قطار كاليفورنيا فائق السرعة بين سان دييغو وسان فرانسيسكو. وبرنامج "جوينت سترايك فايتر" (Joint Strike Fighter) المستند إلى تصميم طائرة "لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin). ومطار "برلين براندنبرغ" (Berlin’s Brandenburg Airport). ولوحة الشحن اللاسلكية "إير باور" (AirPower) التي أصدرتها شركة "آبل". هذه مجرّد أمثلة قليلة على مشاريع عانتْ من تأخيرات شديدة في جداول مواعيدها، وزيادات كبيرة في التكاليف، أو لم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود.
ومن المعروف أنّ تخطيط المشاريع بدقّة أمر صعب، سواء كانت مموَّلة من القطّاع العام أو الخاص، أو كانت في مجالات من قبيل البناء أو التكنولوجيا أو الأدوية أو البنية التحتية. ووفقاً لدراسة "نبض المهنة" Pulse of the Profession التي أُجريت عام 2018 من قبل "معهد إدارة المشاريع" (Project Management Institute)، أُنجز ما نسبته 50% فقط من المشاريع بين عامي 2011 و2018 في الموعد المحدّد، وكانت 55% منها تقريباً ضمن حدود الميزانية. ورغم أنّ الشركات بقيت تستثمر في تقنيات إدارة المشاريع منذ السبعينات من القرن الماضي، لم تتحسّن دقّة خطط المشاريع كثيراً.
ومن الواضح أنّ التوقّعات غير الدقيقة، التي تشمل المدّة والتكاليف والموارد والفوائد، تُشكّل مصدراً رئيساً للخطر الذي يهدّد مجال عمل القادة وفرص النمو المتاحة أمام المؤسّسات. على سبيل المثال، تُهدر الشركات ما متوسّطه 119 مليون دولار أميركي مقابل كلّ مليار دولار يُنفق على المشاريع (بنسبة 11.9%) بسبب أداء المشاريع الضعيف. ويمكن أن تؤثّر المشاريع المتأخّرة أو المكلفة أيضاً على صحّة الاقتصاد بشكل عام. من المتوقّع أن تصل مساهمات إجمالي الناتج المحلي (GDP) المقدّمة من القطاعات الموجّهة نحو المشاريع إلى 20.2 تريليون دولار أميركي بحلول عام 2027، ومن المحتمل أن يؤدي حدوث أخطاء كبيرة إلى تضاؤل هذا الرقم.
قبل 40 عاماً، لاحظ عالم النفس والفائز بجائزة نوبل للآداب دانيال كانيمان، إلى جانب شريكه المساهم لفترة طويلة أموس تفيرسكي، أنّ البشر ميّالون إلى الوقوع في مغالطة تتعلّق بالتخطيط: فهم يبالغون في وعودهم، ويقصّرون في الوفاء بها، بتقديم توقّعات غير واقعية لأهداف المشاريع النهائية. أوصى كانمان وتفيرسكي باستخدام منظور خارجي لتطوير خطط مشاريع أكثر واقعية. واقترحا استخدام أسلوب توقّع يدعى توقّع الفئة المرجعية والذي تُتوقع من خلاله فترات استمرار المشاريع أو تكاليفها من خلال مقارنة مشروع محلّ اهتمام بمجموعة من المشاريع المماثلة السابقة. يتناقض منظور خارجي كهذا مع المنظور الداخلي الذي يُنتهج معظم الأحيان، فيُخطَّط للمشروع دون اهتمام يُذكر بالأداء التاريخي لمثل هذه المشاريع، وقدرة هذا الأداء على تلبية الأهداف المحددة.
حالياً، يُتيح التغيير في المواقف الحاصل إزاء جمع البيانات، والتوقّع المستند إلى البيانات، وصناعة القرار، فرصاً غير مسبوقة في مجال تخطيط المشاريع. وبواسطة البيانات، تستطيع الشركات حالياً أن تُفعّل أفكار كانمان وتفيرسكي، وتتجاوز رؤيتهما الأصلية. يمكن تحديد تقديرات أدق باستخدام بيانات تاريخية للتوقّعات الأولية لتواريخ استكمال المشاريع وتكاليفها الإجمالية، إضافة إلى النفقات وفترات التنفيذ الفعلية. ومن ثَم يمكن استخدام مثل هذه التقديرات عند وضع التوقعات، ووضع أهداف المشاريع الجديدة. إليك بعض الأمثلة حول الأماكن التي يحدث فيها التوقّع القائم على البيانات، فضلاً عن بعض الموارد المتاحة للجميع، والتي تستطيعُ استخدامها.
جرى جمع البيانات حول أداء المشاريع في المملكة المتحدة لأكثر من عقد من الزمن. يقدّم الكتاب الأخضر التابع لخزانة جلالة الملكة المشورة حول كيفية تقييم مقترحات المشاريع قبل الالتزام بأموال عامة كبيرة. ويتضمّن إجراء التقييم تعديلاً متعمّداً للتعويض عن التفاؤل المنهجي الذي يُشار إليه أحياناً باسم "التحيّز المتفائل"، وهو المغالاة في تقدير الفوائد، وبخس الفترات والتكاليف.
تستخدم تعديلات التفاؤل هذه توقّع الفئة المرجعية، كما تُنشأ تجريبياً بالاستناد إلى البيانات التاريخية ذات الصلة. وجدنا في دراسة أجريتُها - إلى جانب باحثين من "كلية لندن الجامعية" ( University College London) و"جامعة إيراسموس روتردام" (Erasmus University Rotterdam) وكلية "ورويك لإدارة الأعمال" (Warwick Business School)، لصالح وزارة النقل في المملكة المتّحدة - أن مشاريع البنى التحتية للسكك الحديدية تتطلّب تعديلاً للتفاؤل بنسبة تتراوح بين 64% (للمشاريع في بداية طور التعريف) و4% (للمشاريع التي أنهت بالفعل التصاميم المفصّلة). حُددت هذه التعديلات عبر تحليل للبيانات الواردة من آلاف المشاريع التاريخية.
استُلهم قدر كبير من توجيهات الكتاب الأخضر المتعلّقة بالتحيّز المتفائل والتعديلات اللازمة من العمل الذي أنجزه بنت فلوبيير، الأستاذ في جامعة "أوكسفورد" (Oxford). جمع الأستاذ فلوبيرغ البيانات حول مئات المشاريع العملاقة والتي يندرج معظمها تحت مجالات البنية التحتية والبناء وتكنولوجيا المعلومات. تعمل مجموعات المشاريع الفرعية في مجموعة البيانات هذه بوصفها نقاطاً مرجعية ذات صلة عند تقييم مبادرات جديدة.
وفي الولايات المتحدّة، جرى اعتماد قانون تحسين إدارة البرامج والمساءلة في 14 ديسمبر/كانون الأول، 2016. يضع القانون الذي يهدف إلى تحسين ممارسات إدارة البرامج والمشاريع داخل الحكومة الفدرالية توجيهات أولية للمقاربات المنسقة على مستوى الحكومة بهدف تعزيز ممارسات إدارة المشاريع. ويتمثّل هدف القانون، الذي يستهدف الوكالات الفدرالية، في تحسين الأداء الحكومي، بما في ذلك "استخدام التكاليف وجدولة البيانات في دعم عملية صنع القرار". نأمل أن يشكّل هذا القانون في المستقبل حافزاً كبيراً في المساعدة على إنشاء موارد جمع البيانات. من شأن اتّخاذ الحكومة لهذه الخطوة أن يُساعد أيضاً في ترسيخ أنماط جديدة لجمع البيانات المتعلّقة بالمشاريع.
في المثالين، تُحدَّد مجموعة المشاريع التي تُعتبر ضمن الفئة المرجعية عبر حصافة الرأي البشري. ماذا لو تمكّن الذكاء الاصطناعي من المساعدة في أداء هذا الدور؟ يمكن لتوافر البيانات، وإتاحة الوصول لخوارزميّات الذكاء الاصطناعي المستندة إلى البيانات أن يساعد في إيصال توقّع الفئة المرجعية إلى المستوى التالي، وإحداث ثورة في طريقة التخطيط للمشاريع وتحديد الأهداف.
كيف نحقّق ذلك؟ يمكن لاستخدام بيانات مُفصّلة، على مستوى خطّة المشروع، مع معلومات حول المهام الفردية والتعلّم العميق والذكاء الاصطناعي، أن يحدّد أنماط تشابه بين مهام المشاريع وتسلسلها الهرمي وعلاقاتها السابقة. تفعل "إن بلان" (nPlan)، الشركة الناشئة التي تتّخذ من لندن مقرّاً لها، هذا حالياً. وتستخدم الشركة بيانات مستمدّة من عشرات آلاف مشاريع البناء التي تتضمّن ملايين المهام، إضافة إلى تقنيات معالجة اللغة الطبيعية لتوقّع فترات المشاريع وحالات التأخير. يُتيح الجمع بين قدرات البيانات الغنية، وحقوق ملكية الذكاء الاصطناعي لشركة "إن بلان" توليد توقّعات دقيقة ومفيدة للغاية لتواريخ استكمال المشاريع، بما في ذلك معلومات حول مخاطر حالات التأخير. وفي هذه الحالة، تتعلّم خوارزميات الذكاء الاصطناعي تمييز الأنماط الأكثر فائدة بغرض التنبؤ بحالات التأخير، وتخفيف الحاجة إلى الإعلان عن فئة مرجعية مسبقاً.
كان هناك من يعتقد أنّ إتاحة البيانات وتقنيات الذكاء الاصطناعي ستُحدِث "نقلة مزلزلة" في تخطيط المشاريع. لنأمل أن تُمكّننا هذه النقلة أخيراً من التغلب على مغالطة التخطيط أيضاً.