مع ظهور ما يسمى بـ "اقتصاد الأعمال المستقلة"، فُتح نقاش حول عيوب العمل الحر وكيفية معاملة الشركات للأشخاص الذين يعملون لديها بشكل مستقل. ويطرح هذا النقاش قضية ما إذا كان العمال المستقلون يحصلون على أجورٍ أقل مما يستحقون، أو يعملون فوق طاقاتهم، أو يتعرضون للاستغلال أو حتى للإساءة. الأهم من ذلك، تساءل آخرون عما إذا كان العمل المستقل -حتى إذا جرت تأديته في ظل أفضل الظروف- يُعد شيئاً يستحق الافتخار به. باختصار، هل العمل المستقل يعادل الحصول على وظيفة جيدة؟
عيوب العمل الحر
هذا السؤال معقد. إذ تناقش المحاكم ما إذا كان العمل المستقل يُعد "وظيفة" من الأساس. هل يُعد سائقو "أوبر" (Uber)، أو مستخدمو منصات العمل المستقل مثل "تاسك رابيت" (TaskRabbits)، أو بائعو المنتجات اليدوية على موقع "إتسي" (Etsy) موظفين من الناحية القانونية، أم متعاقدين مستقلين، أم أمر بين هذا وذاك؟ إذا جرى اعتبارهم موظفين، سيحق للعاملين المستقلين الحصول على الحد الأدنى من الأجور وأجر الساعات الإضافية والتأمين ضد البطالة. يُعد ضمان هذه الحقوق والحماية مهماً، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت هذه التغييرات وحدها ستحول العمل المستقل إلى مسيرة مهنية مستقرة تحظى بالتقدير.
اقرأ أيضاً: النجاح في اقتصاد العمل الحر
وفي حين أن ما يُعد "وظيفة جيدة" يتعلق جزئياً بالقانون، فهو أيضاً نسبي إلى حد بعيد ويعتمد على المعايير الاجتماعية السائدة. إذ تختلف أنواع العمل التي تحظى بالتقدير والأنواع التي يجري ازدراؤها اختلافاً كبيراً حسب الثقافة والطبقة الاجتماعية والانقسامات الأخرى. فبالنسبة للعديد من الأميركيين، كانت وظائف الدوام الكامل في المكاتب والمؤسسات التي تقدم مزايا متعددة -على الأقل خلال القرن الماضي- هي المعيار الذي تُقاس به الوظائف الأخرى. ورغم ذلك، وجدت في بحثي عن البطالة المتعلقة بالوظائف المكتبية، أنه حتى هذه الوظائف ليست جيدة هذه الأيام. فقد انخفضت جاذبية هذه الوظائف التي كان يسعى إليها الجميع في السابق بسبب الفوائد المتناقصة، وتسريح العمال المتكرر، وأعباء العمل المتزايدة باستمرار، والشعور السائد بالشك.
اقرأ أيضاً: ما الأمر الذي لم يتمكن القانون الجديد للعمل في كاليفورنيا من فهمه بشأن العمل المستقل؟
لذا، مع انخفاض جودة الوظائف التقليدية وكميتها، أصبح من غير المنطقي أن نُعرِّف "العمل الجيد" على أنه معيار ينحرف بعيداً. بدلاً من ذلك، يجب علينا أن نسأل ما الذي يتطلبه الأمر لجعل ما أطلق عليه "الوظائف المجمعة ذاتياً" –وهي الوظائف المكونة من مجموعة أعمال متنوعة بأشكال مختلفة بما في ذلك العمل بدوام جزئي أو بعقد أو العمل الحر، وريادة الأعمال المستقلة (بدء نشاط تجاري صغير مع عدد قليل من الموظفين بدوام كامل أو من غيرهم)- وظائف قابلة للتطبيق ومقبولة ثقافياً.
وتجدر الإشارة إلى أن الوظائف المجمّعة ليست أمراً جديداً. إذ كان هناك منذ وقت طويل أشخاص يجنون دخلاً من خلال مجموعة من الوظائف المختلفة، وذلك في كثير من الأحيان بسبب حرمانهم من الوصول إلى نوع الوظائف -التي يسيطر عليها الرجال البيض من الطبقة المتوسطة- التي تسمح للفرد بكسب قوت يومه دون الحاجة إلى عمل إضافي. ورغم انتشارها، غالباً ما يُنظر إلى الأساليب المجزأة في العمل بأنها طريقة أقل احتراماً لكسب العيش، ولا يزال يُنظر إلى العمال المستقلين بالطريقة ذاتها.
تغيير نظرتنا إلى مفهوميّ العمل والوظائف
وهذا الأمر بحاجة إلى التغيير، وأرى أن هناك ثلاثة طرق رئيسية للمضي قدماً. الأول يتعلق بالكيفية التي ندرّس بها الشباب عن العمل والوظائف. في عام 2001، عندما كنت أجري مقابلات مع عمال مسرّحين في مجال التكنولوجيا الحديثة، كان العديد منهم محبطين لأن المدارس ما تزال تخبر الطلاب أنهم بحاجة إلى اختيار مهنة واحدة. كانوا يتمنون أن يشرح لهم أحد أن معظم الأميركيين سيحصلون على ما لا يقل عن 12 وظيفة خلال حياتهم، بدلاً من وظيفة واحدة يشغلونها من المهد إلى اللحد. وبعد عقد ونصف العقد من الزمان، لا يزال طلاب الكليات الذين أدرسهم يشعرون بأنهم بحاجة إلى أن يقرروا "ما سيصبحون عليه" قبل التخرج، بدلاً من تحديد الوظيفة التي يريدون الحصول عليها كبداية، قبل الانتقال لا محالة إلى وظائف وصناعات أخرى مختلفة. نحن نضر الشباب بإعدادهم إلى عالم العمل غير الواقعي. وفي حين أن استبدال "يوم المهن" بـ "يوم المهنة" لن يقضي تماماً على المشكلات التي تواجه العمال المستقلين، فإنه سيقلل من وصمة العار التي تحيط بكسب العيش من "وظائف جانبية".
ويجري حالياً إصلاح ثقافي ثانٍ للوصمة التي تحيط بالعمل المستقل. وينطوي هذا الإصلاح على جمع العمال معاً لمساعدتهم في التغلب على العديد من التحديات -النفسية والاجتماعية والمهنية والمالية والقانونية- للعمل غير التقليدي.
منذ عام 2012، أجري مقابلات وأعمل مع منظمين محترفين جرى التعاقد معهم لمساعدة العملاء في إدارة منازلهم ومساحات عملهم وممتلكاتهم. وفي حين أن بعض المنظمين يعيلون أنفسهم من خلال العمل في التنظيم بدوام كامل، يجمع العديد منهم بين العمل في التنظيم وأنواع أخرى من العمل بدافع حاجتهم المالية، ولأنهم يستمتعون بتنوع المهن المجمّعة. قالت لي منظمة محترفة شابة تعمل أيضاً شاعرة، ومدوّنة، ومدرّسة خصوصية، وناشطة بيئية في مدينة لوس أنجلوس: "أنا شخص لا يحب الذهاب إلى المكتب نفسه، أو العمل على الكمبيوتر نفسه، أو حضور الفصل الدراسي نفسه يومياً. أحب التغيير والتنوع، وأنجح بهذه الطريقة". والآن تقول هذه الشابة: "كل يوم هو يوم مختلف".
اقرأ أيضاً: بناء الثقة بين الموظفين الدائمين والمستقلين
ومع ذلك، تُعد رؤية نفس الأشخاص في نفس المكان يوماً تلو الآخر أمراً يسمح للأشخاص باكتساب شعور بالهوية والتماسك الاجتماعي. الخبر السار هو أن أصحاب المهن المجمعة يجدون -ببطء ولكنهم يسيرون بالاتجاه الصحيح- أساليبهم الخاصة للالتقاء معاً لتطوير الروابط بينهم، وهو أمر ضروري للتأكيد على أن العمل المستقل ليس منعزلاً.
ومن الأمثلة على ذلك، فتاة من بروكلين أجريت مقابلة معها ووصفت نفسها بأنها "ملكة الوظائف الجانبية"، إذ بدأت في ترتيب رحلات ميدانية للعمال المستقلين لاستكشاف المدينة معاً بينما كان الجميع عالقين في مكاتبهم. وسعى آخرون إلى الذهاب إلى مساحات العمل المشتركة ليكونوا بالقرب من أشخاص آخرين، بالإضافة إلى الاستمتاع بالامتيازات، مثل خدمة رعاية الأطفال، والخدمات الإدارية والتكنولوجية، وفرص التشبيك المنظّم. وفي الطرف المقابل من طيف الدخل، توفر مراكز العمل غير الربحية للعمال ذوي الأجور المنخفضة شعوراً بالتواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى التمثيل القانوني، ودورات تعليم اللغة، والعيادات الصحية، والحسابات المصرفية، والقروض.
وضمن مجالات تجارية محددة، تدخلت الجمعيات المهنية أيضاً لتحل محل بعض المزايا المجتمعية والمادية التي كان يتم تأمينها من خلال أرباب الأعمال. على سبيل المثال، تربط "الرابطة الوطنية للمنظمين المحترفين" الأعضاء من خلال الفصول المحلية والمؤتمرات الوطنية، وتوفر برامج التدريب وإصدار الشهادات، وتستفيد من القوة العددية للعاملين المستقلين حتى يتمكن أصحاب الشركات الفردية من الوصول إلى خدمات الأعمال الأساسية، مثل تأمين المسؤولية، ومعالجة بطاقات الائتمان.
العمال المستقلون
تُعد هذه القوة العددية مهمة ثقافياً بقدر أهميتها الاقتصادية والسياسية. عندما يصبح العمال المستقلون أكثر ظهوراً لبعضهم البعض، سيستمرون في إيجاد سبل للظهور أيضاً للآخرين، ولمجتمعاتهم المحلية ولسياسييهم. وفي نهاية المطاف، للأجيال القادمة من العمال، الذين قد يبدو بالنسبة لهم تجميع مهنة مستقرة ومربحة وذات مغزى من أعمال مستقلة قصيرة المدى طبيعياً أكثر من العمل في الوظيفة نفسها مع المدير نفسه يوماً بعد يوم.
اقرأ أيضاً: سبع نصائح حول كيفية التعامل مع من يعملون لحسابهم الخاص والمستقلين
لم يعد من المنطقي ربط المزايا الأساسية مثل الرعاية الصحية، وحسابات التقاعد، والتأمين ضد البطالة، والإجازات، وإجازة الأمومة، والحد الأدنى من الأجور بوظائف الدوام الكامل الاعتيادية بالنسبة لمعظم الأميركيين. بحلول عام 2020، من المتوقع أن يصل عدد الأميركيين الذين يعملون بشكل مستقل إلى 54 مليون شخص. وفي حين يمثل هذا مساراً مثالياً للبعض، فإن آخرين اتخذوا هذا القرار بسبب مجموعة من الخيارات المهنية المحدودة وغير المثالية التي تقلصت أكثر أمام العمال الحاصلين على الحد الأدنى من التعليم، أو الذين يواجهون التمييز على أساس العرق أو الجنس أو السن أو الطبقة الاجتماعية أو الإعاقة. وبالنظر إلى هذا، من المنطقي أن نجد سبلاً لا تعتمد على الوعد الذي يصعب تحقيقه بالحصول على فرص عمل مستقرة لحماية صحة الأشخاص وجودة حياتهم. تشمل الحلول التي اقتُرِحت حتى الآن دخلاً أساسياً موحداً يحصل كل مقيم بموجبه على مبلغ سنوي غير مشروط، وشبكات أمان وباقات مزايا متنقلة يمكن أن يتنقل بها العمال من وظيفة إلى أخرى.
وفي نهاية الحديث عن عيوب العمل الحر، يشير اكتساب هذه الأفكار المزيد من الاهتمام إلى أن هناك تغيير قادم في الطريقة التي يفكر فيها الأميركيون حول العلاقة بين العمالة والاستقرار. لكن بصفتي عالمة أنثروبولوجيا ثقافية، أعلم أن الأمر يتطلب أكثر من المال والمزايا لجعل الوظيفة جيدة. ربما يؤيد الأميركيون قيم المثابرة والكفاح في العمل، وفكرة تحقيق المرء للنجاح بجهوده الذاتية وبأي وسيلة ضرورية، لكن المهن المجمعة ما زالت تواجه عدم القبول وتُوصم بأنها مجرد وسيلة لتحقيق الغايات وأنها ليست مهنة حقيقية. وسيتطلب تغيير هذا الأمر تغيير نظرة المجتمع للعمال المستقلين ونظرة العمال المستقلين لأنفسهم.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد المستقل يجعل السلع أرخص... لماذا إذن لا نشعر بهذا؟