لقد مررنا جميعاً بهذا الموقف؛ نجلس في اجتماعات متتالية تبلغ مدة الواحد منها ساعة كاملة، ونحاول جاهدين أن نجلس بطريقة توحي باهتمامنا بسيل المعلومات الذي يتدفق علينا في تقرير تلو الآخر، حتى ندرك أخيراً أن الاجتماع أوشك على الانتهاء، دون اتخاذ أي قرارات. نشعر آنذاك بالملل والسأم، ونقول لأنفسنا بنبرة مستاءة: "كان من الممكن الاستغناء عن هذا الاجتماع برمته والاستعاضة عنه برسالة إلكترونية". فهل هذه العبارة هي دقيقة؟
الكثير من الأحداث التي تجري في الاجتماعات ولا يمكن الاستعاضة عنها برسالة رقمية. تقول القاعدة المتعارف عليها في مجال التواصل إن 7% فقط من المعلومات التي تُنقل شخصياً هي معلومات لفظية، أي الكلمات الفعلية التي يمكن نقلها عبر رسالة بريد إلكتروني. أما النسبة المتبقية البالغة 93% فهي عناصر سياقية، مثل الإشارات غير اللفظية ونبرة الصوت والسياق العام والملاحظات. (تجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم مدعوم بالأبحاث، ولكننا نبالغ في تعميمه غالباً، على غرار ما يحدث مع الكثير من النتائج المدهشة). تعطينا هذه المعلومات كلها صورة أوضح لما يحدث بالفعل خلال الاجتماعات، ولا يمكن التعبير عنه كتابة بأسلوب يظهر معناه بوضوح تام.
كشفت الأبحاث الحديثة في واقع الأمر أننا أسوأ مما كنا نظن فيما يخص تحديد الكثير من هذه المعلومات في رسائل البريد الإلكتروني. فقد أُجريت دراستان، قادهما جاستن كروغر في جامعة نيويورك، وتوصل الباحثون من خلالها إلى أن البشر يبالغون باستمرار في قدرة متلقي البريد الإلكتروني على تحديد السياق، وعندما نفتقر إلى هذه المعلومة نملأ الفجوات غالباً بالصور النمطية وربما التخمينات المغلوطة.
قسّم الباحثون أفراد العينة البحثية المشاركين في الدراسة الأولى إلى مجموعات ثنائية، ثم أعطوهم قائمة تشمل 20 عبارة حول مجموعة متنوعة من الموضوعات، مثل الطقس والطعام، وكان نصفها جاداً ونصفها الآخر ساخراً. ثم اختار كل مشارك 10 عبارات لإبلاغ شريكه بها في المجموعة، وقيل له تحديداً إن عليه اختيار العبارات التي يعتقد أن شريكه سيدرك بسهولة أنها جادة أو ساخرة. ثم اختار الباحثون نصف المجموعات الزوجية عشوائياً وكلّفوهم بالتواصل عبر البريد الإلكتروني، بينما كلّفوا الباقين بالتواصل عبر الهاتف (وتحديداً، عبر تقنية التسجيل الصوتي). أُبلِغ المشاركون الذين يستخدمون البريد الإلكتروني بضرورة كتابة عباراتهم على جهاز الكمبيوتر بالطريقة المكتوبة بها في القائمة وإرسالها إلى شركائهم دون تغيير، وأُعطي المشاركون الذين يستخدمون الهاتف جهاز تسجيل وطُلب منهم قراءة كل عبارة بصوت عالٍ، بالطريقة المكتوبة بها في القائمة دون تغيير أيضاً. وطُلب من كلا المشاركَين في كل مجموعة زوجية توقُّع عدد العبارات التي سينجح شريكه في فهم أنها عبارات ساخرة.
وجد الباحثون أن التوقعات ظلت متساوية إلى حدٍّ ما في كلتا الحالتين؛ فقد توقع أفراد المجموعات التي تتواصل عبر كلٍّ من البريد الإلكتروني والهاتف أن ينجح شريكهم في فهم نحو 8 من أصل 10 عبارات، وكان أداء المتلقين في حال استخدام أجهزة التسجيل الصوتي ممتازاً إلى حدٍّ ما (فقد نجحوا في تحديد 73.1% من العبارات)، في حين أن المتلقين في حال استخدام البريد الإلكتروني لم يتوقعوا سوى 56% من العبارات بصورة صحيحة، وهو ما يشكّل تراجعاً كبيراً، ما يعني أن فُرص النجاح تكاد تكون متعادلة (50%).
وعلى الرغم من إمكانية تفسير أسباب هذا التفاوت بسهولة وعزوها إلى افتقار رسائل البريد الإلكتروني للسياق غير اللفظي (حيث تبلغ النسبة المفقودة منه 93%)، فالأمر الأكثر إثارة للقلق هو الثقة المفرطة لدى الأشخاص الذين أرسلوها ويقينهم شبه التام من سهولة فهم عباراتهم الساخرة. وخلُص الباحثون إلى أن مُرسلي المعلومات "سمعوا" العبارات في رؤوسهم تُنطَق بنبرة ساخرة عند كتابتهم لها، وبالتالي افترضوا ببساطة أن هذه النبرة ستنتقل إلى الطرف المتلقي عبر البريد الإلكتروني.
الصور النمطية والتقديرات الجزافية
ولا نفترض أن إشاراتنا غير اللفظية تشق طريقها عبر رسائل البريد الإلكتروني فحسب، فقد أثبتت دراسة ثانية أننا عندما نتلقى المعلومات في صيغة نص رقمي، فإننا نعوّض نقص المعلومات السياقية غالباً باستخدام الصور النمطية والتقديرات الجزافية لسد الفجوات.
طلب الباحثون هذه المرة من المشاركين تقييم مستوى ذكاء شخصين أجروا مع كل منهما مقابلة شخصية، حيث أجرى نصف المشاركين المقابلة عبر البريد الإلكتروني والنصف الآخر عبر الهاتف. قبل المقابلات، أُعطي كلٌ من المشاركين سيرتين ذاتيتين خياليتين للشخصين اللذين سيجري معهما المقابلتين، وكانت هاتان السيرتان الذاتيتان تحفلان بالصور النمطية ذات الطابع العرقي والاجتماعي (كانت إحدى السيرتين الذاتيتين لطالب آسيوي أنيق يدرس تخصصين رئيسيين في الجامعة وحاصل على معدل تراكمي مرتفع، وكانت الأخرى لطالب قوقازي في ملابس غير رسمية وسبق له أن لعب كرة القدم في المدرسة الثانوية وتخصصه الرئيسي في الجامعة إدارة الفنادق). قدّم كلا الشخصين الأجوبة نفسها في المقابلات، بغض النظر عما إذا كانت عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني، وبغض النظر عما إذا كان "طالباً آسيوياً يدرس تخصصين رئيسيين" أو "لاعب كرة قدم ذا بشرة بيضاء"؛ غير أن المشاركين الذين استخدموا البريد الإلكتروني اعتبروا الطالب الذي يدرس تخصصين رئيسيين أذكى من لاعب كرة القدم السابق، في حين أن المشاركين في حالة الهاتف اعتبروا الاثنين على القدر نفسه من الذكاء.
تشير هذه النتائج إلى أننا عندما نتفاعل عبر البريد الإلكتروني مع شخص لا نعرفه جيداً، فإننا نبالغ في التركيز على أي معلومات متاحة لتحل محل المعلومات السياقية المفقودة. يشير هذا إلى أننا عندما نتلقى رسالة إلكترونية من زميل غير معروف، فقد نفرط في الاعتماد على المعلومات القليلة التي نعرفها عنه، مثل الخلفية التي ينتمي إليها أو الإدارة التي يعمل فيها، للحكم عليه (بأحكام يجانبها الصواب في الغالب).
تُظهر هاتان المجموعتان من النتائج مجتمعتين أن الاستغناء عن الاجتماعات واستخدام الرسائل الإلكترونية بدلاً منها قد يكون قراراً يجانبه الصواب. فقد نفترض خطأً أن الآخرين يفهمون نوايانا الحقيقية من كلماتنا، إلى جانب أننا قد نفترض خطأً أننا نفهم الطرف المتلقي للرسائل الإلكترونية بما يكفي للتواصل معه بالأسلوب المناسب؛ لذا عندما تحضر اجتماعاً مملاً أو محبطاً في المرة المقبلة وتقول لنفسك مستاءً: "ربما كان من الممكن الاستغناء عن هذا الاجتماع والاستعاضة عنه برسالة إلكترونية"، خذ نفساً عميقاً وابدأ التركيز على المعلومات غير المكتوبة التي لن تظهر أمامك لو أنها أُرسلت بالبريد الإلكتروني.