يعرف القادة تماماً أن العبارات التي تعبّر عن قيم الشركة هي في كثير من الأحيان مجرد واجهة للتجميل والتحسين على موقع الشركة، لكنهم أقل إدراكاً للآثار الوخيمة المتعلقة بموضوع إساءة استخدام قيم الشركات والإبقاء على قيم الشركة على هذه الحال. فهم ينظرون في ثقافة الشركة دون إدراك، ويفترضون أن نشر مجموعة من القيم يدفع الشركة نحو تحقيق إنجاز ما. ولكن المفاجأة ستصدمهم حين يرون أن انعدام الثقة وشيوع عدم الرضا والانتهاء إلى حالة من اللامبالاة، هي النتائج التي ستظهر على أرض الواقع.
اقرأ أيضاً: هل نستطيع النجاة بتغيير ثقافة الشركة؟
حيث يريد الموظفون أن تكون قيم الشركة أمراً مقدساً. لكن حين يرون الأمر بخلاف ذلك، فإنهم يفترضون منطقياً أن هذه الشركة غير جادة فيما تقوله، وأنه من المقبول التصرف بطريقة تتعارض مع قيمها. وحسب إحدى الدراسات المهمة تبين خلالها النتيجة الوخيمة لانتشار إساءة استخدام القيم في الشركات، إذ بينت أن 23% من الموظفين الأميركيين فقط يؤكدون قدرتهم على تطبيق قيم شركتهم في أنشطة أعمالهم اليومية، و27% منهم فقط يؤمنون بقيم الشركات التي يعملون فيها. وفي دراسة شاملة أخرى عن ألف شركة من الشركات المدرجة ضمن قائمة "أفضل أماكن العمل" (Great Places to Work)، تبين وجود علاقة قوية بين أداء الشركة القوي ومدى إيمان الموظفين بأن شركاتهم تطبق القيم التي تدّعي تبنيها. وعليه، نجد أن للقيم مقدرة على بلورة الاختلافات الإيجابية في الأداء عبر خلق ثقافة مميزة، لكن في حال لم توظف وفق المطلوب فإن ذلك كفيل بالتأثير سلباً على الأداء.
الأمور المترتبة على إساءة استخدام قيم الشركات
وهناك العديد من الشروط التي عاينتها ورأيت أنها تضمن أن تكون قيم الشركة فيها محركاً إيجابياً قوياً، وسأتناول هنا ثلاثة من هذه الشروط نظراً لأهميتها الفريدة. الأول هو أن المساءلة عن تطبيق هذه القيم يبدأ من رأس الهرم الإداري إلى أسفله. فيتم اختيار الموظفين وتقييمهم وتدريبهم من أجل تطبيق هذه القيم وتجسيدها. والثاني هو أن القيم دافع للأمانة الشخصية، فحين تفشل الشركة بالالتزام بها، فإن على القادة أن يكونوا أول من يعترف بذلك. والثالث هو أن كتابة البيان الخاص بقيم الشركة يستخدم في بداية رحلة طويلة ستشهد تغيّرات وتحولات كبيرة، وليس نهاية لها. وحين تغيب هذه الشروط، فإن القيم ستكون ضحية للانتهاك وسوء الاستخدام. ويحصل الأمر على هذا النحو:
عند غياب المساءلة، تصبح القيم سلاحاً لمعاقبة الآخرين وذريعة من أجل إساءة استخدام قيم الشركات
حين تُخفق الشركة في جعل قيمها حاضرة في كافة نواحي أعمالها، تكون عرضة لاستخدامها كأداة للتشهير بالآخرين أو إنزال العقوبة بهم. في إحدى الشركات، تم التحايل في استخدام القيم إذ صارت عبارات من قبيل "هذه الموظفة لا تتقيد بقيمنا" أو "لا أستطيع دعم هذا القرار لأني لا أجده يعكس قيم الشركة" تُطلق اعتباطاً وتُغلق الطريق أمام أي نقاش صريح.
أقرّ أحد الذين شاركوا في عملية تقييم الشركة وقال: "إذا كنت تريد التخلص من أحدهم في الشركة، فعليك فقط أن تتهمه بعدم الالتزام بقيم الشركة". تتطلب المساءلة الحقيقية فيما يتعلق بالالتزام بقيم الشركة وجود إجراءات موضوعية لتقييم الأداء، ومعايير متفق عليها يمكن تطبيقها بترتيب موحد على المؤسسة بأكملها. وفي حالة هذه الشركة طردَ كبار المدراء من انتقدهم بحجة أنهم "لا يحسنون العمل بتعاون ضمن الفريق"، وذلك بعد انتقادهم بعدم تطبيق قيم الشركة. وهكذا تحولت القيم التي يفترض أن تخلق ثقافة واحدة تحفز الجميع إلى أداة خطيرة للنزاع. وما حصل في النهاية هو أن تلك العملية المكلفة المتعلقة بتغيير ثقافة الشركة، ألغيت وتم ببساطة تجاهل قيم الشركة والقفز عنها.
اقرأ أيضاً: تغيير ثقافة الشركة يتطلب حِراكاً لا إلزاماً
ومن الشائع استخدام قيم الشركة لمجرد أدوات للإساءة إلى المدير الذي لا يرغب الموظفون في دعمه. كما أنها في بعض الأحيان تكون وسيلة كاشفة عن نفاق بعض القادة، ما يمنح الموظفين مسوغاً في عدم بذل أي جهد لتغيير سلوكهم. وهكذا يجري استخدام البيانات المتعلقة بقيم الشركة لتسويغ تصرفات سلبية، الأمر الذي يؤدي سريعاً إلى فقدان المصداقية.
عند غياب النزاهة على المستوى الشخصي، تحوّل القيم الانتباه عن إساءة التصرف
من الشائع جداً إثارة التركيز من جديد على القيم في سياق السلوك السيئ أو الفضيحة. فالفشل الحقيقي في الالتزام بقيم الشركة يقابله تواضع صادق وعزم على تصحيح المسار. لكن عند غياب الصدق مع الذات، فإن القادة يصرّون على المكابرة ويفضلون الظهور بموقف حازم، فعوضاً عن تصحيح الخطأ يعمدون إلى تعديل القيم، باختيار كلمات تخالف الثقافة اللازمة لمعالجتها. نجد على سبيل المثال، أن "الاستعجال في تنفيذ الأعمال" يصبح فجأة هو القيمة حين تكون فيه عمليات السوق متأخرة، ويتنامى فيه الضغط من مجلس الإدارة. و"الشفافية" تصبح قيمة حين يكون هناك إخفاء لأمر ما، أما "التنوع والإدماج"، فيصبحان قيمة بعد رفع العديد من الدعاوى القانونية المتعلقة بالتمييز.
وعند الإعلان عن قيمة جديدة بنيّة مضمرة تستهدف إصلاح شؤون الأشخاص الذين يتوقع منهم التقيد بها، فيمكنك حينئذٍ التأكد من أن ذلك هو آخر ما يحصل. وينتهي الأمر بالقيم في نهاية المطاف باعتبارها أداة لوقاية المؤسسة من النزاعات. والحالة هنا أشبه بالسحرة المهرة الذين يستخدمون خفة اليد لتحويل نظر الجمهور وخداعه، فالحملات التي تروج لقيم جديدة تثير "وهم الالتزام" وتغطي على التصرفات السيئة التي تختبئ وراءها.
إعداد التصريحات الخاصة بقيم الشركة يوهم بحصول التغيير
يجب أن تنطلق الجهود الخاصة بالتحول عبر تحديد القيم الأساسية. لكن بعض الشركات تحسب أن التغير ليس سوى تحديد هذه القيم. فيحدث أن تجتمع فرق الموظفين من أقسام الشركة حول طاولة النقاش ويتناقشون بحماس في مزايا القيم المختلفة، ويتبع ذلك كله حملة "ترويج" ضخمة لهذه القيم. وتُنظم ورشات عمل يعج بها الموظفون ويشارك بها المدراء التنفيذيون ليقصّوا حكايات حول هذه القيم، وكيف أنها شكلت مسيرتهم المهنية في الماضي، وكيف أن هذه القيم ستضمن التميز لمستقبل الشركة. كما توزع مقاطع فيديو مسلية على الجميع من أجل "المشاهدة والمناقشة". ويتم إنتاج قمصان وتصميم خلفيات لشاشات الكمبيوتر ووسادة الفأرة وملصقات تُطبع عليها تلك القيم الجديدة وتملأ مكان العمل. ولأشهر طويلة يسود انطباع واحد لدى الجميع، وهو أن الأمور تتغير حقاً في الشركة، و"الجميع منخرط في هذه الجهود". أما بالنسبة للبعض فإن ذلك مؤشر الأمل الأول بعد فترة من الخمول والركود في الشركة. لكني تحدثت ذات مرة في فعالية كانت الشركة فيها أنهت حملة كهذه قبل محاضرتي بستة أشهر تقريباً، وشعرت أنه لم يتغير الكثير خلال تلك الفترة. إذ استفسرت من إحدى الموظفات عن الأمر الذي تغير فعلاً منذ أن بدأت الحملة فقالت: "حين ترى كل شيء بشكل مختلف فهذا لا يعني بالضرورة أن ثمة تغيير قد حصل".
وعليه، نستنتج أن الأثر السلبي المترتب على إساءة استخدام مثل هذه القيم يفوق الوصف، وذلك على المستوى الشعوري الذي يصل إلى حالة لا يمكن إصلاحها، بالإضافة إلى الخسائر الفادحة في فرص الأداء. ولو لم يكن في الشركة قيم محددة أصلاً لكان وضعها أفضل من وضع القيم ليساء استخدامها.
اقرأ أيضاً: متى يكون عصيان قواعد الشركة واجباً؟
في حين تساعد القيم الثقافية السليمة على تحقيق النتائج المطلوبة للشركة، إذ تُعتبر ثمرة استراتيجية الشركة الفعالة، كما تخلق نوعاً من الفخر والاعتزاز بين الموظفين. وهكذا تصبح ثقافة الشركة في مثل هذا الموقف ميزة تنافسية تجذب أفضل المهارات. أما القيم التي يعرف الجميع أنها لا تعني شيئاً فتضعف ثقة الشركة، وتدمر النزاهة فيها وتؤثر سلباً في القدرة على التنافس، وتُصبح ثقافة الشركة حينها حملاً عليها، ولا يتبقى من الأمور التي تؤثر على السلوك سوى مشاعر العار والتشاؤم والجبن.
وفي نهاية الحديث عن إساءة استخدام قيم الشركات بشكل مستمر، يجب أن تعبّر قيم الشركة عن الجوانب التي تفسر سر نجاحها المميز، وتنقل رسالة للموظفين تقول فيها: "هذا هو المطلوب لتحقيق النجاح لدينا". وعليه، فإن العمليات الخاصة بالاستراتيجية، والاختيار، والمكافآت، وإدارة الأداء، وتخصيص الموارد لا بد أن تتضمن جميعها بلا استثناء القيم التي بُنيت عليها الشركة، وبدرجة عالية من الانسجام بين الأقوال والأفعال. أما إذا كانت الشركة غير راغبة في بذل الجهد لغرس قيمها في نسيجها بأكمله ومساءلة الموظفين على اختلاف مستوياتهم عن الالتزام بها، فربما من الأفضل لها عدم تحمل عناء كتابة هذه القيم في المقام الأول.
اقرأ أيضاً: ما هي القواعد الست لتطوير ثقافة الشركة وتوسيعها؟