في عالمنا الذي يعطي الأولوية للتقنيات الرقمية، يبدو أن كل يوم يمر يأتي بكلمة رنانة جديدة من عالم التكنولوجيا العميقة. ويستحيل حصر قائمة تلك الكلمات، فبدءاً من الذكاء الاصطناعي إلى المركبات ذاتية القيادة وأجهزة كمبيوتر الكوانتم إلى الرعاية الصحية عن بُعد وصولاً إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتات وإنترنت الأشياء، كل ذلك يؤدي إلى إعداد جيل جديد من المبتكرين.
لا يقتصر ما سبق على الاختلاف الذي يمكن لبضعة عقود قادمة إحداثه! حيث يتغير العالم من حولنا بسرعة فائقة. أهلاً بكم في عصر الثورة الصناعية الرابعة. نحن نعيش تغييرات مدهشة تدمج ما بين عوالمنا المادية والرقمية والبيولوجية.
ولم تعد القواعد القديمة سارية ضمن هذا الواقع دائم التغير، خصوصاً فيما يتعلق بالتعليم والاستفادة من أفضل مقاربة لتمكين وتأهيل المبتكرين وقادة الفكر في إشراق المستقبل. دعونا نجري مقارنة سريعة بين الماضي والحاضر لتسليط الضوء على عدد من الأفكار المثيرة للاهتمام.
بيئة الابتكار المطلوبة
لنعتبر أجهزة الكمبيوتر مثالاً. منذ سنوات عديدة، كان المخلصون والمشاركون بعمق في جوانب مختلفة من تكنولوجيا الحوسبة، "المهووسون" إن صح التعبير، هم وحدهم الذين يصنعون أجهزة الكمبيوتر الشخصية من الصفر في المنزل أو يعيدون صياغة وبرمجة خصائصها. لكن إذا ألقيت نظرة سريعة على الحاضر ترى أولئك المهووسين الآن قد أصبحوا "مبتكرين صغاراً" يندفعون باتجاه بناء طائراتهم المسيرة عبر دمج أجهزتهم وتحسينها.
كما أدركت الشركات الكبرى أن الابتكار يتطلب بيئة مرنة وسريعة من النماذج الأولية، وترى الآن أن ما يميزها هو إنشاء "هاكر سبيس" أو "مختبر ابتكار" أو "فاب لاب". وتتنافس الشركات الكبرى لإطلاق العنان من أجل إبداع موظفيها وتحفيزهم عبر الانتقال من العروض التوضيحية القائمة على شرائح العروض التقديمية إلى استعراض نماذج أولية يمكن تجريبها.
ويعد مبتكرو الغد مفكرين يتسمون بالمرونة والكفاءة والتفكير خارج الصندوق. فيتألف الجيل "ألفا" من مجازفين لديهم فضول كبير ويتقبلون الفشل بسهولة. ويتمتعون بالفطنة وحب المعرفة والجرأة، إذ يفضلون قضاء أوقات فراغهم خلال إجازة أو ما شابه في مساعٍ منتجة يتعلمون فيها أمراً قيّماً في مجالات اهتمامهم. كما يثمنون التفكير النقدي. وتحظى تلك الفئة بقيم ترجع إلى مجموعة من السمات أهمها عدم قبول الهزيمة. وتحمّل هذه الفئة المسؤولية للمعلمين والمرشدين لضمان تدريب مبتكري الغد بشكل صحيح وفعال وحصد أعلى المكاسب والنجاحات.
تنطلق إمارة أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات، بكل قوتها في سعيها لإنشاء منظومة بحثية تمكّن المبتكرين والعلماء الشباب من الابتكار. وتعد العاصمة أبوظبي في عالمنا اليوم، إحدى أهم الوجهات الناهضة والناشئة في عالم الابتكار التكنولوجي ومنصة حديثة لاختبار المشاريع العلمية والإبداعية، ويسعى نظام (HUB71) في سوق أبوظبي العالمي إلى جذب رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا إلى مقره من خلال إنشاء حاضنة للأعمال وتقديم الدعم المالي لهم. وتستضيف دولة الإمارة تحديات تكنولوجية بشكل دوري، على سبيل المثال، جائزة "إطعام المليار التالي" التي انطلقت برعاية "أسباير"، والتي تجمع الطلاب وقطاع الصناعة من حول العالم، ما يعزز بذلك تركيزها على إيلاء الأولوية لدراسة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
كما يحفز مجلس "أبحاث التكنولوجيا المتطورة" في أبوظبي بناء كادر من العلماء والمتخصصين في التكنولوجيا المتقدمة لتولي أدوار قيادية في مجالات ابتكارات الغد. ويعد المجلس كياناً شاملاً مكلفاً بتشكيل منظومة للتكنولوجيا المتقدمة وبناء كفاءات وطنية في مجالات التكنولوجيا العميقة المتنوعة، ومنها الذكاء الاصطناعي، والتشفير، وحوسبة الكوانتم، والمواد المتقدمة، والطاقة الموجهة، والأمن الرقمي، وغيرها الكثير. وتحتضن الإمارة مسرعة الأعمال التكنولوجية (StartAD)، التي ترعى الشركات الناشئة في مرحلة التأسيس وتساعد على ربطها بشركاء من كبرى الشركات.
بناء منظومة للابتكار
وعندما نتحدث عن بناء منظومة للابتكار، يوجد العديد من المتطلبات الأساسية التي يجب مراعاتها. فقد تطورت دراسة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى حد كبير مع مرور الوقت، وقد يجد الكثير من المعلمين اليوم أنفسهم غير مؤهلين لتعليم جيل ألفا، وهم مواطنون رقميون بأكثر من طريقة. إذن، كيف يمكن التغلب على ذلك التحدي؟
يتمثل أحد أهداف تمكين المبتكرين الشباب في أن تحول أنظمة التعليم تركيزها بعيداً عن توليد وحدات معرفية محددة، وأن تسلط الضوء بدلاً من ذلك على مهارات التفكير النقدي وحل المشاكل وغيرها من القدرات. وهنالك احتياجات مهمة إلى زيادة عدد ونوعية الخريجين في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وأن يتم توسعة الآفاق المعرفية لهذه التخصصات لتجهيز المواطنين لكي يلبوا الاحتياجات المطلوبة منهم في المجتمعات المتقدمة تقنياً. ولتحقيق النجاح، يجب أن يشرف على تعليم هذه المجالات المتخصصون أنفسهم منذ مرحلة مبكرة.
لقد قال الشاعر الإنجليزي الشهير ويليام بتلر ييتس مرة: "ليس التعليم أن تملأ دلواً، بل أن توقد ناراً"، وهذا يعكس بحق جوهر عملية التعليم في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات التي تسعى إلى بناء كوادر تحب التعلم طوال الحياة وتسعى إلى الاستكشاف وطرح الأسئلة وتملك القدرة على حل التحديات مهما كانت معقدة. إن تعليم هذه التخصصات لا يركز على تدريس المواد فقط، بل يتضمن تكوين العقول، وهي مهمة ليست بالسهلة خاصة عندما نتذكر الغرض من بناء الأمم أو من تكوين مستقبل الحضارة الإنسانية.
إن تعليم مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات يتطلب بالتأكيد تفاعل المجتمع والاستثمار في التحول نحو عقلية علمية وتدريبية شاملة ومتكاملة. وفي ظل التنامي المستمر لرقمنة التعليم، تبرز متطلبات جديدة أمام المدرسين والأنظمة التعليمية والجيل الجديد من القادة. كيف نضمن أن يكون ما نتعلمه اليوم صالحاً للتطبيق بعد 15 عاماً من الآن؟ وما الأدوات التي يحتاجها العلماء لكي يتعلموا الآن الأشياء التي سوف تفيدهم خلال العقدين القادمين؟ الإجابة بسيطة وتكمن في حثهم على التعلم المستمر.
إن التعلم بالممارسة والتفاعل مع العملية الإبداعية الرامية إلى إيجاد حلول حديثة سيعود بفوائد عظيمة. يجب أن يكتسب المدرسون مهارات جديدة لمواكبة المستجدات ولكي يتمكنوا من تعليم جيل المبتكرين القادم. ويجب عليهم حضور الندوات، والاستفادة من المصادر الإلكترونية، واستثمار الوقت الكافي لاستخدام منصات مثل منصة www.instructables.com الإلكترونية التي توفر للمدرسين والعاملين في الحقل التعليمي أفكاراً عديدة للتفكير خارج الأطر التقليدية.
التفاعل مع العقول النيرة
إن المتعلمين في عصرنا الحاضر يريدون أن يصنعوا أشياء بأنفسهم، سواء كان ذلك حاسوباً خارقاً أو وسيلتهم الإعلامية الخاصة. لقد أصبح توفر الخيارات مهماً بالنسبة إليهم وهم يرغبون دائماً باختيار ما يودون تعلمه. وعلى اعتبار الجيل الحالي هو أكثر جيل ملمّ بالتكنولوجيا في تاريخنا البشري، قد تكون التكنولوجيا نفسها غير مهمة كثيراً بحد ذاتها، بل ينبغي أن يركز الجيل الحالي والطلبة على استخدام هذه التكنولوجيا لصناعة منتجات قيّمة، واستكشاف المعلومات، والتعاون وإعطاء الآراء، وتعزيز بيئة الابتكار. ومن المهم أيضاً الابتعاد عن المعايير التقليدية مثل درجات التحصيل العلمي، والوظائف المنزلية، والعمليات الروتينية، والتحول نحو منح الآراء والمرونة وتبني طرق التعلم المدمج.
إن التفاعل مع العديد من العقول الشبابية النيّرة ضمن برنامج "نيكس-تك" التابع لـ "معهد الابتكار التكنولوجي"، الذي يهدف إلى تشجيع الشباب الإماراتي على استكشاف المجالات الواعدة في التكنولوجيا المتقدمة، يقودني إلى الاعتقاد بأهمية إعادة التفكير في المناهج التعليمية لكي تركز على عملية التعلم المبنية على الحرف اليدوية، وتقنيات التصنيع الرقمية، والأنشطة التعليمية الحرفية المنتشرة في مدارس مختارة في بعض الدول الأوروبية. وبإمكان دولة ناشئة ومتوجهة نحو التكنولوجيا الحديثة مثل الإمارات أن تتحول بسهولة إلى منظومة تعليمية جديدة يمكنها بناء مثل هذه المهارات لدى الطلبة.
إن تكوين عقلية تكنولوجية متقدمة يتطلب تدخلاً مبكراً لضمان وضع جميع عناصر التمكين في مكانها الصحيح. كما يجب أن يتوفر الدعم الحكومي، والتمويل البحثي المستدام والمنظم، وحوافز الدعم الثانوية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، واستثمار جهات القطاع في الحقل الأكاديمي لتلبية متطلبات قوى العمل والمتطلبات الاقتصادية، إذ يجب أن تتناغم كل هذه المكوّنات لتحقيق الرؤية الرامية إلى تكوين منظومة بحثية حيوية.