إليك هذا المقال الذي يتحدث عن إدماج الموظفين في العمل تحديداً. يجد معظمنا صعوبة في العمل باجتهاد إذا كانت بيئة العمل غير مستقرة. على سبيل المثال، إن وجدت نفسك في خضم تغيير تنظيمي، فإن قدراتك النفسية، كالقدرة على الصمود والتفاؤل، قد تصل إلى حدودها القصوى. وإذا كان مستقبلك المهني غير واضح المعالم، فإن ما سيشغل بالك حقيقةً ليس فقط التفكير بمستقبل المؤسسة، بل بمستقبلك الشخصي أيضاً. وفي مثل هذا السياق، فإننا نتردد في الاضطلاع بمهمة ممتدة ومحفوفة بالمخاطرة، وإن كانت ستعود بالنفع على مسيرتنا المهنية والمؤسسة على المدى البعيد. يحدث هذا عندما يصبح الإيمان بالمبادئ التي قامت عليها المؤسسة في موضع شك.
إدماج الموظفين في العمل وتوفير الاستقرار
تجد معظم المؤسسات صعوبة في تحقيق التوازن المقبول بين الاستقرار والتغيير، الأمر الذي بدوره ينعكس سلباً على المساهمين الأفراد. وفي حمئة السباق في ميادين الابتكار والتحول الرقمي، تضيع قضية الاستقرار في هذا الخضم، ولهذا دلالات قوية تحثنا على إعادة النظر في ميزات توفير الاستقرار. إذا أردنا تطوير بيئة حيثما ينجح المساهمون، فيجب على القوة العاملة أن تعوِّل على بعض الأمور الأساسية مثل وضوح الأدوار الوظيفية والتقييم الدوري وتخصيص الموارد المناسبة والاهتمام بكيفية أداء العمل. على سبيل المثال، توصل العاملون في مجال تجارة التجزئة أن جداول العمل الفوضوية لا تجلب في الغالب النفع المرجو لأي طرف. فعندما يكون لدى الموظفين جداول مواعيد واضحة للأيام المقبلة، فهذا يساعد بدوره على زيادة الإنتاجية. على الرغم أن ذلك يبدو واضحاً، ما زلنا لا نعير الأمور المتعلقة بالاستقرار اهتماماً مقارنة بقضايا أخرى كالإنتاجية والرشاقة في أداء العمل. بل والمثير للانتباه أن وجود عامل الاستقرار قد يخدم جوهر تلك القضايا الأخرى. "مشروع أوكسجين الذي أجرته جوجل " (Google’s Project Oxygen)، الذي اكتشف أن للسلامة النفسية صلة بالفاعلية الجماعية، ما كان إلا الباكورة فيما يتعلق بإعادة التفكير في تقديم أحسن ما لدينا في العمل.
لطالما كان للاستقرار الشخصي والمؤسسي ضرورة دائمة، إلا أن كثير من الشركات لا تعتبر هذا الأمر من الأولويات العليا. فهل يمكننا أداء أعمالنا بتفاعل كبير إذا كان الحد الأدنى من الاستقرار غير متوفر؟ وهل يمكن لمؤسسة ما الاستمرار لخمسين سنة أو مائة أو أكثر دون توفير الاستقرار وإعطائه الاعتبار الذي يستحق؟
بعد سنوات من عملي مستشارة في التطوير المؤسسي، أستخدم الآن "عدسة الاستقرار" لرؤية العناصر الجوهرية للعمل والمؤسسات وتقييمها. وخلال المناقشات مع القادة والمدراء والمساهمين الأفراد، اتضح لي أن العمل والقدرة على إتمام المشاريع بكفاءة قائمين على تلمّس الثبات على الطريق الذي نسلكه، وهذا بدوره يمنحنا الطاقة والقوة.
لقد حان الوقت للمؤسسات أن تعيد النظر في الاستثمار في الموارد التي لها أهميتها في تعزيز قضية الاستقرار. ويمكن للممارسات التنظيمية، مثل التعريف برسالة شركتك وأهدافها بشكل واضح، إلى جانب الاستراتيجيات المستخدمة لتحقيق تلك الأهداف، أن تعود بالنفع. ولكن حسب خبرتي، فإن الكثير من مصادر الاستقرار يتم التغاضي عنها بسهولة عندما يتصدى القادة والمدراء لقضايا أخرى يعتبرونها ذات اعتبارات ملحة. ولمواجهة هذا الأمر، علينا بذل جهود متضافرة لجلب الاستقرار إلى مصاف اهتماماتنا الأولية، وأن نُطبّق كذلك هذه الطريقة من التفكير على متطلبات الأفراد. وهذا يعني الوعي بالدور الذي يمكن أن يؤديه الاستقرار، وكيف يمكن أن يكون له تأثيراً إيجابياً على عملنا بشكل يومي. هناك بعض الأمور المهمة التي يمكن أخذها في الاعتبار وتطبيقها، وهي متضمنة ما يلي:
1. الإقرار بوجود "العقد النفسي" (Psychological Contract): العقد النفسي هو في الغالب اتفاق متبادل غير مُصرح به، أو مجموعة وعود حول ما سنقدمه لعملنا وما نتوقعه من جهة التوظيف بالمقابل. للأسف بمجرد أن نشعر بالضغط أو الانكسار، يصبح من الصعب للغاية إصلاح هذا العقد. تُعد مراجعة صحة هذه العقود فرصة فريدة لزيادة الاستقرار، وبدورها تساعد على الحفاظ على الموظفين ذوي القيمة، فقد تَبين أنه عندما يشعر الموظف بالسلامة النفسية يعود ذلك بنتائج على كل من الرضا الوظيفي والالتزام والأداء والثقة. يستطيع المدراء مناقشة هذه العقود النفسية بشكل صريح عبر إجراء نقاشات دورية عما يتم تبادله بين الموظف وجهة التوظيف من خلال العلاقة الجامعة بينهما. وهذا يساعد في توضيح الأهداف ودفع الأداء وتشجيع الحوارات التنموية ومساعدة الموظفين على التخطيط لحياتهم الوظيفية. فحدوث أي تغيرات في المؤسسة أمر حتمي، ويتطلب ذلك نقاشات مستمرة حول تأثير تلك التغيرات على العمل والأفراد. وخلال فترات التغيرات الكبرى، يجب إعادة النظر بالعقود النفسية لتتلاءم مع التغيرات الحاصلة. على سبيل المثال، يجب تعديل الأهداف ومعايير الأداء من وقت إلى آخر، وخاصة بعد إجراء أي تغييرات تنظيمية.
يمكن للمدراء استخدام الأسئلة التالية باعتبارها نقطة بداية لاستكشاف الجوانب المتعلقة بالعقود النفسية قبل إدماج الموظفين في العمل بالفعل:
- هل تم مناقشة اتفاق التبادل بين الموظف وجهة التوظيف بشكل صريح مع أفراد فريق العمل؟
- هل يشعر المساهمون بالإنصاف، أي هل يكسبون من عملهم لقاء ما يقدمونه له؟
- هل يتم الحفاظ على الوعود المقدَّمة المتعلقة بالعمل والمسارات المهنية إلى حد كبير؟
2. الرأسمال النفسي: يقدم لنا علم النفس الإيجابي أيضاً فرصاً لبناء الاستقرار في محل العمل. وأظهرت الدراسات أن هناك علاقة إيجابية واضحة بين الرأسمال النفسي (PsyCap) وعدد من النتائج الإيجابية لمحل العمل المرغوب بها، كالرضا الوظيفي والالتزام المؤسسي والرفاه النفسي، وتتضمن هذه القدرات، التي يشار إليها اختصاراً بكلمة "هيرو" (HERO)، ما يلي:
- الأمل (Hope): هو الإيمان بالقدرة على المثابرة لتحقيق الأهداف وتذليل الطرق والمسارات الموصلة إليها.
- الفعالية (Efficacy): الثقة بأن الفرد قادر على بذل الجهد اللازم للتأثير في النتائج.
- الصمود (Resilience): القدرة على النهوض سريعاً عند مواجهة المحن أو الفشل.
- التفاؤل: (Optimism) الرؤية الشاملة والإيجابية للعمل وإمكانية تحقيق النجاح.
ويمكن تطبيق العقود النفسية بصورة آنية عبر طرح الأسئلة التالية:
- هل عناصر الرأسمال النفسي (الأمل والفعالية والصمود والتفاؤل) متوفرة؟
- هل يؤمن أعضاء الفريق أنه يمكنهم تحقيق أهدافهم بنجاح؟
- هل خضت نقاشاً مفتوحاً مع أحد أفراد فريقك عن موقف أو تجربة سابقة مرّ بها وأضعفت أحد عناصر الرأسمال النفسي لديه؟
3. السلامة النفسية: ويليام خان، الأستاذ في علم السلوك التنظيمي في "كلية كويستروم للأعمال" (Questrom School of Business) في جامعة بوسطن، يعرّف السلامة النفسية بأنها: "القدرة على إظهار ما في النفس دون خوف من العواقب السلبية على الصورة الذاتية أو المكانة أو المهنة". على الرغم من أن هذا المفهوم تم تناوله بالدراسة منذ عقود، بدأنا نقر الآن فقط بأهمية دوره في حياتنا المهنية. حيث تسمح السلامة النفسية لكل من الأفراد وفرق العمل بمواجهة التحديات الآنية بطريقة تتسم بالانفتاح والصراحة. بوجود السلامة النفسية تظهر المشكلات بوقت مبكر أكثر، وهذا يمنحنا الفرصة لنستجيب لها بصورة أكثر فعالية وشمولية. ولكن إذا شعر أعضاء الفريق أن بيئة العمل غير قادرة على تحمل أو معالجة تلك المشكلات، فقد تتأثر سلامتهم النفسية حتى وإن كانوا يشعرون أن الهدف من ذلك في نهاية المطاف هو خدمة المصالح الفضلى لكل من الفريق والمؤسسة. ولتقييم مستوى السلامة النفسية في المؤسسة، علينا أن نسأل أنفسنا الأسئلة التالية:
- هل تشعر أن أعضاء الفريق يشاركون الأفكار والمشكلات بشكل صريح ومنفتح؟
- هل جرت أحداث سابقة في المؤسسة أو ضمن الفريق وكان لها تأثير على التحلي بالانفتاح والصراحة؟
- هل تزعزعت ثقة أحد الموظفين في المؤسسة بأي شكل من الأشكال؟
عندما نريد استبقاء موظف ذي قيمة أو مساعدته على التفوق، فغالباً ما نبحث عن عوامل خارج المؤسسة كتوفير التدريب الخارجي أو زيادة الراتب أو تقديم مزايا أو منح ألقاب. ولكن، على العكس، من الحكمة أن ننظر إلى داخل المؤسسة، والأخذ أولاً بعين الاعتبار العقود النفسية المساهمة في الإحساس بالاستقرار داخل بيئة العمل. كما أن تحديد الصعوبات التي تمنع الموظف من شعوره بالدعم النفسي في مكان العمل سيعود بنتائج عظيمة فيما يتعلق بمساعدة موظفيك الأكثر قيمة على التقدم للأمام بثقة وبذل أفضل ما لديهم.