في ذلك الفندق العتيق في مدينة "بالو ألتو" الحالمة، جلست في البهوِ قرب المدفأة، أتبادل الأحاديث مع بعض الأصدقاء، ما هي إلا دقائق حتى وصل الباص. انطلقنا إلى مدينة "ماونتِن فيو" القريبة. توقف الباص أمام أحد المباني، إنه المقر الرئيسي لشركة "جوجل". دخلنا وأخذنا نتجول ريثما يتم ترتيب الاجتماع. توقفت أمام إحدى الغرف وتفاجأت كثيراً لما تحتويه، أخذت أقلّب النظر، لأول مرة أرى غرفة كهذه داخل شركة، أخذت بعض الصور ومضيت.
بدأ الاجتماع مع ذلك المدير اللطيف، تكلمنا كثيراً عن "جوجل" من جوانب مختلفة: التقنية، والموارد البشرية، والأعمال، والخطط والآمال، لكنني كنت مهتماً أكثر بالابتكار، فسألت سؤالاً بديهياً: كيف تحفزون موظفيكم على الابتكار؟ أجابني جواباً لم أتوقعه، كان جواباً مفاجئاً.
قررت بعدها أن أعرف أكثر عن "جوجل"، فأخذت أبحث وأقرأ لأسابيع طويلة. حاولت أن أفهم لماذا يفشل الكثيرون –خصوصاً في منطقتنا العربية- في الابتكار مثل شركة "جوجل" أو غيرها من الشركات الكبيرة المبتكرة.
هل تصدقون أن قائمة أكثر 1,000 شركة استثماراً في مجال الابتكار والبحث العلمي في العالم لعام 2018 لا تحتوي إلا على شركة عربية واحدة فقط، بينما تحتوي القائمة على 147 شركة يابانية؟ على الرغم من أن هذه الأرقام صادمة، إلا أنها ليست كل شيء برأيي، نعم، حجم الإنفاق مهم، لكن ثمة عناصر أخرى مهمة للغاية في مجال الابتكار نحتاج أن نركّز عليها لبناء شركات عربية مبتكرة.
في كثير من الأحيان، إذا أردنا أن ندرُس الابتكار في إحدى الشركات لنستفيد من تجربتهم فإننا نذهب مباشرة إلى دراسة قسم الأبحاث أو الابتكار عندهم، ثم نحاول نسخ تجربة هذا القسم المجردة بمعزل عن البيئة المحيطة والمكونات الأخرى الداعمة لها، وهذا في الغالب يؤدي إلى الفشل. إن الابتكار عمل مؤسسي يتم بتعاون مختلف مكونات الشركة، فإدارة الموارد البشرية، والإدارة المالية، والسياسات والإجراءات، بل حتى مهمة الشركة "Mission" كلها لها دور. لهذا استعنت بكتاب مميز اسمه "قواعد العمل" (Work Rules) للكاتب لازلو بوك وهو نائب الرئيس للموارد البشرية في شركة "جوجل".
يخبرنا لازلو بوك أن مهمة "جوجل" (Mission) بسيطة ومُلهمة، وتتمثل في "تنظيم معلومات العالم وجعلها مفيدة ومتاحة للجميع"، ولو تأملتها فلن تجد لها سقفاً، وستجد فيها بعداً أخلاقياً، الأمر الذي يُحفّز على الابتكار.
إن عملية توظيف المبدعين والمحافظة عليهم من الأمور التي قد تزهد بها بعض الشركات، الأمر الذي يؤدي إلى تعطّل عجلة الابتكار فيها. "جوجل" تركّز على توظيف المبدعين الذين يتميزون بصفتين أساسيتين، المرونة والقدرة على التعامل مع المتغيرات، والقدرة على تخطي العوائق وحل المشكلات، وهاتان الصفتان ما يميز المبدعين في كل مكان. "جوجل" لم تعد تركّز على التوظيف من كبريات الجامعات الأميركية، بل يخبرني ذاك المدير في شركة "جوجل" أن أحد المدراء الكبار في نظام أندرويد ليس لديه شهادة جامعية. هم يبحثون عن المبدعين فحسب، بغض النظر عن درجتهم الجامعية وخلفيتهم وثقافتهم.
يفشل الابتكار في كثير من شركاتنا إذا لم تكن الإدارة الوسطى، داعمة للابتكار ومؤمنة به، فهم عنصر مهم في تحويل الأفكار إلى منتجات. إذا كنت من المدراء المميزين في "جوجل" فسيضعونك تحت المجهر، ليس ذاك المجهر سيئ السمعة، ولكنه مجهر جيد يقومون من خلاله بتحليل سلوكك لمحاولة استنساخه وصنع موظفين مميزين آخرين مثلك. يتم ذلك في معمل يسمونه (PiLab People & Innovation Lab).
إن تركيز بعض الشركات على الدخل والأرباح دون الحرص على بناء بيئة مميزة هو ما يتسبب غالباً في فشل الابتكار، لأن المميزين لن يبقوا في مكان بيئته غير جاذبة. ففي "جوجل" تعتبر الشفافية والمرونة من أهم القيم التي تقوم عليها ثقافة الشركة، وعلى الرغم من أنه في كل عام تحدث تسريبات سببها الشفافية، إلا أن "جوجل" تكتفي بمعاقبة المسيء بل وطرده أحياناً والحفاظ على القيم الأساسية التي تقوم عليها والبيئة المميزة التي بنتها. قد يظن البعض أن من يدخل جوجل لن يفكّر بالخروج منها وهذا غير صحيح، فقد ذهبت إلى وادي السيليكون وزرت عدداً كبيراً من الشركات، والذي وجدته أنه من الممكن جداً أن يترك موظف في "جوجل" وظيفته ليلتحق بشركة أصغر لكن ذات بيئة أفضل، ولهذا فإن الجميع يتنافس على بناء أفضل بيئة والمحافظة على أفضل الموظفين. يقول لازلو بوك: "كل ما يتطلبه الأمر هو أن تؤمن بأن الموظفين بالأصل جيدون، وأن تكون لديك الشجاعة لأن تعاملهم كأصحاب للشركة وليس مجرد آلات، حيث إن الآلات فقط تؤدي المطلوب لكن أصحاب الشركة يبذلون قصارى جهدهم لجعل شركتهم وفرقهم أفضل".
"جوجل" تعطي مساحة للمبدعين للعمل على مشاريع يحبونها أو أفكار يريدون أن يستكشفوها ويبحثوا فيها، ومبادرة 20% -أو 120% كما يسميها منتقدوها- تعطي مجالاً للموظف لقضاء جزء من وقت عمله الرسمي للعمل على مشاريع شخصية أو أفكار يحب أن يبحث فيها. إن فشل الشركات في إعطاء الموظفين مساحة وفسحة من الوقت للبحث والاستكشاف والتجريب هو أحد عوائق الابتكار.
كم مرة سمعنا في شركاتنا جمل مثل: "والله نعلم أن هذا الموظف مبدع ومميز لكن سياسة الشركة لا تسمح بزيادة أكثر من 10%" ... "نعلم أن هذا الموظف قد قام بإنجازات استثنائية لكن لا يمكن ترقيته لعدم وجود شاغر"، "نحن ملزمون بسقف معين للرواتب، نعتذر منك" ... وغيرها كثير ... الأمر الذي يكون سبباً أحياناً في فقداننا للكثير من المواهب لأن سياسة الشركة لا تساعد في المحافظة عليهم. "جوجل" لم ترض بأن تقع في فخ السياسات والتشريعات التي قد تكون سبباً في فقدانها للموظفين المبدعين، وقد تبنّت مقولة بيل غيتس أن مبرمجاً مميزاً أفضل من 10,000 مبرمج عادي، وهذه المقولة عندما تصدر من شخص بمكانة بيل غيتس فإنك لا تملك إلا أن تقابلها بكل احترام. لهذا فإنك في "جوجل" قد تجد موظفاً حصل على مكافأة أسهم بقيمة 10,000 دولار، بينما يتلقى موظف آخر في نفس المرتبة مكافأة بقيمة مليون دولار. في "جوجل" قد تجد موظفاً مبتدئاً يحصل على راتب أعلى بكثير من موظف في مرتبة عليا.
من أسباب فشل الابتكار في شركاتنا عدم دعم وإيمان القيادة العليا، وهذا وإن كان قليلاً إلا أنه من أعظم الأسباب القاتلة للابتكار. في "جوجل" الابتكار والبحث العلمي هما مسألة وجود، ومنذ اليوم الأول، بل هو جزء من الحمض النووي (DNA) الخاص بالشركة، فبدون إيمان ودعم واضح من القيادة العليا مادياً ومعنوياً لن يجد الابتكار طريقه للنمو داخل الشركة. من النماذج المميزة في منطقتنا العربية شركة أرامكو السعودية، حيث تولي الإدارة العليا الابتكارَ أهمية بالغة، أسفر هذا الاهتمام عن مشاركة قرابة الـ 60,000 موظف في برنامج الابتكار المؤسسي، ومشاركة حوالي 100,000 فكرة تهدف إما لتقليل التكلفة أو تطوير التقنية أو زيادة الجودة، أو غيرها. تقوم القيادة العليا برعاية البرنامج ومتابعة نتائجه ومؤشراته بشكل شهري، بل وتدعم الابتكار والبحث العلمي بمبالغ تتجاوز الـ 500 مليون دولار سنوياً.
يفشل الابتكار في شركاتنا لأننا كثيراً ما نستعجل النتائج، وأذكر أنني عندما قابلت "تيم براون" – الرئيس التنفيذي السابق لشركة "آيديو"، أشار إلى هذه النقطة وأننا في منطقتنا أحياناً نستعجل النتائج، وقال: "الابتكار يحتاج إلى وقت". في "جوجل"، هناك مشاريع ابتكارية طويلة الأمد وهي التي تكون موجودة عادة في حاضنة "Google X" السرية الشهيرة، والتي تُعنى بالتحديات التي قد يستغرق الوصول إلى الحل المناسب لها ما بين 5 إلى 10 سنوات، ولديهم مشاريع أخرى قصيرة، لكن في جميع الحالات، الابتكار يحتاج إلى صبر، فالتركيز على النتائج السريعة وأنصاف الحلول لن يجدي نفعاً على المدى البعيد.
بعد تفكير وبحث، فهمت لماذا أجابني ذلك المدير في "جوجل" أنهم لا يقومون بشيء كبير لدفع الموظفين للابتكار، قال نحن لا نوظف بالأصل إلا المبدعين، ولو تأملتَ إجابته، فستجد أن الحصول على مبدعين في وادي السيليكون لديهم حب للابتكار ويتبنون عقلية رواد الأعمال ليس بالأمر الصعب، فالعاملون هناك بشكل عام عندهم تقبّل للفشل، وحب للتجريب، وقابلية لتبني الغموض والمخاطرة، وهي في شركاتنا المحلية أمور لربما نحتاج إلى أن نبنيها، وهذا ما قد يغفل عنه من يحاول نسخ تجربة "جوجل" أو غيرها من الشركات الكبيرة كما هي. البيئة التي توجد فيها الشركة ونوعية الموظفين لها تأثير كبير في نوعية البرامج والمبادرات التي يجب أن نتبناها لبناء شركة مبتكرة.
في شركة "علم" السعودية -حيث أعمل مسؤلاً للابتكار - نعمل من خلال عدة برامج على بناء الموظف المبتكر، نهدف لبناء موظفين مبتكرين في شركتهم، وبيتهم، ومجتمعهم. وبناء الموظفين المبتكرين يبدأ بمساعدتهم على تبني عقليات معينة نقوم من خلالها بتغيير السلوك. في شركتنا، ومن خلال عدة برامج مترابطة، نبني الموظف الذي يحب المغامرة والتجريب، ويتقبّل الغموض، ويحب بناء النماذج الأولية السريعة، ويقبل المخاطرة المدروسة، ويتقبّل الفشل كفرصة للتعلم وسبيل للنجاح. نعطيهم العقليات الصحيحة والأدوات اللازمة ونبني عندهم الثقة الإبداعية اللازمة للابتكار.
من أسباب فشل الابتكار في شركاتنا هو البطء في تحويل الأفكار إلى نماذج أولية قابلة للتجريب، ومن ثم تحويلها إلى حلول قائمة، وهذه من المشكلات الصعبة والشائعة، ولعل من الحلول المقترحة بناء مسرعة أعمال داخلية، تشبه مسرعة "المنطقة ١٢٠" (Area 120) التي بنتها "جوجل". صحيح أنهم لا يقبلون إلا 50 فكرة من أصل ألف بالمعدل، إلا أنهم يعطون أصحاب الأفكار المميزة الفرصة لتحويل أفكارهم إلى مشاريع قائمة خلال فترة الحضانة داخل المسرعة، بل ويعطونهم إمكانية تحويلها إلى شركات ناشئة تحت مظلة "جوجل".
إذا أردنا أن نبتكر في شركاتنا فلا بد لنا أن ننظر للابتكار نظرة أكثر شمولية، ولنتحلّ بالإيمان والصبر. قد لا أبالغ إن قلتُ أن الابتكار في عالمنا سريع التغير، كثير الأزمات، قد صار مسألة حياة أو موت.
نحتاج إلى أن نحرص على توظيف المبدعين وأن نبني البيئة المناسبة لهم والسياسات التي تساهم في المحافظة عليهم، ونحتاج إلى أن نبني الموظفين المبتكرين، ونعطيهم المساحة الكافية للاستكشاف والتجريب، ونعطيهم فرصة لتحويل أفكارهم إلى مشاريع قائمة، ونحتاج إلى مهمة للشركة مُلهمة، وأهداف للابتكار طويلةٌ وقصيرةُ الأمد، وصبر وإيمان من القيادة العليا لا يرتد، وأفعال تُصدّق هذا الإيمان.
الابتكار لا يتم بمحاولة نسخ بعض الأمور الشكلية الظاهرة التي نراها في جوجل أو غيرها، كتلك الكراسي المريحة والمعامل ذات الألعاب والألوان الزاهية، ولا حتى غرفة المساج التي رأيتها هناك.