إدارة الضغط الكبير في الشركات

13 دقيقة
إدارة الضغط في الشركات

هل يمكنك إدارة الضغط في الشركات بنجاح؟ تؤدي ثقافة التواجد المستمر في العمل إلى مجموعة من السلوكيات السلبية.

هنالك الكثير من الحكايا عن هوس الشركات بالوقت، من شركات وادي السيليكون في عالم التقنية إلى شركات وول ستريت في عالم المال ومن لندن في الغرب إلى هونغ كونغ في الشرق. فالمدراء عادة ما يتطلبون ما يفوق طاقة الموظفين، فيتواصلون معهم خارج أوقات العمل، ويطلبون منهم إتمام واجبات إضافية في فترات ضيقة جداً. ولتلبية هذه المتطلبات يضطر الموظف إلى الوصول باكراً إلى مكان العمل وأن يغادر متأخراً، بل ولعله أحياناً يعمل طوال الليل في الشركة، ويعمل في عطلة نهاية الأسبوع، مع بقائه متصلاً مع المدير عبر وسائل التواصل التقنية على مدار الساعة. أما الموظف الذي لا يستطيع القيام بذلك، أو يرفض القيام به، فيكون عرضة غالباً للجزاء والمعاقبة.

إن عمل الشركات على هذا النحو يعني الضغط على الموظفين ليصبحوا حسب وصف علماء الاجتماع: موظفين مثاليين، أي أشخاصاً يكرسون حياتهم تماماً لوظائفهم مع استعداد دائم لتلبية أي أمر. وهذه ظاهرة متفشية في العالم المهني والإداري، وهي أمرٌ موثّق بشكل كبير في عالم الشركات التقنية الناشئة، وفي البنوك الاستثمارية، وفي المؤسسات الطبية. ففي هذه الأماكن يعدّ مجرد التعبير عن اهتمامات خارج سياق العمل والتزاماته مؤشراً على نقص الأهلية للوظيفة.

هذا ما كانت تخشاه كارلا هاريس حين بدأت العمل مع شركات مورغان ستانلي، حيث تعمل حالياً بصفة تنفيذي رفيع. وهي في الوقت ذاته تعشق الغناء وقد أصدرت العديد من الألبومات وشاركت في العديد من الحفلات. وفي بداية مسيرتها المهنية في الشركة، حرصت كارلا على إبقاء هذا الأمر جزءاً من حياتها الخاصة، لأنها خشيت إن علمت الشركة أنها تخصص جزءاً من وقتها للغناء فقد يؤثر ذلك عليها مهنياً، والواقع أن العديد من الدراسات تشير إلى أن كارلا محقة في القلق الذي أبدته حيال هذا الأمر.

فالموظف المثالي عليه أن يضع الأولوية دائماً وأبداً لوظيفته وأن يقدمها على كافة شؤون حياته الأخرى، بما في ذلك الأبوة والأمومة (في فترة الحمل وبعد الولادة)، والاحتياجات الشخصية، بل وحتى الصحة الشخصية. وقد يبدو من الصعب الحديث عن هذا الواقع عدا عن تحدّيه ومواجهته، لأنه وبالرغم من التكاليف على المستوى الشخصي والمادي لهذا النمط من العمل، فإن العديد من الناس يعتقدون أن تحقيق النجاح يتطلب منهم وممن حولهم الالتزام بهذه المثالية. وهذه الفكرة الشائعة تجعل بعض الأشخاص يعارضون تغييرات تنظيمية متقنة التخطيط تهدف إلى الحد من الضغط على الموظفين. فحين قررت شركة بيست باي (Best Buy) التركيز على النتائج وتجنب العمل لساعات طويلة، تردّد بعض المدراء في قبول هذا التوجه الجديد وتوجسوا منه، وأصرّوا على الرأي الذي يرى أن التفاني في العمل بشكل كامل أمرٌ ضروري.

لا يمكن إذن إنكار وجود هذا الضغط الذي يهدف لتحويلك إلى موظف مثالي، ولكن السؤال هو كيف يتكيّف الناس مع هذا الضغط، وما عواقب هذا الضغط عليهم. فهل من المفيد دمج توقعات الموظف المثالي ضمن ثقافة الشركة؟ وهل من الضروري على المستوى الشخصي تحقيق هذه التوقعات؟ تشير المقابلات التي أجريناها مع مئات الموظفين في مجالات ريادة الأعمال والصحافة والتعليم والاستشارات والتمويل والعمارة إلى أن فكرة الموظف المثالي ليست ضرورية ولا نافعة في معظم الأحوال. فالعديد من الموظفين، من الرجال والنساء، ومن الآباء والأمهات وغيرهم، يجدون أنّه من الصعب أن يضعوا حدّاً للجوانب الأخرى من حياتهم للتركيز بشكل حصري على العمل. فهم يعانون كثيراً لإدارة الاهتمامات والشؤون الأخرى في حياتهم، وقد يتوصلون إلى بعض الحلول التي تمكّنهم نوعاً ما من التعايش مع هذا الضغط، ولكن هذا أمر له العديد من الآثار الخطيرة والسلبية.

وسنقوم في هذه المقالة بوصف الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس عادة في إدارة الضغط الواقع عليهم ليكونوا متواجدين دوماً للعمل، وليحققوا الالتزام المطلق بالعمل، وسنكشف عن آثار هذه الاستراتيجيات على الموظفين أنفسهم وعلى من يشرفون عليهم، وعلى الشركات التي يعملون فيها. ثم نقدم طريقة للتوصل إلى ثقافة تنظيمية أفضل وأكثر نفعاً وإنتاجية على المدى البعيد والتي لا تحتاج سوى بعض التغييرات الطفيفة من قبل أصحاب العمل والمسؤولين الإداريين.

استراتيجيات ثلاث

وجدنا في البحث الذي قمنا به أن الموظفين عادة ما يعتمدون على واحدة من ثلاث استراتيجيات: الإذعان والالتزام بمتطلبات الضغط المتزايد لبيئة العمل، أو التظاهر بالمثالية عن طريق بعض الأساليب التي تتيح له المناورة، أو المصارحة بوجود اهتمامات أخرى وعدم الاستعداد للتخلي عنها من أجل العمل.

الإذعان. العديد من الناس يتعاملون مع الضغوطات التي تتطلب منهم التفاني التام في العمل من خلال الاستسلام للأمر الواقع والالتزام بالمطلوب منهم. ففي إحدى الشركات الاستشارية المشمولة في الدارسة، وجدنا أن هذه هي الحال لدى 43% من الموظفين الذين قابلناهم. فسعياً منهم لتحقيق النجاح في الوظيفة، يقوم هؤلاء الموظفون "المذعنون" بتقديم شخصيتهم المهنية على أي أمر آخر مع كبت أو التضحية بالجوانب الأخرى من حياتهم. فالعديد من الناس الذين تكلمنا معهم من قطاعات مهنية مختلفة أخبرونا، بشيء من الحزن، أنهم اضطروا للتخلي عن أحلامهم من أجل الوظيفة، فهناك من أخبرنا بأنه كان يتمنى أن يكون أكثر فعالية في الخدمة المجتمعية، وآخر ترك اهتمامه بسباقات الماراثون، ومنهم من أخبرنا أنّه كان يحلم دوماً بأن يكون قريباً دوماً من العائلة. لقد قال أحد الموظفين الذين قابلناهم، وهو مهندس معماري:

أنا أعمل في التصميم على مدار الساعة، ففي هذا المشروع الذي أصمّمه حالياً يتواصل مديري معي عبر الإيميل في أي ساعة أثناء الليل، فأحيانا يجب علي أن أجيبه بعد منتصف الليل، ومراتٍ في الساعة السادسة صباحاً. لا أستطيع أن أخطط لحياتي الخاصة أبداً، فأنا دائماً رهن إشارته وأمره.

إذا كان العمل ممتعاً ومجزياً، فقد تكون استراتيجية الإذعان مفيدة، فهي تتيح للموظف تحقيق النجاح والتطور في مهنته. ولكن الهوية المهنية التي تستثني أي جانب آخر تجعل الموظف أكثر عرضة للتأثر بالتغيرات المهنية لأنه من الناحية النفسية قد ضحّى بكل شيء بعد أن وضع جميع بيضه في سلةٍ واحدة. فإن خسر وظيفته أو حصل معه أمر سلبي في العمل، فإن من يتبع هذه الاستراتيجية سيجد صعوبة في التأقلم مع أي وضع جديد بعد ذلك، لأنه لن يعود قادراً على متابعة شؤون واهتمامات أخرى بعد أن تخلّى عنها. فاستراتيجية الإذعان هذه والتي تستلزم تقديم كل شيء حتى النهاية قد تكون مجزية حين تسير أمور العمل على ما يرام، ولكنها ستكون عامل ضعف على المدى البعيد.

كما أن أولئك الموظفين الذين يلتزمون بفكرة "الموظف المثالي" لا يمكنهم فهم غيرهم ممّا لا يرغب الالتزام بهذه الثقافة. ونتيجة لذلك فإن المذعنين قد يكونون هم الدافع لاستمرار الضغط المؤسسي على الموظفين للتوافر من أجل العمل على مدار الساعة، وقد يجدون صعوبة في التعامل مع الموظفين الذين لديهم حياة خارج مكان العمل. فقد وصف لي أحد الاستشاريين نوع الموظفين الذي يفضل التعامل معه فقال:
إنني أريد الموظف الذي يستلقي في الليل على سريره وهو يفكر باجتماع الغد وما يجب إنجازه خلال الاجتماع، وهو تماماً ما يحدث معي شخصياً طوال الوقت.

ومن العجيب ربما أن نعرف أن المذعنين ليسوا بالضرورة مدربين جيدين حتى بالنسبة للموظفين الذين يسعون للالتزام بتوقعات الشركة التي يعملون بها. فليس من السهل على الموظف المبتدئ مثلاً أن يحظى ببعض الوقت والانتباه منهم، لأنّهم غارقون بأعمالهم تماماً. ويصف أحد الاستشاريين هذه الحالة ويقول: "يصبح من الصعب على هؤلاء الناس أن يدركوا حجم المشكلة التي يعايشها الموظف المبتدئ حين يبدأ العمل وهو لا يدري كيف يتدبر أمره." وينتهي بهم الأمر عادة بترك فرصة النجاة أو الغرق للموظف المبتدئ كي يشقّ طريقه بنفسه دون توجيه أو مساعدة.

التظاهر

الاستراتيجية الثانية التي يتّبعها الموظفون، هي تخصيص بعض الوقت للأنشطة خارج إطار العمل لكن مع الحرص على تماهي هذه الأنشطة مع العمل. ففي شركة الاستشارات كان 27% من الموظفين يتبعون هذه الاستراتيجية. لقد كان هؤلاء الموظفون يمارسون استراتيجية "التماهي" التي تحدّث عنها عالم الاجتماع الشهير إيرفينغ غوفمان والتي يتبعها بعض الأشخاص لإخفاء بعض السمات من شخصيتهم (كالإعاقة الجسدية أو العرق)، لتجنّب التحيّز ضدهم في المجتمع. فالموظفون الذين نجحوا في التظاهر بامتلاك شخصية الموظف المثالي حصلوا على تقييم لا يقل عن زملائهم الذين تفانوا في تكريس أنفسهم للعمل على مدار الساعة، وكانوا يقدمون انطباعاً عن أنفسهم بأنهم دوماً مستعدون للعمل.

لقد وجدنا أنّه ورغم أن الكثير من الموظفين في شتى المجالات المهنية قد طوّروا بعض الطرق للتظاهر، إلا أن ذلك كان يسير وفق استراتيجيات مختلفة. فعلى سبيل المثال ركّز بعض الموظفين في مجال الاستشارات على العمل مع عملاء محليين قريبين منهم جغرافياً كي يتمكنوا من تقديم الخدمات لهم دون بذل الكثير من الوقت في السفر والتنقل، وأتاح ذلك لهم تخصيص بعض الوقت لجوانب أخرى من حياتهم الشخصية. وقد وضّح أحد الاستشاريين كيف تمكّن من كسب بعض الوقت للقاء أصدقائه وممارسة الرياضة مع إعطاء الانطباع في الوقت ذاته بأنه موظف مثالي:

السفر دائماً يستنفد الوقت، لذلك أعمل مع عملاء من مدينتي، فهُم على بعد رحلة قصيرة بالسيارة فقط.

كما حصر موظف آخر في مجال الاستشارات عمله مع عملاء محليين، ولطالما عمد إلى العمل معهم عن بعد باستخدام وسائل التواصل من أجل تقليص عدد ساعات عمله، بالإضافة إلى لجوئه لأمر إضافي: أن يختار ما يريد الإفصاح عنه من تحركاته. فقد أخبرنا هذا الموظف (بشيء من السعادة) أنه قد ذهب للتزلج يومياً خلال الأسبوع الماضي، دون أن يستخدم رصيد إجازاته. ومع ذلك فإن الكل ينظر إليه على أنه نجمٌ لامع يعمل أكثر من الجميع في شركته.

وبالنسبة لموظفين آخرين كانت المسافات أمراً إيجابياً. فقد تكلمنا مع أحد الصحفيين وأخبرنا بأنّه تلقّى مهمة لإعداد تقارير لصالح صحيفة مرموقة تحتاج للسفر خارج مدينته. وبفضل ذلك، كان قادراً على العمل من البيت، وقضاء الوقت مع أسرته، وبعد أن ينام أطفاله كان يرسل المقالات المطلوبة منه عبر البريد الإلكتروني، وقد حافظ في الوقت ذاته على صورته بأنّه موظف مثالي. لقد ضحك حين قال لنا:
لم يكن أحد يعرف مكان تواجدي، لأنني كنت وحيداً، وبعيد مئات الكيلومترات عن مكان العمل.

ومع أن التظاهر يساعد الموظفين على إدارة الضغط في الشركات وفي بيئة العمل من دون أن يغرقوا تماماً في العمل، إلا أن لهذه الاستراتيجية ثمناً من الحالة النفسية للموظف لأنّه يضطر لإخفاء جزء من شخصيته أمام زملائه ومديره أو التابعين له في العمل. فالإنسان يحتاج إلى التعبير عن نفسه وأن يعرفه الآخرون، وحين لا يتمكن من عرض بعض جوانب شخصيته وهويته في مكان العمل، فقد يسيطر عليه شعور بالزيف أو انعدام الثقة بالنفس، كما أنّه لن يكون مندمجاً تماماً في بيئة العمل. ولهذه المشاعر أثر سلبي على المؤسسات والشركات أيضاً: فالأبحاث التي أجريناها تشير إلى أن الموظفين الذين يتبعون استراتيجية التظاهر لا يمتلكون الولاء الكامل للشركة ويتركونها أكثر من غيرهم، وفي هذا إشارة إلى أن هذه الاستراتيجية وإن نجحت على المدى القصير، إلا أنّه يصعب التقيد بها على المدى البعيد لأنها تتطلب من الشخص أن يخفي عن الآخرين جوانب مهمة من حياته.

إن التظاهر بأنك موظف مثالي سيجعل من الصعب عليك أن تدير الآخرين، لأنّ من يتبع هذه الاستراتيجية لن يميل عادة إلى تشجيع الالتزام بصورة الموظف المثالي بين الموظفين، بل ربما يدفع موظفيه إلى التظاهر مثله بالالتزام بالعمل، وابتكار الحيل لفعل ذلك، وهذا قد يطرح إشكالات كبيرة. وكذا لو تمّ التلميح لرفض الالتزام بالجاهزية للعمل على مدار الساعة، لأن هذا (كما سنرى) سيضرّ بمصالح الموظفين ويعرضهم عادة للمسؤولية. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن من يعتمد استراتيجية التظاهر قد يعتقد أن جميع الموظفين في الشركة يرغبون في العمل طوال الوقت. يقول أحد المدراء الذي كان يتبع هذه الآلية دون أن يدعو موظفيه لأن يحذوا حذوه:

أريد أن يكون الموظفون في شركتي سعداء، ولكن إن كانوا يجدون سعادتهم في العمل لساعات طويلة فلا يمكنني أن أغيّر ذلك.

ومن الجوانب السلبية أيضاً لهذه الاستراتيجية أن الموظف من خلال تجنّب الرفض المباشر لثقافة "الموظف المثالي" فإنّه يتيح لهذه الثقافة بالاستمرار ويعزّز وجودها. إن إنجازات الكثير من الموظفين دليل على أن الإنسان لا يحتاج إلى أن يكون مهووساً بالعمل كي ينجح، ولكن المؤسسة كثيراً ما تخطط وتقيّم العمل وهي تعتقد العكس.

المصارحة

لا يملك الجميع القدرة على التظاهر، والبعض لا يرغب في فعل ذلك، كما أن بعض الموظفين الذين قد يتبنون هذه الاستراتيجية في البداية قد يشعرون بالسوء حيال ذلك مع مضي الوقت. ولذا فإنهم يتكيفون مع العمل من خلال الحديث عن الجوانب الأخرى في حياتهم خارج إطار العمل والمطالبة بإجراء تغييرات على طبيعة نظام العمل، كتقليص ساعات العمل وغيرها من التعديلات. وفي شركة الاستشارات التي أجرينا بها الدراسة كان 30% من الموظفين الذين قابلناهم يتبعون هذه الاستراتيجية. ومع أن الافتراض السائد هو أن الأشخاص الذين لا يرضخون للضغوط التي تدفعهم ليكونوا "الموظفين المثاليين" هم من النساء الأمهات، إلا أنّنا لم نلحظ فرقاً شاسعاً بين الرجال والنساء في البحث الذي أجريناه بين من يتبع هذه الاستراتيجية. فالبيانات التي حصلنا عليها من الشركة تظهر أن قرابة نصف الموظفات كنّ يتبعن استراتيجية المصارحة، بينما كان يتبعها أكثر من الربع من الموظفين الرجال.

إنّ المصارحة تتيح للموظف أن تكون شخصيته واضحة أمام الآخرين من الزملاء، وهذا أمر غير متاح لأتباع الاستراتيجية الثانية. ولكن هذا لا يحصل بلا مخاطر. ففي الشركة موضوع الدراسة أظهرت البيانات الخاصة بمراجعات الأداء والترقية أن من اتبع استراتيجية المصارحة قد تلقى جزاءً وخيماً. فأحد الموظفين أظهر مرة عدم الاستعداد لجعل العمل أهم أولوياته حين طلب إجازة الأبوة، فزوجته كانت في الشهر الثامن، وكان الأب يشعر بأنّ الوقت قد حان ليتولّى العناية بزوجته وينتظرا معاً موعد الولادة الوشيك. ولكنّه واجه انتقادات من الإدارة:
لقد قال لي أحد المدراء: "الخيار بيدك، فإما أن تصل إلى الاحتراف، وإما أن تكون إنساناً عادياً في مجالك. فإن كنت تريد أن تكون مخلصاً للمهنة، فيجب ألا يكون في حياتك أي أمر أهم من عملك، فالذي يريد أن يحقّق النجاح على أعلى المستويات لا بدّ أن يعطي حياته كلها للعمل".

ومع الوقت يتحوّل الجزاء الذي يناله الموظف نتيجة رفضه للرضوخ لضغط العمل إلى شعورٍ عام بالغضب وعدم الرضا. وإن كان صاحب العمل يظن أن ذلك سيحفّز الموظف على تكريس حياته للعمل بشكل أفضل، فهو مخطئ تماماً، لأنّ ذلك سيدفعه إلى ترك الشركة والبحث عن عمل آخر يناسبه.

حين يتلقى الموظف جزاءً عند كشفه عن اهتماماته خارج العمل فإن هذا يجعل إدارتهم للآخرين أمراً بالغ الصعوبة. فالذين يتبعون سياسة المصارحة لا يستطيعون إرغام موظفيهم إن كانوا مدراء على قبول ضغوط العمل، كما أنّهم لا يملكون في الوقت ذاته المقدرة على تشجيعهم على مقاومة ضغط العمل لأن هذا لن يعود بالنفع على مؤسستهم.

إدارة الضغط في الشركات
ما الحل من أجل إدارة الضغط في الشركات بنجاح؟

وجدنا من خلال البحث الذي أجريناه أن الموظفين في حال شعروا بامتلاكهم الخيار لرسم حدّ يفصل بين حياتهم المهنية والشخصية، فإن هذا ينعكس إيجاباً على المؤسسة التي يعملون بها لأنه يزيد من الانتماء إليها ويشجع على وجود علاقات صحية أكثر في بيئة العمل مع توفّر سبل متعدّدة لتحقيق النجاح. وسنوضح فيما يلي خطوات ثلاث يمكن للمدراء اتباعها للتوصل إلى تعريف أوسع لمفهوم "الموظف المثالي" من دون التضحية بالأداء المتميّز للموظف. وليس بالضرورة أن تأتي هذه التغييرات المقترحة على يد كبار المدراء في الشركة، بل يمكن تطبيقها بشكل فعال على مستوى فرق العمل الصغيرة.

حاول أن تظهر شخصيتك بملامحها وجوانبها المختلفة

في وسع الأشخاص في المناصب الإدارية تجنب هشاشة الوضع الذي ينتج عن التسليم الأعمى لثقافة "الموظف المثالي" وذلك من خلال تعزيز قدرة الموظفين على التعبير عن شخصياتهم غير المرتبطة بالعمل، فمنهم من يهتم بالعمل الاجتماعي أو الرياضة أو العائلة. أخبرنا أحد المهندسين المعماريين مرة أنّه حين صار ينظر إلى نفسه من خلال عمله وحسب، فإنه كان أقل قدرة على التعامل مع الصعوبات والمشاكل التي واجهها في العمل. أما حين وسّع من نظرته لنفسه، فقد كان أقدر على تحقيق ذاته حتى على الصعيد المهني. كما أن المدراء حين يحسنون التصرّف مع هذا الجانب، سيدركون أن تحقق التوازن في حياة الموظفين سينعكس إيجاباً على الشركة.

ويمكن أن تكون نقطة انطلاق المدراء في تغيير العادات في المؤسسة، هي الإشادة والتنويه بالجوانب الإيجابية التي تقدمها أنشطة الموظفين خارج نطاق عملهم لبيئة العمل. لقد لاحظ أحد الاستشاريين في أحد الشركات التي اندمجت مؤخراً مع شركة أخرى، أن زملاءه الجدد لا يمكثون في المكتب أبداً بعد الخامسة والنصف. وحين سأل واستفسر عن سبب ذلك كان الجواب:

نحن لا نريد من موظفينا أن يمضوا كل وقتهم في العمل، بل نريدهم أن يكونوا أشخاصاً أصحاب خبرات واسعة، وأن يمتلكوا الفضول ويروا العالم، وتكون لديهم تجارب مختلفة يمكن أن تحقق النفع لاحقاً للعمل.

إن الأشخاص الذين يقضون وقتاً في أنشطة خارج العمل، كالتطوع أو المشاركة في الشؤون المحلية لمنطقتهم ومجتمعهم على سبيل المثال، أو زيارة طفلهم في المدرسة، يكونون أكثر قدرة على اكتساب الخبرات المفيدة والمعارف المتخصصة وبناء الشبكات التي قد لا تتوافر لغيرهم ممّن يلتصقون بالمكتب ولا يغادرونه.

لا تجعل المكافأة تعتمد على الوقت المبذول في العمل

يلجأ بعض الموظفين إلى استراتيجية التظاهر بالتفاني بالعمل، لأنهم يعتقدون أن تقييم أدائهم يعتمد عادة على مقدار الوقت الذي يبذلونه حقيقة أو ادعاءً في مكان العمل، لا على جودة العمل الذي يقدمونه. وهذا التوجه يتعزز عادة ببعض الأفكار والممارسات الشائعة. أحد الاستشاريين الإداريين على سبيل المثال يمتلك قناعة بأن الاستشاري الناجح هو الذي يملك القدرة على تكوين العلاقات الوثيقة مع العميل من خلال قضاء ما يكفي من الوقت معه ليصبح صديقه بمجرد أن يخرج من مكتبه. وهنالك شركة أخرى منحت مكافأة للموظف الذي قطع أطول المسافات في السفر خلال العام. إن جعل الزمن المبذول في العمل أهم من العمل نفسه هو الذي يدفع بعض الموظفين لخداع الإدارة بخصوص ساعات العمل التي يقضونها فعلياً في العمل، وهذا خطأ يسهل الوقوع فيه خاصة من قبل الأشخاص الذين يعملون في وظائف تعتمد على المعرفة.

وكان رأينا هو أن يقوم المدراء بتشجيع الموظفين على تجنّب استراتيجية التظاهر وعدم تهديدهم إن اختاروا سبيل المصارحة، وذلك من خلال مساعدتهم على التركيز على تحقيق أهدافهم والنظر إلى نتائج العمل لا إلى الساعات التي قضوها في العمل. يمكن على سبيل المثال وبدل الإشادة بكسب الصداقات الوثيقة مع العملاء بسبب قضاء فترات طويلة من الوقت معهم، يجب على المدراء أن يثنوا على الموظفين بناء على جودة الاستشارات والتوجيهات التي قدموها للعملاء أو عدد الاستشارات اللاحقة التي طلبها العميل. كما يجدر بالمدراء تجنب المكافآت القائمة على الوقت والتركيز بدلاً من ذلك على وضع توقعات معقولة من الإنجازات مع العميل.

ثمة تغييرات أخرى على سياسة الشركة يمكن القيام بها بسهولة أكثر. فقد ذكرت إحدى الموظفات ممن أجرينا معهم مقابلات أن مديرها الحالي يختلف عن الذي سبقه بأنّه كان يرى أن البقاء لوقت متأخر في الشركة إشارة على أن العمل لا يتم بالكفاءة المطلوبة، وأنه كان لا يشجع على البقاء حتى وقت متأخر في العمل. وهناك موظفة أخرى ذكرت أن مديرها طلب منها بكل بساطة أن تضع مواعيد نهائية للمهامّ بنفسها- على أن تكون واقعية في هذه المواعيد. فعند امتلاك الموظف ذي الأداء الجيد الذي كان من المحتمل أن يذعن أو يتظاهر، لهذا القدر من الأريحية والاستقلالية، سنجده يتقيد بالتزاماته بكفاءة أعلى.

احرص على حماية الحياة الشخصية للموظفين

معظم مؤسسات الأعمال تترك الأمر للموظفين ليضعوا هم الحد الفاصل بين العمل والحياة الشخصية، وعادة ما يكون ذلك بحسن نية. فحين قامت شركة نتفليكس (Netflix) مثلاً بمنح إجازة غير محدودة للموظفين، فإن مدراء الشركة كانوا يرون أنهم بحاجة للتعامل مع الموظفين على أنهم أشخاص "بالغون" يتحلون بالمسؤولية. ولكن الحرية المطلقة قد تكون مؤشراً كذلك على غياب الالتزام. فإن غابت الوجهة الواضحة للشركة فإن العديد من الموظفين قد يشعرون بالرغبة في الالتزام بفكرة "الموظف المثالي" والالتزام بالتوقعات التي تفرضها عليهم هذه الفكرة ليشعروا بالهدف ويكبتوا حاجتهم لعيش حياة متوازنة.

يمتلك المدراء القدرة على تغيير هذا الأمر من خلال المبادرة إلى تعزيز هويات الموظفين خارج إطار العمل وتحفيزهم على تطويرها وحمايتها. يمكن على سبيل المثال أن تحدد إجازات إلزامية دورية، وتقييد عدد ساعات الدوام لجميع الموظفين من دون استثناء. فالالتزام بتجنب العمل لساعات طويلة أو العمل في ظروف شاقة وغير متوقعة، وليس مجرد وضع الراحة كخيار أمام الموظفين، سيساعد من دون شك على أن ينشغل الموظف بتنمية الجوانب الأخرى في حياته وشخصيته.

إن الضغط الذي يقع على الموظف ليكون "مثالياً" كبير جداً، ولكنه أيضاً مكلف جداً لأنه ينعكس سلباً على حياة الموظفين الشخصية وعلى مصلحة المؤسسة التي يعملون فيها. كما أن تجارب الأشخاص الذي استخدموا استراتيجية التظاهر، تؤكد على أن الإنجاز وتحقيق النجاح للشركة لا يتطلب دوماً التفاني الخارق للعادة في العمل. إن الاحتفاء بالموظفين والجوانب المختلفة من اهتماماتهم وشخصياتهم ومكافأتهم على الإنجاز لا على الوقت المبذول في العمل والإقدام على خطوات جدية لصون الحياة الشخصية للموظفين تعدّ خطوات تساعد المدير على التخلص من خرافة "الموظف المثالي" في الكثير من مؤسسات الأعمال، كما تعمل على تعزيز فاعلية الموظف وقدرته على الابتكار والإبداع ومستوى الرضا العام عن الوظيفة.

لقد حان الوقت لإعادة تعريف "الموظف المثالي". سيكون الموظفون أكثر انتماءً وأعلى إنتاجية- والشركات أكثر نجاحاً، إذا توقّف الضغط الواقع عليهم لكبت شخصياتهم الغنية متعددة الجوانب في الحياة والعمل على إدارة الضغط في الشركات بنجاح.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي