لقد أضنانا التعب بعد تلك الشهور العجاف التي عشناها منذ أن ابتلينا بجائحة "كوفيد-19"، ذلك الضيف الثقيل. وبتنا نخشى قدوم موجة ثانية من الوباء. ويحدونا الأمل في أن نبدأ من جديد ونقطع ولو بضع خطوات، إن عجزنا عن العدو بأقصى سرعة ممكنة، لمواصلة المسير والمضي قدماً، حتى ولو من باب الهروب من هذا الشعور بالغموض.
علينا أن ننظر إلى العالم من خلال منظور آخر. فنحن نتفهم الرغبة في البدء من جديد، وإعادة ضبط النظام قبل أن نبدأ من جديد، أو ما أطلق عليها المنتدى الاقتصادي العالمي المزمع انعقاده في الدورة المقبلة من ملتقى دافوس الذي نأمل أن يتم تأجيله إلى صيف 2021: إعادة الضبط الشامل
فقد أدى مرض "كوفيد-19" إلى تغيير وجه العالم، لدرجة أن آثاره فاقت آثار هجمات 11 سبتمبر/أيلول على "مركز التجارة العالمي" عام 2001، التي يخيل لنا أنه قد مضى على وقوعها مائة عام كاملة، وليس 20 عاماً فقط.
وهذا يطرح سؤالين مهمين في واقع الأمر.
أولاً: ما الذي يتعين علينا إخضاعه لعملية إعادة الانطلاق تحديداً قبل أن نبدأ من جديد؟
ثانياً: مَن الذين سيضغطون على زر إعادة الضبط الشامل، ومَن الذين سيقررون الضغط عليه، وما درجة المصداقية التي يجب أن يمتلكوها لتمكينهم من فعل ذلك؟
إعادة ضبط النظام ليتناسب مع الجميع
هل يعمل النظام بصورة جيدة؟ أجل، إنه يعمل بصورة جيدة، وحتى أفضل من ممتازة مع 467 مواطناً أميركياً شهدوا هم وأسرهم تنامي ثرواتهم بمقدار 730 مليار دولار منذ 1 يناير/كانون الثاني 2020. أعتقد أن الشعور بالرضا يعم كلاً من جيف بيزوس بشركة "أمازون" الذي نمت ثروته بمقدار 76 مليار دولار، وإيلون ماسك بشركة "تيسلا" الذي نمت ثروته بأكثر من 43 مليار دولار، ومارك زوكربيرغ بشركة "فيسبوك" الذي نمت ثروته بأكثر من 42 مليار دولار، وستيف بالمر بشركة "مايكروسوفت" الذي نمت ثروته بأكثر من 18 مليار دولار، ولاري إليسون بشركة "أوراكل" الذي نمت ثروته بأكثر من 12 مليار دولار، أليس كذلك؟
لكن يمكن القول إن النظام لا يعمل بصورة جيدة مع 50 مليون شخص فقدوا وظائفهم، وحوالي 27 مليون مواطن أميركي فقدوا تأمينهم الصحي، منذ أن ابتلينا بجائحة "كوفيد-19" لأول مرة. فماذا يعني عدم وجود عمل ومظلة تأمينية وتقديم إعانة حكومية تصرف مرة واحدة بقيمة 1,200 دولار للبقاء على قيد الحياة؟
أشار "مكتب إحصاءات العمل" في الولايات المتحدة إلى أن 82 مليون عامل في الولايات المتحدة يتقاضون أجورهم بالساعة ولا يملكون مظلة تأمينية تؤهلهم للحصول على الإعانة الاجتماعية (من رواتب تقاعدية وتأمين صحي وإجازات أمومة). ويحصل حوالي 2 مليون شخص من بين هؤلاء العاملين على الحد الأدنى للأجور الذي يتراوح ما بين 8 دولارات إلى 13 دولاراً في الساعة بحسب كل ولاية من الولايات. يشكل هؤلاء العاملون جزءاً من اقتصاد العمل الحر الذي يعتبر في الظاهر مرادفاً للديناميكية، لكنه يعني في حقيقته افتقار العامل للأمان الوظيفي وغياب المشاريع طويلة الأجل.
يسهل فهم المخاطر التي نتجشمها، ولكن الصعوبة كل الصعوبة تكمن في القدرة على التصدي لها. فالجميع يريدون البدء من جديد ولا يدخرون وسعاً لتحقيق هذه الغاية، ولكن ثمة شخصيات ومؤسسات محددة تمسك بمفتاح هذه البداية الجديدة، وستواصل العمل حصراً لصالح أولئك الذين استفادوا من الأوضاع حتى الآن. ما المشاكل التي يجب أن نتصدى لها؟ تتمثل الخطوة الأولى لتغيير النظام في فهم كيفية عمله. وقد وجدتُ رؤية ثاقبة في كتاب صدر مؤخراً بعنوان "النظام" (The System) لمؤلفه روبرت رايخ، الذي شغل منصب وزير العمل في عهد الرئيس بيل كلينتون. لا يبني رايخ تحليله على الانقسام بين اليسار واليمين، والذي بات تقسيماً عفا عليه الزمن وغير قابل للاستخدام، بل يتناوله من منظور السلطة -مَنْ يمتلكها ومَنْ لا يملكها، أي الفارق بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية.
مواجهة المشكلة الحقيقية لتحقيق إعادة الضبط الشامل
لا تصب نتيجة هذا التحليل في صالح الرؤساء التنفيذيين ورؤساء الشركات. ولا يمكن بحال من الأحوال أن نلوم المؤلف في تحامله عليهم، خاصة إذا علمنا أن مداخيلهم الحقيقية في الفترة من 1980 إلى 2019 قد ارتفعت بنسبة 940%، بينما لم ترتفع أجور العاملين إلا بنسبة 12% فقط. وتكمن المشكلة الحقيقية في أن السلطة لعبة صِفرية، وبالتالي يتحول الصراع على السلطة إلى ساحة للمعارك. وقد عكف رايخ على دراسة وثائق "جمعية بزنس راوند تيبل" (Business Roundtable) برئاسة جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي العتيد لمؤسسة "جيه بي مورغان" (JP Morgan). صدرت إحدى الوثائق ذات الصلة في شهر أغسطس/آب 2019، وأبدى فيها أعضاء الجمعية التزامهم بـ "العمل من أجل المنظومة العامة والمجتمع ككل، وليس لصالح المساهمين فقط، إلى جانب دفع رواتب الموظفين بشكل عادل وحماية البيئة".
ثم صدر إعلان "وورلد أوف فاينانس آند إندستري" (World of Finance and Industry) في مدينة غوتا الألمانية، والذي جاء ممهوراً بتوقيع 181 شخصية رفيعة المستوى في عالم المال والصناعة. كان من بين الموقعين على هذه الوثيقة جيف بيزوس، أغنى رجل في العالم ومالك شركة "هوول فودز" (Whole Foods) وليس شركة "أمازون" فقط. ولكنه سرعان ما قرر إلغاء التأمين الصحي لجميع موظفيه العاملين بدوام جزئي بعد أسابيع قليلة من توقيع هذا الإعلان.
وهناك عدد لا يحصى من المؤسسات التي تتخذ إجراءات صورية وخطوات رمزية فارغة من أي مضمون بغرض تجميل صورتها أمام الجمهور فقط، ورسم صورة إيجابية عنها في أذهانهم: وكمثال نموذجي على ذلك تعيين إحدى الشركات لأميركي من أصل إفريقي رئيساً لفريق التنوع ولكنها لن تحلم أبداً بوجود أميركي من أصل إفريقي في منصب إداري تنفيذي أو في مجلس إدارتها.
ثم ننتقل من الحديث عن مساوئ توزيع السلطة إلى الحديث عن الفساد "المُقنَّع"، ولا يُقصَد بالفساد هنا الرشوة بين شخصين، بل الفساد الممنهج الذي استشرى بصورة كبيرة لدرجة أن المحكمة العليا قد عرّفته بأنه "التأثير المدمر والمنحرف لتراكم الثروة الناتج عن دور الشركات والمؤسسات التي لم تعد تخدم مصالح الجمهور"، حيث كان 79% من الأميركيين في عام 1964 مقتنعين بأن الحكومة تعمل من أجل الصالح العام، بينما رأى 63% من المواطنين في عام 2014 أن الديمقراطية معروضة للبيع لمن يدفع أعلى سعر، بالمعنى الحرفي للكلمة.
المؤشرات الكاشفة
هل تعرف ما أكثر المؤشرات الكاشفة من بين كل المؤشرات التي تتنبأ بثروة الشخص والإمكانات المتاحة أمامه؟ إنه مؤشر ثروة الأسرة والخلفية الاجتماعية، حيث وُجد أن معظم الطلاب في الكليات والجامعات المرموقة، مثل "برينستون" و"ييل" و"بن ستيت"، ينتمون إلى أغنى شريحة من المواطنين الأميركيين الذين يمثلون 1% فقط من الشريحة السكانية الشهيرة التي تتبوأ قمة الهرم الاجتماعي في الولايات المتحدة، مقارنة بالنسبة الباقية البالغة 99% من مجموع السكان. وقد أوضح دانيال ماركوفيتز، في كتابه "فخ الجدارة: كيف تغذي الأسطورة التأسيسية لأميركا عدم المساواة" (The Meritocracy Trap: How America’s Foundational Myth Feeds Inequality)، كيف أن النظام التعليمي يشكل حالياً أكبر عقبة أمام خلق الفرص للأشخاص الذين لا ينتمون إلى طبقة النخبة، أي أنه عقبة، وليس منصة للانطلاق.
وبالتالي فقد أحدث النظام الذي نشكل جزءاً منه فارقاً هائلاً لقلة مختارة ممن يواصلون جمع الثروة وامتلاك السلطة، ويستمرون في "انتقاء" من يجب ضمهم إلى هذه النخبة، ليس على أساس الكفاءة بل على أساس الخلفية الأسرية والعلاقات الاجتماعية. لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة التي يجب عندها بدء عملية إعادة الضبط الشامل باعتبارها ضرورة لا غنى عنها لإحداث تغيير جذري لأوجه الظلم المترسخة في النظام الحالي. إذ لا يمكن تحقيق النجاح بأي شكل كان في ظل التراكم المخزي للثروة والسلطة في أيدي قلة قليلة من البشر، ووجود نظام يكرّس النخبوية بدلاً من إتاحة الفرص على أساس الجدارة والكفاءة، ولا يصلح هذا النظام في حقيقة الأمر لحوالي 90% من البشر على هذا الكوكب.
وقد أشارت مارغريت هيفرنان في كلمتها الرائعة والمؤثرة على منصة "تيد" إلى أن العالم كان يتوقع من القادة لسنوات عديدة تزويدنا بالإجابات والحلول. وإذا كان هناك شيء تعلمناه خلال هذه الجائحة فهو أننا بحاجة إلى إعادة تعريف القيادة. لا، ليس من خلال كتابة قائمة خيالية بأهم 10 مهارات يجب تعلمها في عام واحد مصحوبة بمقطع فيديو لطيف، بل يتعلق الأمر بتهيئة الظروف الملائمة التي يمكن فيها للجميع التوصل معاً لأكثر الأفكار جرأة. "لقد انتهى زمن الأبطال الخارقين، وحان الوقت لتكاتف الجميع، فهناك الكثير من الأمور على المحك في الآونة الحالية والتي تمسنا جميعاً: لقد انتهى زمن الأبطال الخارقين. ولن نتمكن من تحرير الطاقة اللازمة لحل المشكلات التي نتصدى لها إلا عندما نقبل الحقيقة القائلة إن لكل شخص قيمته وأهميته.
إذاً، من الذي سينقر على زر "إعادة الانطلاق" على لوحة المفاتيح العالمية؟ لن يُقدِم على هذه الخطوة المشتبه بهم المعتادون، أولئك الذين لا يزالون يتشدقون بحسن القيادة بينما يفعلون العكس. إذ لا بد أن هناك سبباً يجعل أقل من ثلث المواطنين يعربون عن ثقتهم في الرؤساء التنفيذيين، باستثناء قلة ضئيلة من الرؤساء التنفيذيين الرائعين الذين حازوا على ثقة معظم الأفراد. ولا يمكن أن تنجح عملية إعادة الضبط الشامل إلا في ظل وجود نظام ديمقراطي يتم فيه تمثيل الجميع واحترامهم، ويُسمع فيه صوت الجميع، بدلاً من وجود أقلية قوية تواصل تسخير النظام لصالح أعضاء ناديهم الحصري.
ومن هنا، يجب بناء مجتمع أفضل من خلال النضال بكل شغف ونزاهة من أجل تعزيز الديمقراطية عبر المشاركة المدنية وقوة العزيمة، من أجل الصالح العام وليس من أجل منح الامتيازات لقلة مختارة. وهنا تبدأ المعركة لإنقاذ حياتنا وصناعة مستقبلنا. وأعتقد أن هذه هي عملية إعادة الضبط الشامل بصورتها الحقيقية.