ولو افترضنا ثبات بقية العناصر، فسوف يتعين على المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة العمل في المتوسط أربعة أسابيع إضافية كل عام، ليتسنى لهم استهلاك القدر ذاته من الإسكان والرعاية الصحية والتعليم، كما فعلوا منذ عقدين من الزمان.
بالنسبة للمدخرين، تكمن الأنباء السارة في أن متوسط الثروة ارتفع مجدداً وفق ما كان عليه عام 2008، رغم أن القيمة الوسيطة للثروة، التي ربما كانت مقياساً أفضل، ما زالت أقل من مستويات ما قبل الأزمة بأكثر من 20%. وترتبط بعض التحولات الكبرى التي حدثت خلال العشرين عاماً الماضية بالمدخرات. فبينما يعيش السكان الذين هم في سن العمل لفترة أطول ويتقاعدون لاحقاً - ما يُعد مدعاة للاحتفال - زادت الضغوط التي تتعرض لها خطط المعاشات التقاعدية بشدة. علاوة على ذلك، فقد تحولت المسؤولية عن مدخرات التقاعد من المؤسسات إلى الأفراد. والحكومات في أكثر من نصف دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مدَّت سن التقاعد. وفي القطاع الخاص، تغير عدد كبير من خطط معاش التقاعد محددة الفائدة إلى خطط معاش التقاعد ذات الإسهامات المحددة، والتي يتحمل فيها المتلقي للمعاش مخاطر السوق.
وفي الوقت ذاته، تراجعتْ المدخرات الأسرية في العديد من البلدان. فأكثر من نصف عدد الأشخاص في المتوسط في الاثنتين والعشرين دولة موضوع الدراسة لم يدخروا شيئاً لتقاعدهم عام 2017، وما يربو على ربع عددهم بقليل لم يدخروا شيئاً على الإطلاق. وقد حدث ذلك في وقت أمسى فيه الادخار للتقاعد أهم من أي وقت مضى، لأنّ الناس يعيشون الآن لفترات أطول.
ولا يؤثر التحول في دور المؤسسات فقط في نتائج المدخرين. فقد أظهر تحليلنا بالفعل تراجعاً في عمليات تدخل المؤسسات في السوق عبر القطاعات الثلاثة كلها المتمثلة في العمل والاستهلاك والادخار، رغم أن مدى ذاك التراجع يختلف من دولة إلى أخرى. على سبيل المثال، تراجعتْ أوجه الحماية الوظيفية، وزادت حصة القطاع الخاص من تكاليف الرعاية الصحية والتعليم، وتراجعت مستويات ضمان معاش التقاعد. وفي الوقت ذاته، ارتفع الإنفاق على أجور القطاع العام والعديد من التحويلات الحكومية للأفراد من 38% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000 إلى 41% عام 2018، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التكاليف الأعلى المرتبطة بالشيخوخة. وهذا النمط المزدوج للتدخل الأقل والإنفاق الأعلى ساد في غالبية الاقتصادات الاثنين والعشرين، بغض النظر عن البنى السوقية والمؤسسية المتباينة.
وتوضح هذه النتائج إلى أي حد من الأهمية ينبغي أن ينظر واضعو السياسات وقادة الشركات إلى ما وراء البيانات الاقتصادية الإجمالية الإيجابية وصولاً إلى ما يحدث بالفعل في حياة الناس. وتفيد استطلاعات الرأي بأن المزاج العام المتشائم في العديد من الدول هو انعكاس للوقائع اليومية التي تواجه كثيرين.
ولو قُدّر للعقدين التاليين أن يكونا أفضل حالاً من السابقين لهما، فإننا نرى أن الحاجة تقتضي إجراءً متضافراً على جبهتين. أولاً، سيكون من الضروري الحفاظ على المكاسب التي تحققت إلى الآن، عبر الابتكار والإنتاج المستمرين والنمو الاقتصادي والنمو الوظيفي وخلق الفرص ودينامية الأعمال والقدرة التنافسية وتوسعة نطاقها في اقتصاد عالمي متحول.
والأولوية الثانية تقتضي التعامل مع التحديات التي تواجه الأفراد، وخصوصاً الأشخاص والأماكن الأكثر تأثراً. لقد كانت النتائج مبشرة لحوالي 115 مليون شخص ينعمون بوظائف تقتضي مهارات عالية، وهم أفراد يزداد استهلاكهم للسلع والخدمات الاختيارية نسبياً مقارنةً بإنفاقهم على الأساسيات، ومدخِرون قادرون على تكديس رؤوس الأموال.
ولكن، هناك عدد أكبر بكثير من أصحاب المهارات المتدنية لم ينعموا بمزايا مثيلة. فركود الأجور، ممزوجاً بالتكلفة المرتفعة للاحتياجات الأساسية، يفت في عضد الرفاهة والفرص المتاحة لحوالي 60% من السكان. والتهمت تكاليف الإسكان المتصاعدة وحدها أكثر من نصف الزيادات في دخل الأسر متوسطة الحال في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى. ونسبة الـ 60% ذاتها من السكان كانوا عرضةً كذلك إلى خفض المعاشات التقاعدية الإلزامية، طالما أنهم لا يدخرون - أو لا يستطيعون ادخار - ما يكفي لتعويض الفارق. ولا يملك 16% من الأفراد ثروة كافية لتغطية تكاليفهم الأساسية لثلاثة أشهر، و20% منهم - أي واحد من بين خمسة أشخاص - ليس لديه ما يكفيه لتغطية نفقات ستة أشهر.
ويتحمل جيل ما دون الثلاثين أيضاً وطأة الاقتصاد المتغير. فهم يجدون صعوبة أكبر من أقرانهم الأكبر سناً في العثور على أول وظيفة آمنة. وحقيقة الأمر أنه بين عامي 2000 و2018 تراجعت معدلات العمالة بين الشباب دون الثلاثين، وأولئك الذين حصلوا على عمل منهم من الأرجح أنهم يعملون بعقود مؤقتة. كذلك فإن ارتقاء سلَّم الإسكان أمر أصعب، إذا ما نظرنا إلى أسعار العقارات المتصاعدة والإيجارات المتزايدة.
لقد شهدت النساء والأقليات المهمشة شيئاً من التقدم في التوظيف، لكنهم ما زالوا يتخلفون عن الركب فيما يتعلق بالأجور والفرص. وما يزال التكافؤ بين الجنسين بعيد المنال: فالنساء في الدول موضوع الدراسة يجنين 85 سنتاً في مقابل كل دولار يجنيه الرجال. وذلك رغم حقيقة أن جدول أعمال التكافؤ بين الجنسين يرجع إلى أواخر الستينات.
وأخيراً، فإن بعض المناطق متخلفة عن الركب. حيث تتحول الجغرافيا على نحو متزايد إلى عامل اقتصادي مهم يحدد الرفاهة في تحليلنا. فالقسم الأكبر من النمو الوظيفي في الولايات المتحدة وأوروبا على مدار العقد الماضي نابع من عدد محدود من العواصم المزدهرة. وهذه المدن تستقطب المواهب، وهي مراكز للابتكار والإبداع. غير أن التركيز الجغرافي يعني أن المناطق المتخلفة عن الركب تواجه تداعياً سريعاً، ما لم تتمكن من إيجاد سبلٍ لتجعل نفسها أقدر على المنافسة. وهي بحاجة إلى المساعدة من الحكومة وقطاع الشركات. ويُعد تنقل الموظفين، الذي تراجع أيضاً، جزءاً من الحل. لكن نقل الجميع إلى مراكز حضرية عالية الأداء ليس ممكناً. والعولمة غير المُقيّدة ليست مستدامة سياسياً واجتماعياً.
إنّ العقود التالية للقرن الحادي والعشرين تُبشر بالفعل أنها ستكون واعدة، إذا ما نظرنا إلى المسيرة الحثيثة للتقدم التقني التي تغير حياتنا. وكثيرون بدؤوا التحرك، بما في ذلك الحكومات. لقد أعادت الشركات تركيزها على عدد من أصحاب المصلحة، بينما جاهدت للتعامل مع تحديات جديدة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالاستدامة والتغير المناخي، وهو العامل الإضافي التي يمكن أن يؤثر في التبعات الاقتصادية على الأفراد، ربما بطرق انتكاسية.
ولكن، ما زلنا نحتاج إلى إنجاز المزيد بالنظر إلى حجم التحديات الماثلة. وضمان أن التبعات على الأفراد سوف تتحسن وتصبح أكثر شمولاً هو الضرورة الملحة في عصرنا هذا.