في بدايات التسعينات من القرن الماضي، رحّب المسؤولون التنفيذيون والمدراء بوجود تقنية المعلومات وقواعد البيانات ووحدات تشغيل الحواسيب الشخصية ونُظم التشغيل الآلي في مكاتبهم. فقد كانوا يعلمون الإمكانيات التي تنطوي عليها لتحقيق مكاسب مهمة لشركاتهم؛ فالحواسيب لا تزيد سرعة العمليات أو تمّكن من التنفيذ الآلي لمهام محددة فحسب، بل إنها قد تعصف تقريباً بعمليات تسيير الأعمال كلها، وتتيح للمسؤولين التنفيذيين إعادة التفكير بشأن العمليات من الألف إلى الياء. وهكذا كان ميلاد حركة إعادة هندسة العمليات.
ويحدث هذا الأمر مجدداً في الوقت الحاضر؛ لأن خوارزميات التعلم الآلي القوية، التي تتكيف من خلال التجربة وتتطور في الذكاء بالاستفادة من البيانات، تُحدث تغييرات في عالم الأعمال كان المستحيل تصورها قبل خمس سنوات فحسب. وقد تطورت الحواسيب الشخصية وقواعد البيانات التي استُحدثت خلال تسعينات القرن الماضي، فحلت الخوارزميات التي ترتكز على الآلات نفسها، مكان الشفرات المستندة إلى قواعد ووضعها المهندسون. ونتيجة لذلك، فإن عمليات تسيير الأعمال تعاد هندستها الآن آلياً.
وتهدف الخوارزميات إلى إعادة تصميم عمليات تسيير الأعمال تماماً كما فعل البشر خلال حركة إعادة هندسة العمليات الأولى. وفي ذلك الوقت، كانت السرعة البشرية تحِد من إعادة هندسة العمليات. فكان المدراء يلاحظون الاتجاهات السابقة والعمليات المنقحة، ويطور المهندسون الشفرة التي كانت تُدمج في الأنظمة الحاسوبية. وكان كل تطوير أو استجابة إلى السوق يتطلب خطوات عديدة، ويكلف وقتاً وأداء. وفي بعض الأحيان، يكون السوق - بحلول الوقت الذي تُستحدث فيه هذه التغييرات - قد تجاوزها مسبقاً. ووفق إعادة هندسة عمليات تسيير الأعمال آلياً، تكون التغييرات في العمليات مستمرة وترتكز ليس إلى الاتجاهات السابقة فحسب، بل أيضاً إلى القدرات التنبؤية لخوارزميات التعلم الآلي. وتتطلب إعادة هندسة العمليات آلياً من الأشخاص تدريب أداء الخوارزميات، ونماذج البيانات التي تُحدث التغيير في العمليات والتعامل معه بفعالية، بدلاً من إحداث التغيير في العمليات بأنفسهم.
وقد انحرفت إعادة هندسة العمليات عن المسار عبر تشجيع الشركات على تجديد عدد أكثر مما ينبغي من العمليات بشكل أسرع مما ينبغي. وعلاوة على ذلك، فقد كانت شعارات إعادة هندسة العمليات - فيما يتعلق بـ "التخلص" من الأساليب الحالية - مفرطة وهدامة في نهاية المطاف ليس للعمليات فحسب، بل للشركات أيضاً. وعلى ما يبدو، فإن إعادة هندسة العمليات آلياً قد تجنبت، حتى الآن، هذه الأخطاء. فتركز الشركات التي تعيد هندسة عملياتها آلياً على عملية واحدة رئيسة في كل مرة، وبالتالي، يصبح بوسعها قياس مقدار النتائج الإيجابية المحققة.
وفي دراستنا التي أجريناها على أكثر من 30 برنامجاً تجريبياً في الشركات التي بادرت بتطبيق إعادة هندسة العمليات آلياً، توصلنا إلى أن خمس عمليات مشتركة قد تحسنت باستخدام إعادة هندسة العمليات آلياً. ويوضح الرسم البياني نسبة الشركات التي استهدفت إحدى فئة تحسين إحدى عمليات تسيير الأعمال، ومن ثَم نسبة هذه العمليات التي استخدمت أساليب تعلم آلي متنوعة لتحقيق الهدف. على سبيل المثال، فإن نصف الشركات تقريباً تستخدم إعادة هندسة العمليات آلياً لتسويق المنتجات والخدمات. وإذا مرّرتَ المؤشر على الشريط البنفسجي، فسترى أن هذه الشركات تفعل ذلك غالباً من خلال التحليلات التنبؤية المحوسبة، بل إنها تدمج أيضاً قدراً قليلاً من الاستشعار البصري والكشف عن اللغة الطبيعية.
ما نوع التعلم الآلي المستخدم في أي من عمليات تسيير الأعمال؟
وبعد أن حددنا العمليات التي تستهدف أساليب التعلم الآلي المستخدمة، أردنا أن نفهم كيفية ارتباط هذه الأساليب بالنتائج الثلاث التي تنشدها الشركة، والمتمثلة في: تحسين الأداء المتصل بالتكاليف، والأداء المتعلق بالزبائن، والأداء بشأن الإيرادات. على سبيل المثال، فإن تمرير المؤشر على الشريط البرتقالي الخاص بمعالجة اللغة الطبيعية يُظهر أنها تُحدث أوجه تطور في الأداء فيما يتعلق بالتكاليف والزبائن بقدر متساو تقريباً، لكنها لا تنطبق تماماً على الأداء المتعلق بالإيرادات.
ما هي النتائج التي يتم تحسينها حسب نوع التعلم الآلي؟
وهذه هي النظرة النسبية للأنشطة. وبالسؤال عن كيف ستؤتي إعادة هندسة العمليات آلياً نتائجها في واقع الأمر؟ فإنه وعلى الرغم من أن هذه هي البداية فحسب (إذ نعتقد أن المزيد من العمليات الأخرى ستتبع)، رأينا بالفعل أدلة على المكاسب المهمة، بل والمتسارعة التي تعود على الشركات في جميع هذه المجالات الثلاثة.
إذ سجلت تقريباً نصف الشركات التي بادرت بتطبيق إعادة هندسة العمليات آلياً أوجه تحسّن في مجمل الأداء. وقد تحققت أوجه التحسن هذه، في أغلب الأحيان، من خلال تقديم بيانات تنبؤية أكثر ملاءمة من جانب التوقيت، بصورة آلية، إلى الموظفين الذين يتعاملون مع الزبائن أو العملاء المحتملين.
فلاحظت إحدى شركات تقديم الخدمات للأعمال التجارية، الكائنة في مدينة سان فرانسيسكو، جوانب قصور في نهج إعادة هندسة العمليات التقليدي المتبع في عمليات المبيعات والتسويق بالشركة، الذي كان البحث بموجبه عن قواعد البيانات الخاصة بنظام إدارة العلاقات مع الزبائن (CRM) يتم باستخدام خوارزميات ثابتة. ولم يكن بوسع الخوارزميات التعامل مع اضمحلال البيانات وقضايا ضمان الجودة والأوقات الطويلة التي يستغرقها النظر في المسائل. إلا أنه بعد تطبيق إعادة هندسة العمليات آلياً، توفرت للشركة سبل الحصول على معلومات مستحدثة بشأن سلوك المشترين أتاحت لها التنبؤ بالقطاعات السوقية على نحو ينطوي على أقوى إمكانيات تحقيق النمو.
وأطلقت الشركة على هذه العملية الجديدة "آلة الإيرادات العلمية" (SRM). وقد ساعدتها هذه العملية، حتى الآن، في زيادة الإيرادات بمقدار 20 ضِعفاً، وزيادة احتمالات تحويل القطاعات السوقية المكتشفة بمعدل 2.5. وعلاوة على ذلك، فقد حرّرت إعادة هندسة العمليات آلياً محللي البيانات بالشركة؛ لأنهم يوجهون اهتمامهم في الوقت الحالي صوب تطوير منتجات جديدة والمضي في تعزيز القدرات المتعلقة بالإيرادات في الشركة.
كما حقق أكثر من ثلث الشركات، التي بادرت بتطبيق إعادة هندسة العمليات آلياً مكاسب في مجمل الأداء باستخدام هذا النهج متمثلة في خفض ما بين 15% إلى 70% من التكاليف من عمليات محددة. وفي الوقت نفسه، شهدت بعض هذه الشركات تحسناً بمقدار عشرة أضعاف في فعالية مكان العمل والقيمة التي يحققها.
وفي إحدى الحالات اللافتة للنظر، خفضت إحدى الشركات العالمية، التي تعمل في مجال الأغذية الاستهلاكية وأعادت هندسة عملياتها المتعلقة بتوصيل منتجاتها آلياً بطريقة جديدة مدهشة، الحوادث المرورية وحالات التأخير بصورة ملموسة. فكان النهج النمطي الذي تتبعه، في السابق، إزاء عملياتها المتعلقة بإدارة المخاطر يتضمن مراقبة أصول الشركة وإجراء تحليلات للأسباب الجذرية بشأن حوادث شاحنات التوصيل بعد حدوثها.
وبعد تطبيقها إعادة هندسة العمليات آلياً، نفذت الشركة أنظمة تفادي الاصطدام، التي تستخدم "جهاز استشعار ذكي للرؤية". تقوم هذه الأنظمة بتمشيط الطريق وفي الوقت نفسه تطبق خوارزميات الرؤية الحاسوبية. وتقيس هذه الأنظمة، باستمرار، مسافة العقبات المحتملة وسرعة المركبات الأخرى وتنبّه السائقين في حالة وجود أخطار محدقة، وهو ما يحسّن من توقيت اتخاذ رد فعل. وقد نتج عن البرنامج التجريبي لهذه الأنظمة خفض الحوادث الناتجة عن عدم كفاية المسافة بين مركبتين، بنسبة 40%. كما انخفضت الحوادث الأمامية بنسبة 50%. وانخفضت الحوادث الناتجة عن مغادرة المسار المروري بنسبة 80%. فتعمل القدرات التنبؤية، التي تتحلى بها إعادة هندسة العمليات آلياً، بصورة جوهرية، على تحسين سلامة العمليات.
إذ سجل نحو خُمس الشركات التي بادرت بتطبيق إعادة هندسة العمليات آلياً مكاسب ملموسة في رضا الزبائن وإشراكهم. وفي هذا المقام، يمكننا أن ندين بالفضل للعمليات التي جرت هندستها آلياً في تسهيل التعاملات المتعلقة بخدمة الزبائن وفي تقليل خطوات العمليات أو في زيادة التفاعل الإنساني في مواقف خدمة الزبائن.
وقد دفعت إعادة هندسة العمليات، على مدى سنوات، الشركات إلى نقل خدمة الزبائن، بصورة متزايدة، نحو الأتمتة. ومن المؤسف أن الزبائن لم يشعروا قط بالحماس تجاه خيارات القوائم الصوتية والأصوات الإلكترونية والفحص النافي للجهالة المطول. ويمكن لأنظمة إعادة هندسة العمليات آلياً تحسين أوجه التفاعل هذه.
لأنّ نظام "فري سبيتش" (FreeSpeech) الذي ابتكرته شركة "نوانس" (Nuance)، يتحقق من هوية المتصل من خلال مجرى المحادثة الطبيعية، وهو ما يوفر بدائل فيما يتعلق بإثبات هوية المتصل والتخلص من سلسلة الأسئلة المعقدة والزائدة عن الحاجة على ما يبدو، التي غالباً ما تستخدم في تأكيد هوية المتصل.
فتستخدم شركة تعمل في مجال الخدمات المالية، وتتخذ من كندا مقراً لها، استدلالاً بيولوجياً فعالاً يسمى "ڨوكال باسورد" (VocalPassword) باللغتين الإنجليزية والفرنسية على حدا سواء. وجرى التخلص، باستخدام أصوات الزبائن باعتبارها كلمات مرور، مما يصل إلى أربع خطوات في عملية التحقق المستخدمة في الوقت الحالي. وسجلت الشركة تحسناً بلغت نسبته 50% في تحديد مسار المكالمات.
وعلى سبيل المقارنة، فقد عمّم أحد البنوك الأوروبية استدلالاً بيولوجياً بصيغة المبني للمجهول يستخدم مع العملاء أصحاب الثروات الكبيرة للتحدث مع مستشاريهم الماليين. فيصغي النظام، ببساطة، ويقارن بصمات الصوت أثناء سير المحادثة بشكل طبيعي. وبفضل هذا النظام، انخفض متوسط وقت التعامل مع المكالمات بمقدار 15 ثانية، ونال ذلك استحسان العملاء: حيث منح 93% من العملاء هذا النظام 9 درجات من مجموع 10 درجات تقييمية.
وتستقبل مؤسسة أخرى، كائنة في أستراليا، ما يقارب 9 ملايين مكالمة في السنة، وتتطلب 75% من هذه المكالمات عملية تحقق. فأدخلت الشركة كلاً من الاستدلال البيولوجي المبني للمجهول والمبني للمعلوم على حد سواء، فلا يتطلب الأمر أن تبدأ المكالمات بمجموعة طويلة من الأسئلة. ونتج عن ذلك أنّ هذه المؤسسة قد قللت متوسط طول مدة المكالمات بمقدار 40 ثانية.
لا تُنشئ إعادة هندسة العمليات آلياً مسارات جديدة للعمل فحسب، بل إنها تضع نموذجاً جديداً بالكامل للتفكير بشأن العمل والعمليات. فإنها تنطوي على إمكانية تعزيز تفكيرنا بما يتجاوز محيط الأسباب والنتائج، وتتيح لنا فهم العمليات البالغة التعقيد، فلا يمكن للعقل البشري التعامل معها، ومن ثم تحسينها، وتكشف لنا - من بعض الوجوه - الجوانب التي كانت مخفية عن العيان في السابق. وسوف تجعل العمليات أكثر رشاقة وكفاءة وإنتاجية بكثير. وإذا اعتُبرت الشركات التي بادرت إلى تطبيق هذا النهج مؤشراً، فإن إعادة هندسة العمليات تمثل طفرة في تطور عمليات تسيير الأعمال. فالمكاسب الكثيرة الناجمة عن تطبيقها موجودة، تنتظر مَن يعثر عليها.