ملخص: لقد غزت الضوضاء مجتمعنا اليوم وتغلغلت في كافة شرايينه. ولا يزال معظم الثقافات المؤسسية يطالبنا بعدد من الأشياء، مثل التواصل المستمر والحفاظ على الميزات التنافسية التي ننفرد بها عن غيرنا. ونادراً ما تجد مؤسسة تعير انتباهاً للحاجة الإنسانية الأساسية أو تعطي الأولوية للهدوء والسكينة. ولكن هناك استراتيجيات بسيطة يمكننا استخدامها لإيجاد ملاذات شخصية آمنة وتغيير هذه الثقافة. ومن خلال استعادة الهدوء والسكينة في مكان العمل، يمكننا تهيئة الظروف لتقليل فرص الإصابة بالاحتراق الوظيفي وتعزيز حلّ المشكلات بطرق إبداعية.
إذا سافرتَ عبر الزمن إلى صيف عام 1787 في فيلادلفيا وزرت قاعة الاجتماعات الأسطورية، حيث كان ممثلو الولايات المتحدة في المؤتمر الدستوري يؤدون عملهم، فستجد شيئاً لافتاً للنظر.
كان الشارع الواقع أمام قاعة الاستقلال مغطى بتلة ترابية ضخمة.
كان أعضاء لجنة وضع دستور الولايات المتحدة قد أمروا ببناء هذا الساتر الترابي المانع للصوت، لأنهم كانوا يخشون أن يتأثر تركيزهم بسبب الضوضاء الناجمة عن أصوات العربات التي تجرها الخيول والباعة الجائلين والمحادثات التي تدور في الخارج، وهم في أمسّ الحاجة إلى التركيز لإنجاز مهمتهم. لم يشأ ممثلو الولايات المتحدة أن يخيم على المكان جو من الصمت المطبق. فقد أظهرت الوثائق التاريخية أن المؤتمر شهد الكثير من الجدل الصاخب والخلافات الحادة. ولكن كان هناك إقرار ضمني بأن أفراد المجموعة بحاجة إلى ملاذ هادئ حتى يتمكنوا من أداء عملهم الشاق للغاية. وكان هذا هو المغزى من وجود التلة الترابية الضخمة.
وإذا عدتَ إلى الوقت الحاضر وسافرتَ بالزمن نحو 240 عاماً لتصل إلى عصرنا الحالي، فستجد أن المشرّعين (واضعي القوانين) في الولايات المتحدة لديهم موقف مختلف نوعاً ما تجاه الضوضاء. وقد عمل أحدنا، جاستن، لعدة سنوات مديراً تشريعياً في "مجلس النواب الأميركي"، ولطالما وجد أن الضوضاء باتت شديدة الإزعاج والتشويش لدرجة تعوق التفكير. ولك أن تتخيل هذا السيل الهائل من الأخبار التي يجري بثها عبر القنوات الأرضية وإشعارات "تويتر" التي تظهر على شاشات الهواتف الذكية باستمرار وأجهزة الإنذار عالية الضجيج التي تشير إلى عدد أصوات النواب، فضلاً عن الضوضاء المعلوماتية التي تسود منطقة كابيتول هيل، من رسائل البريد الإلكتروني العاجلة التي لا نهاية لها والضغوط المستمرة لشبكات العلاقات والتجاذبات السياسية والتغطيات الإعلامية.
يوضح هذا المثال المعبّر عن حدوث تحول جذري على مدى 240 عاماً حقيقة بسيطة، مفادها أن الثقافة المؤسسية قد تعج بالضجيج المشوش أو يعمُّها الهدوء والسكينة.
عالم يعج بالضوضاء
نرى بأعيننا أدلة ملموسة على أن الحياة باتت تعج بالضوضاء أكثر من أي وقت مضى، فقد ظهرت أجهزة تلفزيون ومكبرات صوت وأجهزة إلكترونية تصدر إشعارات أعلى صوتاً وأصبحت أكثر انتشاراً في الأماكن العامة والمكاتب المفتوحة. وتشير التقديرات إلى أن نحو 450 مليون شخص في أوروبا، أي ما يقرب من 65% من السكان، يعانون مستويات ضوضاء تعتبرها منظمة الصحة العالمية خطرة على الصحة. كل هذا له آثار خطِرة على صحتنا العقلية وصحتنا البدنية وقدرتنا على إخراج أعمال إبداعية.
وقد يختلف معنى الضوضاء من شخص لآخر في بعض الأحيان، فما يعتبره أحدهم موسيقى عذبة قد يراه شخص آخر مصدراً للإزعاج. ونحن نعرّف "الضوضاء" بأنها التحفيز الذهني والصوتي غير المرغوب فيه الذي يتداخل مع قدرتنا على فهم العالم وقدرتنا على التصرف وفقاً لنوايانا. ومن هذا المنطلق، فإن الضوضاء هي أكثر من مجرد مصدر للإزعاج. إنها عائق أساسي أمام القدرة على تحديد وتنفيذ الحلول المناسبة للتحديات التي نواجهها كأفراد ومؤسسات، بل ومجتمعات بشكل أعم.
إذاً، كيف نغيّر قواعد الضوضاء؟ وكيف نبني ثقافات تحترم أهمية الصمت في فرقنا وفي مؤسساتنا بشكل أوسع؟
إذا كنا نريد ثقافات مؤسسية تحترم الهدوء والسكينة، فهناك بعض المبادئ العامة التي لا بد من تطبيقها لإجراء هذا التغيير. أولاً: يجب أن نتحدث عنه كثيراً، وذلك من خلال إجراء محادثات واضحة حول توقعاتنا بخصوص التواصل المستمر، ومتى يُسمَح بقطع اتصالنا بالإنترنت، ومتى يحق لنا أن نحتفظ لأنفسنا بمساحة شخصية للتركيز على العمل الذي بين أيدينا دون مقاطعة من أحد. ولا بأس بأن تتوسّع هذه المحادثات لتتطرق إلى مسائل ثقافية أعمق، مثل ما إذا كان من الممكن أن تلوذوا بالصمت في وجودكم معاً بدلاً من محاولة ملء الفراغ بالكلام، أو ما إذا كان من المقبول أداء مهمة معينة في أثناء حديث شخص آخر معك.
وقد وجدنا أن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية يمكن أن تساعد فرق العمل في مختلف البيئات والمواقف على احترام الهدوء والسكينة.
ما الطرق التي أخلق بها ضوضاء تؤثر سلباً في الآخرين؟
لا يعني فتح باب النقاش حول الهدوء المشترك اغتنام الفرصة لتوجيه أصابع الاتهام إلى عادات الآخرين المشوِّشة فحسب. وتتمثّل أفضل نقطة انطلاق لفتح باب النقاش حول المعايير الجماعية في أن تبدأ بنفسك أولاً. كيف تسهم في صنع الضوضاء السمعية والمعلوماتية التي تزعج المجتمع من حولك؟
ربما كنتَ تترك دون قصد جرس رنين الهاتف والإشعارات عند أعلى مستويات الصوت. وربما كنتَ "تفكر بصوت عالٍ" أو تقاطع الآخرين بشكل معتاد. وربما كنتَ تُكثِر من النشر على وسائل التواصل الاجتماعي أو ترسل الكثير من الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني التي تطلب فيها الرد على محتوى الرسالة. وربما كنتَ تُشغّل الموسيقى أو المدونات الصوتية (البودكاست) في الأماكن العامة دون مراعاة مشاعر الآخرين أو تُجري فجأة مكالمات مهمة تخص العمل في أثناء جلوس ابنتك بجوارك لأداء واجبها المدرسي.
خصّص بعض الوقت للتساؤل عما إذا كانت عاداتك التي تسهم في صنع الضوضاء ضرورية أو أنها مجرد سلوكيات غير مدروسة تأتي عفو الخاطر، بمعنى أنها عادة تلازمك وتحتاج إلى التصحيح. إذا لم تسفر ملاحظتك الذاتية عن رؤى واضحة، فاستعن بشخص أمين يَصدُقك القول واسأله عن ملاحظاته حول كيفية تحسين مستوى أدائك.
ما العادات المشوِّشة التي تزعجني بشدة؟
أجرينا مقابلة مع الرئيسة التنفيذية المشاركة لشركة "إي أو برودكتس" (EO Products) المتخصصة في منتجات العناية بالبشرة المستخلصة من الطبيعية، سوزان غريفين بلاك، أخبرتنا فيها بأنها قطعت على نفسها عهداً منذ سنوات بألا تستخدم هاتفها أو جهاز الكمبيوتر أبداً عندما يتحدث أحد معها وألا تؤدي مهمة أخرى عندما تتحدث مع شخص آخر. وتحرص غريفين على التمسك بقاعدتها الذهبية، على الرغم من تفاعلها مع مئات الموظفين، إضافة إلى أفراد الأسرة ووجود الكثير من الالتزامات الاجتماعية في حياتها.
وعلى غرار العهد الذي قطعته سوزان غريفين بلاك على نفسها بعدم أداء مهمات أخرى في وجود الآخرين، يمكنك وضع قاعدة ذهبية لتخفيف الضوضاء أو تحقيق المزيد من الهدوء عن وعي. وكن قدوة يحتذي بها الآخرون فيما تريد تحقيقه. توقف عن التفكير فيما تقدره أنت عندما يتعلق الأمر بتخفيف حدة الضوضاء وإيجاد الهدوء والسكينة. ما القاعدة الذهبية الشخصية التي تعكس هذا الموقف؟ أو بدلاً من ذلك، فكر في العادات المشوشة التي تزعجك كثيراً. ما القاعدة الذهبية للتعامل مع هذه العادات؟
كيف أساعد الآخرين على إيجاد الهدوء والسكينة اللذين يحتاجون إليهما؟
لاحظ مايكل بارتون وجود مشكلة في التسعينيات من واقع منصبه مسؤولاً تنفيذياً في شركة "سيتي سيرش" (Citysearch) التي غدت الآن قسماً في شركة "تيكت ماستر" (Ticketmaster). فقد كان العاملون، خاصة المبرمجين ومطوري البرمجيات، يعانون الضوضاء ويتعرضون للمقاطعة على نحو متكرر في المكاتب المفتوحة بالشركة. عرض عليه محلل شاب في الشركة فكرة يتمثل فحواها فيما يلي: منح كل عضو في الفريق "وشاحاً أحمر"، عبارة عن شريط بطول 90 سنتيمتراً وعرض 8 سنتيمترات من القماش الأحمر اللامع، بحيث يرتديه كعلامة تعني "ممنوع الإزعاج". ولن تلحق وصمة العار بالشخص الذي يرتديه لأن الجميع يعلمون أنه يمكنهم فتح درجهم بكل بساطة وإخراج وشاحهم الأحمر ووضعه حول رقبتهم واعتبارهم "خارج المكتب". وقد اقتنع بارتون بالفكرة تماماً، وقررت الشركة تجربتها.
لم يكن الوشاح الأحمر حلاً شاملاً، ولم يقض على الكثير من مشاكل الضوضاء والمقاطعة، لكنه كان البداية. وقد أدى ذلك إلى العديد من التجارب الأخرى، بما في ذلك إنشاء محطات عمل صغيرة هادئة بحجم كشك الهاتف و"الكهف التكنولوجي" الذي يوفر أجواء تتميز بالعزلة التامة لأداء أعمال كتابة الشفرة البرمجية. والأهم من ذلك أن حل الوشاح الأحمر أثار موضوع الضوضاء والإلهاء وفتح الباب لإجراء حوار بنّاء.
وإذا وجدتَ أن ذلك مناسب وفي متناول يدك، ففكّر في كيفية الدفاع عن الهدوء والسكينة، ليس فقط في المؤسسة بأكملها، بل في حياة الأفراد الذين يفتقرون إلى القوة أو الاستقلالية للتحكم في ظروفهم الخاصة. ربما تشغل منصباً في شركتك يمكنك من خلاله مناقشة محنة مهندس أو كاتب محتوى يبدو من الواضح أنه يحتاج إلى ملاذ آمن يحتمي به من الضجيج في مكان العمل. وعلى صعيد الحياة الشخصية، فقد ترى أن ابن أخيك المنطوي على نفسه بحاجة إلى فاصل من حين لآخر يستريح فيه من حضور المناسبات العائلية الصاخبة، وبالتالي تنبّه أخاك إلى هذه المشكلة بلطف.
وعلى الرغم من أنه لا يمكنك وضع المعايير الجماعية والثقافية العامة من جانب واحد استناداً إلى ما تؤمن أنت بصحته، فيمكنك أن تبحث عن أفكار جديدة لتقديم الاقتراح أو أن تبحث عن إمكانات جديدة لإدارة البيئة الصوتية أو تحسين الأجواء، خاصة تلك التي تخدم مصالح أولئك الذين يفتقرون إلى السلطة والنفوذ.
تغيير قواعد الضوضاء
أرسى المشاركون في المؤتمر الدستوري عام 1787 قواعد تُعلي من قيمة المداولات التي تجري في جو يسوده الهدوء والسكينة. ووضعوا نصب أعينهم هدفاً مشتركاً يتمثّل في توفير بيئة تمنحهم القدرة على التركيز. وقد ذكّرتهم تلك التلة الترابية الضخمة، وذكّرت الجمهور أيضاً بأن الهدف من تجمعهم هو التخلص من عوامل الإلهاء والتشتيت من أجل أداء عملهم على أكمل وجه. وفي حين أن كومة من التراب لن تحل مشاكل اليوم (لأن الضوضاء غالباً ما تكون داخل مكاتبنا ومنازلنا نفسها)، فهناك طرق أخرى كما رأينا أعلاه لتغيير الثقافات المؤسسية فيما يتعلق بالضوضاء والهدوء.
فقد لجأت شركة "سيتي سيرش" إلى فكرة الوشاح الأحمر، في حين أن سوزان غريفين بلاك تلتزم بقاعدتها الذهبية. ولكن هناك الكثير من الطرق الأخرى للمساعدة على خلق ثقافات مؤسسية تحترم الهدوء والسكينة. على سبيل المثال، يحظر بعض المؤسسات "إرسال بريد إلكتروني يوم الخميس" أو "عقد اجتماعات يوم الأربعاء". وفي حالات أخرى، يعلن بعض المؤسسات أن الموظف غير مُطالَب بفتح أجهزته الإلكترونية للرد على أي استفسارات تخص العمل خلال عطلات نهاية الأسبوع أو بعد الساعة 5 مساءً. وقد تساعد إعادة تصميم المكاتب وطريقة توزيعها في بعض أماكن العمل أنواعاً معينة من العاملين على إيجاد التركيز الذي يحتاجون إليه. وقد يتمثّل أحد الحلول في السماح بالعمل لفترات متواصلة من الوقت في أثناء يوم العمل دون مقاطعة من أحد. وقد يكون هناك حل آخر يتمثّل في التخلي عن فكرة المكاتب المفتوحة بالشركة ونقل المكتب بأكمله إلى مبنى جديد. وقد لا يكون هناك حل أمام الشركات الأخرى سوى التخلص من البريد الإلكتروني باعتباره الوسيلة الأساسية للتواصل والاستعانة بدلاً من ذلك باجتماعات إطلاع الفريق على آخر المستجدات مرتين يومياً أو تطبيق نظام إلكتروني يحافظ على الهدوء والسكينة.
لقد غزت الضوضاء مجتمعنا اليوم وتغلغلت في كافة شرايينه. ولا يزال معظم الثقافات المؤسسية يطالبنا بعدد من الأشياء، مثل التواصل المستمر والحفاظ على الميزات التنافسية التي ننفرد بها عن غيرنا. ونادراً ما تجد مؤسسة تعير انتباهاً للحاجة الإنسانية الأساسية أو تعطي الأولوية للهدوء والسكينة. ولكن هناك استراتيجيات بسيطة يمكننا استخدامها لإيجاد ملاذات شخصية آمنة وتغيير هذه الثقافة. ومن خلال استعادة الهدوء والسكينة في مكان العمل، يمكننا تهيئة الظروف لتقليل فرص الإصابة بالاحتراق الوظيفي وتعزيز حلّ المشكلات بطرق إبداعية.
ويمكننا أن نكون هادئين في وجودنا معاً، حتى في عالم مشوش يزداد صخباً.