ليس من المستغرب أن يقول نحو 60% من الموظفين إن المجتمع الأميركي يفتقر إلى الكياسة والتهذيب في التعامل. أدى كل من الخطاب السياسي المتشدد وتغيّر الأعراف الاجتماعية خلال الجائحة والتفاعلات غير اللائقة عبر الإنترنت دوراً كبيراً في تفاقم هذه المشكلة.
يعني ذلك أن الذهاب إلى المكتب هذه الأيام قد يشبه السير في حقل ألغام؛ إذ يؤدي الانقسام الاجتماعي والسياسي إلى تقسيم الزملاء إلى مجموعات تتبنى عقلية "نحن في مواجهة الآخرين". وبالتالي، يشعر الناس بالحيرة حول ما يجب قوله، وإذا كان يجب عليهم أن يتحدثوا من الأساس. قد تؤدي العبارات البسيطة والعفوية، أو الدعابات الخفيفة، أو حتى الملاحظات ذات النوايا الحسنة إلى إثارة النزاعات أو مشاعر الاستياء. ومع إلزام بعض الشركات الكبرى الموظفين بالعودة إلى العمل من المكتب 5 أيام في الأسبوع، فمن المرجح أن تزداد حدّة هذه التوترات. وهذا أمر مؤسف، لأن عواقب السلوكيات غير المهذبة وخيمة.
يقدّر الرئيس التنفيذي للجمعية الأميركية لإدارة الموارد البشرية (SHRM)، جوني تايلر جونيور، أن السلوكيات غير المهذبة تكلف الشركات الأميركية نحو ملياري دولار يومياً بسبب انخفاض الإنتاجية.
وفي استطلاع أُجري في عام 2013 أفاد 63% من الموظفين الذين تعرضوا لإساءة المعاملة في مكان العمل بأنهم أضاعوا وقت العمل لتجنب التعامل مع مَن أساء إليهم، وقال 66% منهم إن أداءهم تراجع، وأبلغ 80% منهم أنهم أضاعوا وقت العمل بسبب التفكير والقلق بشأن هذه الحادثة، واعترف 25% منهم بأنهم صبّوا إحباطهم وغضبهم على العملاء.
في المقابل، يؤدي إنشاء مكان عمل يتسم باللباقة والتهذيب إلى تحقيق فوائد متعددة على مستوى الأفراد والفِرق والمؤسسة بأكملها.
كشف تحليل ميتا التجميعي أن الكياسة والسلوكيات المهذبة تؤدي إلى زيادة مستويات الرضا الوظيفي والصحة النفسية لدى الموظفين، بالإضافة إلى تعزيز التزامهم التنظيمي وتقليل إرهاقهم العاطفي ورغبتهم في الاستقالة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أفاد نحو 71% من الموظفين بأن المدراء أو المشرفين لم يبذلوا جهداً كافياً لمنع السلوكيات غير اللائقة.
التصرف بلباقة وكياسة في مكان العمل قد يبدو أمراً بسيطاً، لكنه أكثر تعقيداً مما نظن
من الواضح أن التحلي بالكياسة في مكان العمل يحمل العديد من الفوائد، ولا أحد يرغب في العمل في بيئة عدائية، لكن لماذا يصعب تحقيق ذلك؟ من أسباب صعوبة التعامل مع هذه الظاهرة هو أن تعريف السلوك غير المهذب يختلف باختلاف الأشخاص والثقافات وآليات توزع السلطة داخل المؤسسة.
يتمثل بعض السلوكيات غير المهذبة الواضحة في التعليقات الجارحة أو الفظّة، أو تجاهل الآخرين، أو التشهير العلني، أو الانتقاص من قيمة الآخرين على المستوى العاطفي، وهناك سلوكيات أقل وضوحاً، ولكنها لا تقل ضرراً، مثل المقاطعة في أثناء الحديث أو التحدث بنبرة متعالية ومتغطرسة أو طلب الملاحظات والآراء ثم تجاهلها أو عدم الاعتراف بجهود الآخرين ومنحهم التقدير المستحق. ترى بعض الثقافات أن سلوكيات مثل التواصل البصري المباشر، ولا سيما مع الأشخاص الأعلى رتبة ومكانة، هو أمر غير مهذب، في حين يكون هذا السلوك طبيعياً ومطلوباً في ثقافات أخرى.
وعلى الرغم من الحرص على التصرف بطريقة مهذبة، فمن الممكن أن تثير كلمات الآخرين أو تصرفاتهم ردود فعل غير مهذبة عند الشعور بالغضب والاستياء. وعندها، يمكن أن تنتشر السلوكيات غير المهذبة بين الموظفين مثل العدوى، ما يؤثر سلباً في الإنتاجية والرفاهة. يمكن أن تكون السلوكيات غير المهذبة غير واضحة، ولكن يستطيع الجميع تمييزها عند الشعور بها، فهي تؤثر سلباً في قدرتنا على المشاركة والإنتاجية. حتى مجرد مشاهدة تصرف غير مهذب تجاه شخص آخر يمكن أن يضعف وظائفنا الإدراكية.
ولكن هناك ما يدعو إلى التفاؤل؛ إذ يشير بحث أولي عُرض في قمة القيادة العصبية التي عقدها معهد نيرو ليدرشيب (NeuroLeadership Summit) لعام 2024، إلى أن السلوكيات المهذبة أكثر تأثيراً وانتشاراً مقارنة بالسلوكيات غير المهذبة.
3 ممارسات لتعزيز التعامل بتهذيب مع الآخرين
يقدّم علم تنظيم العواطف 3 ممارسات يمكن أن تساعد على منع انتشار السلوكيات غير المهذبة منذ البداية. لنلقِ نظرة على كيفية التعامل مع موقف صعب وحساس من خلال الالتزام بالسلوكيات المهذبة.
تخيل أنك تقدم تقريراً عن تقدم المشروع ومستجداته في أثناء اجتماع؛ إذ يبدأ زميلك أحمد بتوجيه انتقادات لاذعة لجزء كبير ومهم من عملك. ستشعر حينها بأن أسلوبه متعجرف وأن انتقاده غير مبرر، وربما تقول في نفسك إنه لا يملك الحق في تقييم عملك، فهو يجهل الكثير مما تعرفه أنت عن هذا المشروع. وبالتالي، فإنه يحاول فقط إبراز نفسه والظهور بمظهر جيد على حسابك. لذلك، ستشعر بالغضب الشديد، وتجد نفسك على وشك الرد بعنف، ولكن قبل أن ترد، تمهل قليلاً وفكّر في 3 خطوات مهمة ستساعدك في الحفاظ على سلوكك المهذب وعدم الانجرار إلى رد فعل سلبي أو غير مدروس:
1. ملاحظة رد فعلك التلقائي.
عندما يدرك الدماغ وجود تهديد، فإنه يحوّل موارده المعرفية بعيداً عن المناطق المسؤولة عن الوظائف التنفيذية، مثل قشرة الجبهة الأمامية، ويوجهها نحو الشبكات المسؤولة عن الاستجابة للتهديدات، مثل الجهاز الحوفي. من خلال التمهل قليلاً وملاحظة رد الفعل هذا، يمكنك تذكير نفسك بتجنب التحدث أو التصرف بطريقة تلقائية أو انفعالية، لأنه من المحتمل أن تكون قدرتك على التركيز واتخاذ القرارات والتعاون قد انخفضت في مثل هذه اللحظات.
2. وصف رد فعلك التلقائي وتحديد طبيعته.
لكي تمنع نفسك من التحدث بتهور وانفعال، من المفيد أن تحدد السبب الذي دفعك إلى الشعور بالتهديد، فتحديد سبب شعورك الحالي يعيد تنشيط قشرة الجبهة الأمامية، ما يسمح لك باستعادة السيطرة على أفكارك وتصرفاتك.
وقد حدد معهد نيرو ليدرشيب (NeuroLeadership Institute) 5 مجالات يمكن أن تساعدك على فهم أنواع ردود الفعل التي تحدث لديك عند الشعور بالتهديد أو الحصول على مكافأة أو تقدير:
- المكانة، أو إحساسك بأهميتك بالنسبة للآخرين. في المثال المذكور أعلاه، تشعر بالقلق من أن يؤثر انتقاد أحمد لعملك في نظرة زملائك في العمل إلى كفاءتك وذكائك.
- اليقين والثقة، أي قدرتك على التنبؤ بما سيحدث لاحقاً. تثير ملاحظات أحمد الشكوك لديك، على الرغم من صعوبة الاعتراف بذلك واعتقادك أن انتقاداته غير مبررة. فتبدأ حينها بالتساؤل عما إذا كنت قد أغفلت أي جانب من شأنه أن يعرقل إنجاز المشروع بنجاح.
- القدرة على التحكم الذاتي، أو شعورك بالسيطرة على مجريات الأحداث في محيطك. بعد ملاحظات أحمد، تشعر بانخفاض قدرتك على التحكم في مسار عرضك التقديمي. لقد خططت له جيداً، ولكن بدأت الأمور الآن تنحرف عن مسارها الصحيح.
- الارتباط الاجتماعي، أو علاقتك بالآخرين وتواصلك معهم. بعد تصرّف أحمد، تشعر بأنه خذلك وترغب في تجنب التعاون المباشر معه في المستقبل.
- الإنصاف، أو نظرتك إلى مدى العدالة في التفاعلات. نظراً لأن أحمد أقل خبرة منك، فإنك تشعر بأنه من غير المنصف أن يتسبب شخص مثله في عرقلة تقدمك.
يمكن أن يؤدي تهديد أي من هذه المجالات إلى رد فعل غير مهذب، ولكن إذا تعرضت هذه المجالات جميعها للتهديد، فمن الطبيعي أن تفقد أعصابك. من خلال تحديد الأسباب والعوامل التي تثير مشاعرك، يمكنك السيطرة على ردود فعلك والابتعاد عن السلوكيات غير المهذبة.
3. كسر حلقة السلوكيات السلبية.
بمجرد أن تعيد تنشيط قشرة الجبهة الأمامية، يمكنك التفكير في كيفية التواصل بطريقة فعّالة. احرص على التزام الحيادية في أسلوبك عند التفاعل مع الآخرين. ليس مطلوباً منك أن تكون ودوداً جداً؛ بل يجب عليك أن تتجنب التصرفات أو الكلمات التي قد تؤدي إلى استفزاز الآخرين وإثارة ردود فعلهم السلبية نتيجة شعورهم بالتهديد.
يجب عليك أن تكون واضحاً بما فيه الكفاية بحيث لا يحتاج الطرف الآخر إلى تفسير نواياك أو ما تقصده. تحدّث فقط عن الأمور الأساسية وتجنب التفاصيل غير الضرورية، حتى لا يفسر الآخرون كلامك على أنه يحمل تأويلات ودلالات خفية. في المثال السابق، بعد التمهل والتفكير قليلاً، قد تكتشف أنه على الرغم من أن طريقة أحمد في الطرح يمكن تحسينها، وأن غالبية انتقاداته غير دقيقة، فإن هناك نقطة واحدة في حديثه تستحق التوقف عندها.
يمكنك أن تقول: "شكراً على ملاحظاتك يا أحمد، يمكنني التعامل بسهولة مع معظم النقاط التي طرحتها، لكن هناك نقطة معينة أود التوسع في مناقشتها، فهل يمكنك أن تخبرني بالمزيد عن كذا؟" يساعد مثل هذا الرد على تجنب توجيه اللوم لأي شخص أو إحراجه، كما يسهم في إعادة توجيه انتباه الفريق نحو مهمتك الواضحة والقابلة للتنفيذ بدلاً من الانشغال بتفاصيل غير مهمة وتسبب التشتت.
من الكياسة إلى الاحترام
يعتقد الكثير من الأشخاص أن مصطلحي الكياسة والاحترام هما مترادفان، ما يؤدي إلى الخلط بينهما، لكنهما في الواقع مفهومان مختلفان. فالكياسة تعني التصرف بطريقة مهذبة، في حين أن الاحترام يشمل الاعتراف بقيمة الأشخاص ومساهماتهم.
بالطبع يجب أن يكون احترام الآخرين سمة أساسية في بيئات العمل، ولكن الوصول إلى هذا الهدف يبدأ بخطوة أولى تتمثل في الالتزام بالكياسة والتهذيب، وهي خطوة تواجه تحديات كبيرة في المجتمع حالياً. لا تعني الكياسة أن تحب كل شخص في مكان عملك أو حتى أن تُعجب به، ولكنها تتعلق بتهيئة الظروف الأساسية التي تساعد الأشخاص على التفكير بوضوح وأداء مهامهم بكفاءة.
يتطلب الاحترام وعياً أكبر وجهداً إضافياً في التعامل مع الآخرين مقارنة بالكياسة، ويتطلب ذلك تطوير سلوكيات معرفية محددة، مثل تبنّي عقلية النمو وتقليل التحيز وتعزيز الشمولية.
وعلى الرغم من أن الجميع يسهمون في تشكيل ثقافة الشركة، فإن القادة تحديداً يتمتعون بقدرة كبيرة على التأثير في السلوكيات داخل مكان العمل.
يتركز اهتمام الناس على الأشخاص الأعلى مكانة في مجتمعهم ويتبنون عاداتهم ومشاعرهم دون وعي، ولكن من خلال تجسيد السلوكيات الثلاثة المرتبطة بالكياسة والتحكم في مشاعرنا وردود فعلنا، يمكننا التأثير بطريقة إيجابية في سلوكنا وسلوك زملائنا في العمل، ما يساعد على إنشاء بيئة عمل قائمة على الاحترام.