سببت جائحة كوفيد-19 خللاً واضطراباً غير متوقعيّن في عالم الأعمال أفقداه توازنه لفترة من الزمن، ففي حين سقطت الكثير من الشركات إلى الهاوية، استطاعت أخرى الصمود ومن ثم العودة سريعاً متأقلمة مع الواقع الجديد، بل وباحثة عن طرق الاستفادة منه، لتسطر الجائحة درساً واضحاً لقادة الأعمال، وهو أن المرونة وتمكين الأفراد هما مفتاح التعامل مع الأزمات. لذا، كانت الجهات التي تمكنت من تجاوزت أزمة كوفيد-19 سريعاًَ هي التي تتمتع بقدر أكبر من المرونة، حيث ركزت استراتيجيتها على الأفراد.
أشار التقرير السنوي عن مؤشر مرونة العمل العالمي في نسخته لعام 2022، الذي أصدرته وايتشيلد (Whiteshield) إلى أن مرونة العمل في حالة ركود في جميع أنحاء العالم، إذ إن ما يقارب نصف الدول إما شهدت انخفاضاً في مرونة العمل، أو بأقصى تقدير ارتفع مجموع نقاطها -بحسب المؤشر- أقل من نقطة واحدة. ويعود انخفاض مؤشر المرونة في سياسات العمل إلى سببين، الأول هو نموذج الحوكمة الذي يتصف بدرجة عالية من المركزية، ما يعيق تمكين الجهات الفاعلة سواء على مستوى الحكومات أو الشركات، والآخر هو التركيز على الخطط قصيرة الأجل، ما يحول دون التخطيط للمستقبل في حالة الأحداث غير المتوقعة، إذ إن الدول التي تحتل مرتبة متقدمة في "مؤشر مرونة العمل العالمي" كانت أكثر تركيزاً على المبادرات طويلة الأجل.
لذلك، تحتاج الحكومات والشركات إلى الاستفادة من أزمة كوفيد-19 وإعادة تصميم سياساتها، لتبنّي مسار مختلف يقودها إلى مجتمع يتمحور حول المواطن، من خلال تقليص مركزية صناعة القرار المالي والسياسي، والتركيز على خطط طويلة الأجل، خاصة في عصر متسارع النمو والتغيير بسبب الابتكارات التغييرية والثورة الرقمية.
إطار مستحدث للسياسة العامة يتمحور حول الفرد
ابتكرت شركة وايتشيلد، المتخصصة في وضع الاستراتيجيات والسياسات العامة، إطاراً جديداً للسياسات العامة، تحت مسمى "إطار الحوكمة الكميّة" (Quantum Governance)، يهدف إلى دعم الحكومات والشركات وتوجيهها إلى اعتماد سياسات عامة فعالة تتمحور حول الفرد بدلاً من التركيز حصراً على مؤشرات النمو الاقتصادي الكلي.
من المقرر أن يُنشر الإطار الجديد في كتاب بعنوان "إطار الحوكمة الكمية" في وقت لاحق من العام الحالي، على يد المؤلفيّن فادي فرا، الشريك الإداري في وايتشيلد الذي يتمتع بخبرة تزيد عن 20 عاماً في تصميم وتنفيذ السياسة العالمية، وكريستوفر بيساريدس، المدير في وايتشيلد والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2010، والأستاذ في كلية لندن للاقتصاد.
يشير فادي فرا، أحد مؤلفي الكتاب إلى أن الدول التي وضعت شعوبها في مركز محوري في أثناء تطبيق استراتيجياتها، ومكّنتها من خلال التعليم والابتكار وريادة الأعمال والأنظمة الصحية، كان مواطنوها أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمة، بمعنى أن السياسات العامة المتعلقة مثلاً بالتعليم والرعاية الصحية والبنى التحتية يجب أن تركز على المواطن، على أن تشمل مقاييسها مستوى الدخل والرفاهية المتاحة بدلاً من مقاييس "وطنية" بحتة ومؤشرات الاقتصاد الكلي.
وينطلق الإطار الجديد من حقيقة ثابتة وهي أن لكلّ عصر سياساته الملائمة له والتي تلبي احتياجاته المختلفة، وحيث أن العالم قد خطى خطواته الأولى في العصر الحديث، وهو عصر البيانات، فإن السياسات العامة التي تبنتها الحكومات والشركات سابقاً لن تحقق اليوم النتائج نفسها. إذ يؤكد المؤلفان أنه مع تحوّل البيانات إلى عامل إنتاج رئيسي، ستظهر طريقة عمل جديدة حول الشبكات والمنصات التعاونية، يؤدي فيها الأفراد دوراً متزايد الأهمية.
ومع دخول العالم في عصر البيانات ومواجهته للثورة الصناعية الرابعة، باتت الدول تواجه تحديات سياسية جديدة، بحيث أصبح من الضروري إعادة صياغة السياسات الجديدة لتتمركز حول الفرد، ولتتمكن الدول من إطلاق إمكانات غير عادية لشعوبها ومجتمعاتها، باستخدام أدوات حديثة وعقلية جديدة، والقضاء على البيروقراطية المعقدة من أجل ضمان حصول كل فرد على حل فعال مصمم خصيصاً له.
وفي هذه الأوضاع الاقتصادية المتغيرة، فإن الدول بحاجة إلى تبني نموذج المجتمعات المرنة، التي تطبق حوكمة اللامركزية وتتسم بمرونة عالية ومشاركة فعالة للأفراد، كسويسرا ودول شمال أوروبا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ. فتركز سويسرا، على سبيل المثال، على النمو الأخضر والحوكمة اللامركزية بما في ذلك الاستقلال المالي والإداري للحكومات المحلية. وذلك وفق ما أورده فادي فرا، في مقال له بعنوان: "نحو مجتمعات مرنة تتمحور حول المواطن".
ويقدم المؤلفان مجموعة من المبادئ التي يمكن لواضعي السياسات العامة الاعتماد عليها للتطبيق الفعال لإطار الحوكمة الكميّة، ومن ضمن هذه المبادئ ضرورة تغيير طريقة تفكير المعنيين الذين يعتبرون أن "حلاً واحداً يناسب الجميع"، والابتعاد عن النهج "التجميعي" خلال عملية صياغة السياسات، واللجوء إلى نهج يأخذ بعين الاعتبار الفروق بين الأفراد وينظر للفرد على أنه الوحدة الرئيسية التي يُبنى عليها عند التحليل والعمل.
يشير إطار "الحوكمة الكميّة" الجديد إلى أهمية تبني المرونة عبر دمج السياسات، إذ حلل المؤلفون أكثر من 300 من مؤشرات السياسات العامة ونتائج التنمية المستدامة من أجل تحديد مدى تأثير سياسة معينة على جميع السياسات الأخرى، وتقييم درجة اعتماد سياسة على جميع السياسات الأخرى، وخرجوا بأهمية دمج السياسات، داعين إلى وجود تصنيف بديل يتجاوز القطاعات والأدوات "التقليدية".
يؤكد الإطار الجديد على ضرورة استيعاب الأفراد أنفسهم للسياسات، وتحويلها لاحقاً إلى إنجازات ملموسة، واصفين عملية التحوّل هذه باسم "التعلم الكمي". ويبرر المؤلفان ذلك بأن الأفراد يميلون إلى أن يكونوا مدفوعين بمصالحهم الخاصة وطموحهم ومعتقداتهم وأهدافهم ومجموعة من القيم المشتركة الخاصة بمجتمع معين.
وكما يحتاج العصر الجديد إلى سياسة جديدة، فإن هذه السياسة لن تصبح فعالة باعتماد المقاييس القديمة مثل الناتج المحلي الإجمالي وميزان المدفوعات، وإنما تحتاج إلى مقاييس جديدة تلائم اللامركزية، وتساعد على قياس قيمة الأفراد. لذا، يقدم المؤلفان بطاقة قياس أداء جديدة تُعرف باسم ميزان السياسة العامة، والتي تلخص مدخلات السياسة المرسومة ومخرجاتها، وتبتعد عن التركيز على الإنتاج و الأصول الملموسة.
ختاماً، فإن التغيير لن يتم بين عشية وضحاها، غير أن وجود أطر جاهزة مثل إطار "الحوكمة الكمية" لشركة وايتشيلد، والنظر إلى نماذج العمل الناجحة سواء دول أو شركات من شأنه أن يختصر وقتاً طويلاً ويتجاوز الكثير من التردد الذي ينتاب الكثيرين بشأن أي تغيير.
تتقدم مؤسسة وايتشيلد بشكر خاص لكلّ من كريستوفر بيساريدس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وفادي فرا الشريك الإداري لمؤسسة وايتشيلد وأميرة بن سبع المديرة الإدارية في وايتشيلد لإسهاماتهم القيّمة في إعداد هذا التقرير.