توضح المراقِبة المالية في إحدى شركات التكنولوجيا الناشئة، سلوى، ما يحدث عادة كلما عادت الرئيسة التنفيذية من مؤتمر، قائلة: "تعود دائماً بفكرة تراها ’رائعة‘؛ فننخرط جميعاً في تنفيذها بحماس فترة قصيرة من الوقت، لكن سرعان ما يتحول اهتمامها إلى مشروع جديد أكثر بريقاً، فتخبو الفكرة الأولى وتضمحل تدريجياً قبل أن تكتمل".
تعاني سلوى الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات الذي يمثل ظاهرة تتفاقم باستمرار؛ فقد أثبتت دراسات حديثة زيادة ملحوظة في وتيرة تغيُّر الاستراتيجيات، وكشفت دراسة استقصائية شملت 1,284 مسؤولاً تنفيذياً أن 85% من كبار القادة لاحظوا "ارتفاعاً مهولاً" في عدد مشاريع التحوُّل خلال الأعوام الخمسة الماضية. وتشير شركة غارتنر (Gartner) إلى أن كل مؤسسة خاضت في المتوسط 5 تحولات استراتيجية كبرى خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بينما يتوقع نحو 75% من المشاركين في الدراسة الاستقصائية زيادة عدد المبادرات الكبرى خلال الأعوام الثلاثة المقبلة.
ثمة فوارق بين الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات والإجهاد الناجم عن التغيير؛ إذ يحدث الإجهاد الناجم عن التغيير بسبب كثرة التعديلات التي تطال العمليات اليومية في مكان العمل، وينتج عن التغييرات المتكرِّرة في كيفية أداء الموظفين لأعمالهم. أما الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات فيحدث بسبب التحولات المتكررة والاعتباطية في التوجه الاستراتيجي للمؤسسة. وعندما يغيّر القائد أولوياته باستمرار، يجد الموظفون صعوبة في فهم غاية الشركة وأهدافها، ما يُولّد انطباعاً بأنّ القائد لا يعرف ما يفعله. وعندما يفتقر سير العمل إلى الاتساق، تسود حالة من عدم اليقين وتهتز الثقة في قيادة الشركة. ولا يفرِّق الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات بين الشركات الناشئة الطموحة والشركات العملاقة، بل والمؤسسات العامة. دعونا نستعرض مثالين لتوضيح الفكرة:
- شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا لا تكفّ عن تغيير مسارها. تتبع الرئيسة التنفيذية للشركة التي وردت قصتها في بداية المقال نهجاً قائماً على ما يُعرَف باستراتيجية اليوم الواحد، ما يؤدي إلى عرقلة الأداء بسبب تغييرها المتكرر للمسار "في لمح البصر" من خلال سعيها الدائم خلف أفكار جديدة قبل أن تحظى الفكرة السابقة بأي زخم أو استقرار. أثار هذا النهج في بداياته قدراً من الحماس والطاقة، لكنه سرعان ما تحوّل إلى مصدر إحباط للموظفين الذين أنهكهم هذا التخبُّط الدائم؛ ففي أحد الأشهر كانت الأولوية للتوسّع الدولي، وفي الشهر التالي انصبّ التركيز على تطوير منتج جديد، وذلك كله دون مبررات واضحة. ومع مرور الوقت، تراجعت الإنتاجية ليحلّ محلّها الارتباك والفوضى. ومثلما قال أحد أعضاء الفريق السابقين: "وصلت الرئيسة التنفيذية للشركة، والشركة نفسها، إلى طريق مسدود". هذا هو الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات في أوضح صوره؛ إذ يُحرَم الموظفون الموهوبون من فرص إظهار كفاءتهم؛ لأن الإدارة لا تلتزم بمسار معيَّن فترة كافية لتحقيق نتائج مثمرة.
- شركة أزياء تغيّر توجهها الاستراتيجي باستمرار. كانت علياء تشغل منصب مديرة حسابات أولى في شركة لبيع الملابس والحقائب والأكسسوارات النسائية الراقية. وجاء قرار تعيينها على خلفية الرغبة في "توسيع الأعمال التجارية على الصعيد الدولي عن طريق البيع بالجملة"، أي التعامل التجاري بين الشركات، وحددت مساراً حاسماً ومعقداً في الوقت نفسه لتحقيق هذه الغاية، لكنها ما لبثت أن استقالت بعد عامين فقط بسبب الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات نتيجة تذبذب الرئيسة التنفيذية في رسم التوجه العام للشركة. عندما سألتُ علياء عن سبب تغيُّر توجهات الرئيسة التنفيذية باستمرار، أجابت بأنها "تفتقر إلى الخبرة في قطاع التجزئة، وجاءت من شركة كبرى للاستشارات الاستراتيجية، ولا تمتلك معرفة كافية بالقطاع". واجهت الرئيسة التنفيذية صعوبة في الالتزام بالخطة، و"كانت تغيّر الاستراتيجية كل 3 أشهر"، متنقّلة بين التوسّع الدولي والتركيز بدرجة أكبر على المعاملات التجارية الموجهة للمستهلك مباشرة وافتتاح متاجر جديدة وطرح منتج معين تحت علامة تجارية مختلفة، وأي خيار يوافق عليه مجلس الإدارة. قالت علياء: "كانت الرئيسة التنفيذية تبحث دائماً عن حل سحري لتحقيق نتائج مالية غير واقعية"، لكن أياً من تلك المحاولات لم يُكتَب له النجاح. وفي نهاية المطاف، أُقيلت من الشركة بعد عام واحد من مغادرة علياء.
كيفية محاربة الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات
يؤدي وجود الكثير من المبادرات قيد التنفيذ أو تبديلها بسرعة دون سبب واضح إلى إضعاف القدرة على التركيز والإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات. فكيف يمكن التصدّي لذلك؟ بالنسبة للقائد، قد يبدو الأمر أشبه بصراع داخلي؛ إذ عليه أن يُخضِع ردود الفعل التلقائية تجاه الأفكار الجديدة البراقة لاختبارات عقلانية ومتزنة.
إقرار معايير انتقائية واضحة
ضع معايير انتقائية واضحة لتقييم انسجام الفكرة أو المبادرة الجديدة مع التوجّه الاستراتيجي العام من عدمه. ولا تتردد في رفض الأفكار التي لا تتسق معه أو تأجيلها. على سبيل المثال، عند عودة ستيف جوبز إلى شركة آبل، أجرى مراجعة شاملة لخط إنتاج الشركة وألغى 70% من النماذج المطروحة حينذاك بهدف إعادة التركيز على المنتجات الأساسية. أدّى هذا الإجراء الحازم إلى تبسيط العمليات وتوجيه تركيز الموظفين نحو الابتكار. وقد شكّل طرح جهاز آي ماك جي 3 (iMac G3) لاحقاً ترجمة فعلية لهذا التوجّه، وأدّى إلى نجاح تجاري لافت أعاد لآبل مكانتها في السوق. وعلى الرغم من ازدياد الفرص بقطاع التكنولوجيا وشيوعها في وادي السيليكون، اختار جوبز التمسُّك برسالته عبر طرح مجموعة محدودة من المنتجات البسيطة والأنيقة والمتميزة.
استخدام نماذج تقييم تستند إلى البيانات
اعتمد نهجاً يستند إلى البيانات لتصنيف الأفكار حسب أثرها وقابليتها للتنفيذ. وتساعد تقنيات مثل التقييم المرجّح أو مصفوفة القيمة مقابل الجهد المبذول على قياس القيمة التجارية للفكرة مقارنة بالموارد اللازمة لتنفيذها. على سبيل المثال، تستخدم نتفليكس إطار العمل القائم على تحديد الأولويات وفق نتائج الابتكار، الذي يستفيد من بيانات استخدام العملاء وأبحاث السوق والمؤشرات المالية لتقييم الأثر المحتمل لأي ابتكار في المنتجات.
وتستخدم مؤسسات أخرى أطر عمل مثل النموذج الرباعي الذي يُقيِّم المنتجات استناداً إلى 4 معايير (مدى الانتشار، حجم الأثر، درجة الثقة، مقدار الجهد) لتقييم المنتجات وتحديد أولوياتها بصورة منهجية، ما يضمن تركيز جهود التطوير على المبادرات عالية الأثر. ويُسهم اعتماد هذه المنهجيات المُنظَّمة في تقليص الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات، كما يُعزّز قدرة المؤسسة على الحفاظ على ميزتها التنافسية في السوق.
تنفيذ تجارب أولية لإثبات المفاهيم
أحد الأسباب التي تدفع الشركات إلى الوقوع في مزلق الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات هو الخوف من إضاعة فرصة ثمينة قد لا تتكرر في المستقبل. ونتيجة لذلك، توافق على عدد كبير من المشاريع أملاً في أن ينجح أحدها. أما النهج الأذكى فيكمن في اعتماد أسلوب إثبات المفاهيم، أي إجراء اختبار صغير النطاق للفكرة المطروحة للتحقق من قابليتها للتنفيذ قبل تخصيص موارد كبيرة لتنفيذها على نطاق واسع. على سبيل المثال، يُسهم تطبيق إثبات المفاهيم بمجال تطوير البرمجيات في التحقق من صلاحية المنتج الجديد من خلال اختبار قدراته الوظيفية ومدى توافقه مع احتياجات المستخدمين، ما يضمن انتقال الحلول القابلة للتطبيق فقط إلى مرحلة التنفيذ الشامل. يُحقق هذا النهج فائدتين أساسيتين؛ إذ يحمي الشركة من التورط بأكملها في مشاريع غير مضمونة، كما يحافظ على ثقافة الابتكار من خلال ترسيخ عقلية التجربة والتعلُّم.
الحفاظ على مسار موحَّد واضح وظاهر للأفكار أو المشاريع
احرص على الاحتفاظ بمسار موحَّد للأفكار أو المشاريع، بحيث يضم المبادرات الخارجة عن نطاق الأعمال الاعتيادية ويتتبَّع تنفيذها، وذلك لتجنُّب الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات؛ فوجود هذا المسار يُوفِّر رؤية واضحة حول عدد المبادرات الجاري تنفيذها، ويُقلّل من تكرار الجهود أو تضاربها. واحرص على مراجعة هذه القائمة بصورة دورية مع القيادات العليا من أجل استبعاد المشاريع التي تحتل مركزاً متدنياً على سلم الأولويات. عندما تحاول المؤسسات حصر عدد المشاريع ومبادرات التغيير الجاري تنفيذها، غالباً ما تُفاجأ بضخامته، ما يضطرها إلى إيقاف بعض المبادرات أو تأجيلها لإتاحة المجال أمام المبادرات ذات الأولوية الأعلى للنجاح. ويتّبع بعض الشركات قاعدة "اعتماد مبادرة واستبعاد أخرى" عند التعامل مع المشاريع الكبرى لضمان هذا التوازن. ويُسهم إنشاء نظام لتتبُّع المشاريع في توفير رؤية واضحة تُساعد على ترتيب الأولويات، كما يعزّز ثقافة المساءلة والتركيز داخل المؤسسة.
تتسم بيئة الأعمال المعاصرة بالضبابية وعدم اليقين، ما يؤدي إلى وقوع مؤسسات كثيرة في مزلق تبنّي استراتيجيات ارتجالية، انطلاقاً من تصوّر خاطئ مفاده أن كثرة المبادرات تعني زيادة فرص النجاح. لكن تبيّن أن التوسّع غير المنضبط في الأولويات الاستراتيجية يكلف المؤسسات ثمناً باهظاً؛ إذ يؤدي الإجهاد الناجم عن تغيير الاستراتيجيات إلى استنزاف طاقاتها تدريجياً، من خلال إضعاف تفاعل الموظفين وتراجع فعالية الأداء. يمكنك تفادي هذا المآل واستعادة حيوية مؤسستك ووضوح غايتها من خلال تطبيق معايير انتقائية مدروسة على المبادرات الاستراتيجية الجديدة. وسيُقابل الموظفون هذا النهج بمزيد من التفاعل، وستجني المؤسسة ثمار استراتيجية مدروسة وواعية تُلهم كوادرها البشرية دون إرهاق مواردها.