أنشأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً، ما يعرف باسم "مكتب البيت الأبيض للابتكار الأميركي"، الذي يركز على تنفيذ السياسات وتوسيع نطاق النماذج الاقتصادية المطبقة في القطاع الخاص، لتحفيز فرص عمل جديدة والابتكار في القطاع الحكومي، ولهذا إليكم كيفية إدارة مؤسسة حكومية بطريقة ريادية.
إنها لفكرة معتادة، أن يتم إنشاء فريق تدخل إسعافي سريع، وجاهز لحقن طريقة تفكير جديدة ضمن النظام البيروقراطي المرهق. وهي حالة مشابهة للحالة التي قام بها جريج جودبوت الزميل السابق في برنامج الابتكار الرئاسي الأميركي، والمساهم بتأسيس فريق "18F"، وهو عبارة عن مكتب للخدمات الرقمية ضمن إدارة الخدمات العامة للحكومة الأميركية. وتم إنشاء "18F" ضمن محاولات إدارة أوباما لجعل حكومته بارعة في أساليب ريادة الأعمال وإدارة المشاريع الناشئة، لا سيما بعد الإطلاق الكارثي لموقع "هيلث كير" (Healthcare.gov).
عمل جودبوت مديراً تنفيذياً لمكتب "18F" قبل أن يغادره ليعمل مديراً تنفيذياً أيضاً لكن للتقنيات في وكالة "حماية البيئة الأميركية" (EPA). وهو يعمل حالياً مديراً تنفيذياً وشريكاً مؤسساً لشركة "سي برين أميركا الشمالية" (cBrain North America).
حوار حول كيفية إدارة مؤسسة حكومية
توجهت إلى جودبوت بمجموعة من الأسئلة حول كيفية عمل فرق الابتكار ضمن الحكومة. وفيما يلي مقتطفات من حديثنا.
عندما نسمع بفريق ابتكار ضمن القطاع الحكومي أو الخاص، فأول ما يتبادر إلى أذهاننا عادة أنه كإعصار سيصيب الجميع ويُقوّم أعمالهم. فهل هذا صحيح برأيك؟
لم يسبق لي بعد أن شاهدت مثل هذه الحالة من إدارة التغيير الضخمة للابتكارات، إذ لا يأتي فريق من الأشخاص كزوبعة ويغيرون أفكار الجميع وينفذون كل شيء بأنفسهم، فالأمور لا تحدث بتلك الطريقة.
ما لاحظته سابقاً في أثناء عملي في "18F" هو حدوث الكثير من الجدالات حول ما قيل عن عملنا. حيث تم تصويرنا وكأننا مجموعة من المبتكرين الذين سيهبطون بمظلاتهم وينقذون الحكومة. كنت أشعر بالانقباض في كل مرة أقرأ ذلك. وكنت أقول لنفسي "سوف يدفعنا ذلك عاماً إلى الخلف". أما الواقع فهو أن الإدارات العليا سمحت لفريقنا بتقبل المزيد من المخاطرات. ونتيجة لذلك، قام المدراء الحكوميون والذين لم يكن بمقدورهم تحمل المخاطر بمفردهم بالقدوم إلينا، ما أتاح الفرصة لنتعاون معاً ونصنع شيئاً ما. بعبارة أخرى، تحولنا لقناة أفكار.
من المؤسف أن نبدو وكأننا أشخاص نبتدع الأفكار لننقذ المؤسسات الحكومية. هذا الكلام ليس واقعياً. إذ يجب على الحكومة إنقاذ نفسها بنفسها، فهي تقدر على ذلك.
في الواقع هناك استراتيجيتان مختلفتان للعمل؛ استراتيجية التدخل الخاصة بك -التي بدأنا بها- لحل ما سببه "هيلث كير" (Healthcare.gov) من مشكلات حقيقية. حيث أتى إلينا الأشخاص بذهنية الباحث عن رجل الإطفاء الذي يجد حلولاً سريعة لمشاكل عميقة. وحتى إن تمكن رجل الإطفاء من إخماد الحريق في بيتك، إلا أن تحوله إلى خردة هو أمر حتمي، إذ إن ما تم إنقاذه من الحريق سيكون قد تخرب بفعل الماء. ولذا فإن هذه الطريقة غير ناجحة.
لا بد أن يكون الهدف الحقيقي وهدف التحول هو تقديم الخدمة الأكبر. إذ قمنا باحتضان المتبنين الأوائل لفكرة إحداث التغيير. كانوا بحاجة إلى بعض التدريب وبعض التوجيه حالما يبدؤون رحلتهم ويتعلمون من خلالها. لو أردنا استخدام المصطلحات العسكرية، فإن فريق التدخل لديك يمكن تسميته بـ (SWAT)، أي قوات التدخل السريع، أما فريق التحول لديك، فهو أشبه بالجيش الدائم، وإذا لم يكن لديك جيش دائم فلا شيء يفيدك.
هل تؤمن أنه يجب إدارة المؤسسات الحكومية الأميركية بعقلية قطاع الأعمال؟
لا أعتقد أنه يتعين على موظفي المؤسسات الحكومية أو الديمقراطيات العمل في مؤسساتهم وكأنها تابعة لقطاع الأعمال. بل يجب أن تماهي قطاع الأعمال في طريقة ترتيب الأولويات وتحقيق الكفاءة. من الأسهل نوعاً ما في المواقف ذات الدوافع الربحية إدراك مستوى تحقيقنا لرؤيتنا من عدمه، لأن رؤيتك لمنتجك أو خدمتك يجب أن تكون قابلة للقياس بسهولة من خلال الأرباح.
إن الوضع في العمل الحكومي مختلف جداً. فأنا أعتقد أن الحكومات موجودة لمعالجة المشاكل المشتركة، ألا وهي الخدمات العامة، التي ليست ملكاً لأحد، بل هي ملك الجميع.
من وجهة نظري أرى أن هناك نموذجاً هجيناً لم نعثر عليه بعد. لو قُدّر لنا أن نحدد مسار العمل، لكان جميلاً أن ندفع باتجاه تبني منهجية للأعمال، إذ نحن بحاجة إلى ممارسات جيدة، ولكن في المقابل هناك الكثير من الأمثلة لشركات أعمال لا تؤدي عملها جيداً.
إن الأمر ليس ببساطة ما يقوله البعض: "إن المواطنين هم عملاؤنا". فهم أيضاً المُلَّاك. وهنا يبرز السؤالين التاليين: "أي مجموعة من العملاء تنوي الاستماع لها؟" و"أي مجموعة من المُلَّاك تنوي الاستماع إليها أكثر من غيرها؟".
يجب على كليات إدارة الأعمال أن تدرّس في مناهجها نظام العمليات، والإدارة، والتحفيز، وإدارة الأفراد المتّبع في القطاع العام، فهي كلها قابلة للتطبيق، ويتم تنفيذها في المؤسسات الحكومية. نحن فقط بحاجة إلى نموذج هجين.
كيف يمكنك أن تعرّف لي مهمتكم في "18F"؟
بدأنا بالاستراتيجية. من الصعب لمجموعة من الأشخاص أن تتفق على رؤية المؤسسة على الفور. ما أمكننا الاتفاق عليه جميعاً -وهو ما تم اعتماده- أسوة بالخدمات الرقمية للحكومة البريطانية- أن التسليم هو الاستراتيجية. حيث يجب أن يكون التسليم لخدمات كبيرة، وذات جودة عالية، وسريعة بآن واحد. إذا تمكننا من فعل ذلك، فسنتمكن من حل جميع المشاكل الأخرى.
وباستقطاب المزيد من الأشخاص إلى فريقنا، تطورت طريقة بناء الحكومة وشرائها للخدمات الرقمية. ولكن هذا الهدف لم يكن موجوداً في بادئ الأمر، لأنه عندما بدأنا، كان الناس يقولون لنا، لا يمكنك توظيف أشخاص متميزين، لأنهم يطلبون رواتب عالية جداً لا يمكنك دفعها، ولا يمكن توظيفهم بسرعة، وبالتالي لا يمكن الاستحواذ بسرعة. كما لا يمكن إجراء الفحوص الأمنية على الأنظمة بالطريقة التي تعمل بها. في الواقع، لم نكن حتى متأكدين أنه يمكننا تطبيق الإدارة الرشيقة قانونياً، وباختصار لقد كان هناك الكثير من كلمة "لا تستطيع".
لقد أنشأنا فريقاً من الأشخاص القادرين على إصلاح المشاريع، وتسليمها. ولكن في غضون بضعة أشهر بدا واضحاً لنا أن هذه ليست هي مشكلتنا الحقيقية. المشكلة الحقيقية هي السوق المعطلة لدى الحكومة الاتحادية. إذ أراد الأشخاص داخل الحكومة العمل بهذه الطريقة لسنوات.
كيف وظّفت الفنيين للقيام بهذه الوظائف؟
كانت الفكرة لدينا أنه لو تمكنا من تحديد ما يحفز الأفراد، فيمكن توظيف أي شخص.
وتتركز محفزات الأفراد في ثلاثة: الرسالة، التفوق والإتقان، الاستقلالية.
فيما يتعلق بالرسالة، فأن يحصل القطاع الحكومي على أفضل عمل، هي رسالة الحكومة في كل ردهة وكل مكان ببساطة.
أما التفوق والإتقان فكانتا أكثر تعقيداً. لو كان الشخص قادماً من قطاع التكنولوجيا إلى الحكومة، فمن المرجح أنه سيستخدم أدواته القديمة. وهنا كانت المخاطرة. لذلك قلنا إننا سنستخدم أحدث التقنيات والأدوات. وكان هذا مهماً حقاً للأشخاص.
أما الجزء الأصعب، فكان الاستقلالية والحوكمة الذاتية. إذ تتبنى الكثير من المجموعات في الحكومة أفكاراً مسبقة حول مواصفات المنتج والخدمة. وتركز الحكومة بشدة على أصحاب المصلحة، بينما ينبغي أن تكون ذات تركيز أكبر على المستخدم. ولو استطعنا توظيف أشخاص يؤمنون بالتصميم المرتكز على المستخدمين، أو التصميم المرتكز على الإنسان حقاً، فعندها يمكننا أن نقول لأصحاب المصلحة داخل الحكومة "شكراً لكم على مدخلاتكم، إنها رائعة ومفيدة فعلاً. ولكننا لا نملك أي دليل لنقول "فكرة جيدة، دعونا نجربها، يمكنك الاحتفاظ بها فيما لو أدت مبتغاها، أما إذا لم تنجح، فيمكنك التراجع عنها".
إذا استطعت الحصول على الاستقلالية والحوكمة الذاتية، وكذلك على الإتقان، والرسالة أيضاً، فإنه من السهل جداً أن تحصل على أشخاص يرغبون بالعمل لديك.
هل قلدت مكاتب حكومية أخرى طرائق عملك؟
لقد جاءت معظم الأفكار الجيدة التي حصلنا عليها من المبتكرين في الحكومة. وبنظرة تقليدية إلى الابتكار يمكنني القول إننا أصبحنا مبتكرين بدرجة عالية من الشفافية، والسمعة الرفيعة، والفخر. ونتيجة لذلك جذبنا العديد من المبتكرين في الحكومة إلينا. وقد توصلنا معاً إلى طريقة جديدة تم بناؤها تبعاً لخبرتهم السابقة.
أنا لا أقول إننا لم نبدع أي شيء جديد، فهي أفكار تم توليدها منهم، لكننا سوياً أضفنا وعدلنا ودمجنا عليها بطريقة مبتكرة، ثم حصدنا ثمار عملنا المشترك عندما شاهدنا كيف بدأ الأشخاص يعملون في ضوء ابتكاراتنا ويقلعون بها.
ظهرت في الآونة الأخيرة تقارير حكومية تنتقد سياسات تكنولوجيا المعلومات والتخطيط لفريق "18F".
تحدثنا أحد التقارير عن حاجة "18F" إلى استرداد تكاليفه وتحقيق أهداف الاستدامة. وهذا صحيح. لقد تم أخذ هذا الموضوع بالاعتبار في أثناء إنشاء "18F"، فهو يحصل على مخصصات مالية من البرامج الأخرى التي يمولها "الكونغرس". حيث إن "18F" يعمل لأجل تلك المؤسسات وبخدمة تلك الرسائل والمهمات. لا يمكن لأحد أن يبني مؤسسة أو كياناً ما ويتوقع أن يسترد استثماراته فيه على الفور. وليس لدي أدنى شك أن "18F" يسير على طريق استرجاع تكاليفه.
وتزداد أهمية المفتشين العامين في الوظائف الحكومية، لما لهم من دور عظيم في تخفيض الفاقد، الاحتيال، وإساءة استعمال المركز الوظيفي. ولكن ماذا لو كان الفاقد هو أننا حقيقة لم نقم بتغيير عملياتنا على مدى أكثر من 30 عاماً؟ لماذا لا يلاحظون ذلك؟
نتيجة كثرة السياسات المتبعة، لا يعمل معظم الموظفين الحكوميين بها جميعاً. كما تتولد مخاطر هائلة في كل مكان، عندما يسعى جميع العاملين في القطاع الحكومي لتجنب المخاطر.
بناءً على خبرتك مع "18F"، ما هي نصيحتك لمكتب الابتكار الأميركي؟
النصيحة التي أود تقديمها هي أنه لا يمكننا تقديم تنازلات في معدل التغيير. وأن التراجع يعني ببساطة، أن الحكومة بدأت بالفشل على مستويات أكبر حجماً.
وفي الوقت نفسه، فإن السبيل الوحيد للقيام بالتغيير هو من خلال التشجيع على تنفيذه من رحم البيروقراطية. أعرف أن الناس يشعرون بالإحباط ويشعرون بأن ذلك مستحيلاً. ولكنني متأكد أن الحقيقة ليست كذلك، كما أن علينا تغيير رسائلنا ليصعدوا ويكونوا معنا على مركب واحد. لا يمكنك أن تذهب إلى غرفة ما وتدعو أحدهم بأنه غبي، ومن ثم تتوقع منهم أن يكونوا سعداء بمقترحاتك للتغيير والتي لربما اقترحوها على مدى عقد من الزمن. نحن بحاجة جيش أكبر. نحن بحاجة لآلاف الأشخاص داخل الحكومة لمساعدتنا على المضي قدماً.
اعتدت أن أقول للأشخاص الذين قابلتهم لـ 18F "هذه هي كرة البولينغ العظيمة التي نستخدمها في إدارة التغيير. وهذا هو سبب وجودنا هنا. وهو حجر العثرة في طريقنا. لذا شمروا عن أكمامكم، واستعدوا لها".
إنهم الأشخاص، وليست التكنولوجيا. وآمل أن يكون هذا واضحاً للمشروع القادم من أجل معرفة كيفية إدارة مؤسسة حكومية بطريقة ريادية.
اقرأ أيضاً: